فلهذا المخلوق أوجه وألسنة وألوان. وهو مادحك وذامك حسب ما يدور في المجلس، وهو عابس لك يومًا باسم يومًا حسب ما يقدر هو أنه في مصلحته، له حاسه زائده عن حواس الناس الخمس هي سر نجاحه؛ ولهذه الحاسة خصائص: فهو يدرك بها أي نوع من الوزارات ستتولى الحكم ليحول نفسه على وفقها، ويشم بها مواطن المال في كل ظرف، ويرى بها من يجلب له النفع. فيتشكل بأشكال في منتهى الظرف والطلاوة، فإذا عدوُّه اللدود بالأمس صديقه الحميم اليوم. ويعرف بها — في مهارة عجيبة — موضع الضعف من كل إنسان يهمه! فإن كان يعبد النساء حدثه أعذب الحديث في النساء والجمال وحسن الشكل، وتفنن في ذلك ما شاء أن يتفنن حتى يملك لبه، فإذا هو طوع بنانه ومستودع أسراره. وإن كان سكيرًا حدثه الحديث الممتع في الشَّرْب والشراب، والكئوس والأكواب وآداب النديم، وما يلذ صَبوحًا وما يلذ غَبوقًا — وتعرف ما يستحسنه صاحبه فأفرط في مدحه وادعى الإعجاب به، وأن ذوقه من ذوقه وشرابه من شرابه ومزاجه من مزاجه، وأسكره من حديثه كما أسكره من كأسه، فإذا هما صديقان وثَّقت بينهما الكاس والطاس. والعمارات وجباياتها، ووازن بين أنواع العقار وكم في المئة يمكن أن تغل، وهدته حاسَّتهُ هذه أن يعمد إلى عدد من الرءوس الكبار ذوي النفوذ فينصب لهم حبالته، يعملون كلهم في خدمته على أمل أن ينالوا شيئًا من جاهه؛ فإذا هو سيد على الصغار والكبار، يقابل بالإجلال والإعظام، ويُتَملَّق من أتباعه وإخوانه، إلى جانب هذه الحقائق القليلة قدر كبير من التهويش؛ فهو يزعم أنه في كل ليلة جليس الكبراء والوزراء، ويخفض من شاء إلى أسفل سافلين — الوزارات في يده، والفرنسيون يقضون مصالحهم على يده، وبريده كل يوم من خارج القطر ينوء السعاه بحمله؛ فإذا تحرك حركة أعلنّها على الناس كما تذاع حركات الملوك، فهو مسافر إلى الإسكندرية، ومتنقل في عواصم البلدان، وعائد إلى مصر بعد أن رفع شأنها، وهل غفا قليلًا بعد الغداء أو تحدث قليلًا إلى زوجه وأولاده! حتى ليوشك — إذ لم يتعود الرفض — أن يطلب النجوم تزين غرفته، ومن غريب أمر الناس فيه أنهم يكرهونه من أعماق نفوسهم، ويمقتونه من صميم قلوبهم، فإذا لقوه فترحيبٌ وتهليل، فهو معذور إذ يشعر أن الناس مجمعون على حبه، حتى ليخشى عليهم أن يموتوا به غرامًا أو يُجَنُّوا به هُيامًا. شهدته مرة وقد أتى عملًا شنيعًا حتى كان مضغة الأفواه ومعرة القوم، وظننت أن الناس إن رأوه ازدروه — على الأقل — بعيونهم، وكلموه ببعض شفاههم، فما كان أشد عجبي أن رأيتهم — إذ حضر — قد انتفضوا من أماكنهم، ورفعوا منزلته فوق من يقدرون فضله ويجلون خُلقه. فهو — حتى في هذا — ينتفع بإعظامهم وإجلالهم، ولا يضره كرههم الذي لا يعدو قلوبهم، وماذا يضره كرهٌ محنقن وخير منه حب مصطنع؟ وماذا يضيره سب صادق في إسرار، وخير منه مدح كاذب في إعلان؟ لا شك أنه في كل ذلك ناجح حتى في الكره والذم. قال صاحبي: وهل تعد ذلك نجاحًا؟ لو كان النجاح بقضاء المصالح والأغراض والحصول على المال فحسب، ولكان أنجح الناس من حصل على المال من أقرب الوجوه، وخدم من يظنهم كبراء أو عظماء بضعة نفسه وموت حسه، بأي مقياس أخلاقي قسته لم تجده شيئًا، إن قسته بمقياس الفضيلة الباته الحاسمة لم تجده فاضلًا، وإن قسته بمقياس السعادة لم تجده سعيدًا، فإن كان الحمار أو الخنزير سعيدًا فهذا سعيد؛ وأين منه لذة ذي الضمير الحي ينعم بمواقف الشرف والنبل، هي كالنار تنضج النفس ولا تحرقها؛ أما لذة صاحبك فسم في دسم، ونار تحرق ولا تنضج وبعد قليل من حياته يفقد حتى لذة المال والجاه، وتصبح لذتهما كلذة من يتناول الحلوى صباح مساء تتهوَّع نفسه وتتقبض شهيته؛ فإن اللذة الباقية الدائمة هي لذة الروح لا الجسم، ومن عجيب أمر الروح أن لذتها لذة صافية وألمها ألم مشوب بلذة؛ ثم لذة هذا المخلوق لذة مشروطة بشروط: فهو يعتقد أن لذته مرتبطة ببقاء صاحبه في الوزارة، لأن قيمته مستمدة من ذلك كله وليست مستمدة من نفسه، وضعف الرأي العام فيها؛ وهو مثل سيىء يشجع البذور السيئة على النماء والبذور الصالحة على الخفاء. قلت: ربما كان ما تقول صحيحًا فدعني أفكر.