الحياة الثقافية وانعكست نتائج هذا الإصلاح بوضوح على هذه الناحية التي كانت بمثابة الخطوة التمهيدية لنهضة فكرية ستصل إلى أوجها في القرن الرابع والخامس الهجري، كما كان لانتشار الإسلام بين جماهير الموالى أثر فعال على الحياة الثقافية التى ابونا تبعا لإسهامات هذه الشعوب التي دخلت الإسلام وكانت من قبل الهجرة لها حضارة مزدهرة . وقد اهتم كثير من المؤرخين المحدثين بالدور الذي قام به الفرس في الحضارة الإسلامية فذكروا أنهم سيطروا على أجهزة الحكم كلها في العصر العباسي الأول واسهموا في المجال الاقتصادي والثقافي، وبرزوا في مجال الفكر كما برزوا في مجال السياسة والاقتصاد، وانتشرت ماثرهم الفكرية في العالم الإسلامي كله بنفس الوسيلة التي انتشر فيها الطراز العباسي في الفن والأسلوب الفارسي في الحياة الاجتماعية . ويرجع ذلك إلى تأثر هؤلاء المؤرخون بما ذكره ابن خلدون في هذا الصدد من خلال عبارته الشهيرة بأن أهل العلم في الأمم من العجم " وفى الحقيقة أن هذه العبارة لا تعنى بالضرورة اختصاص الفرس بالعلم من غيرهم فكثيرا ما وردت كلمة الأعاجم في المعنى لتدل على نقل غير العرب في الحركة العلمية التي نعتها بأنها حضرية، وعندنا يذكر أهل الحواضر، وهذا التقييم المادي للمعرفة واعتبار العلم بضاعة مرتبطة بالحضور وصنعة من الصنائع تكتسب بالتجربة والممارسة ينفى بشكل قاطع التفسيرات الخاطئة لآراء ابن خلدون والتي تجعله مفكرا شعوبيا، والفرس لهن دورهم الذي يبرز نسبيا ولكنه لا يطفى على هذه الشعوب ليصبح الدور الهام والأساس . لان انتشار الإسلام بشكل واسع فيما بعد خلال القرن الثالث الهجري بين أهالي البلاد المفتوحة ارتبط بإسقاط العرب من الديوان وفقدانهم امتيازاتهم السياسية والعسكرية واستقرارهم في الريف واشتعال أغلبهم بالزراعة واختلاطهم بأهل البلاد، ولعل من الظواهر البارزة في تاريخ الحياة الفكرية في العصر العباسي، وقد ساعد على ذلك عدة أمور منها: فاتخذ أتباع كل فرقة حلقة خاصة بهم في المساجد يؤمها من يشاء من أهل العلم وطلابه، ولأول مرة تتسع دائرة الدروس الملقاة في تلك الحلقات بحيث شملت الثقافة الدنيوية إلى جانب الدينية واللغوية. وكان العلماء المنصرفون إلى التدريس في هذه المساجد ينالون من عناية الخلفاء والأمراء والأثرياء الشئ الكثير، وكانوا يتخذونهم لأولادهم معلمين ومؤدبين يضاف إلى هذا انتشار مجالس المناظرة في الدور والقصور بين العلماء وفي حضرة الخلفاء الذيم يغدقون الأموال على العلماء. كان له أثره العظيم في ازدياد الرحلة إلى الأمصار، ولعل من أهم الإنجازات التقنية التي ساعدت على تقدم الحياة الثقافية انتشار صناعة الورق وتعميمها، مما كان له أثر في تعويق التدوين، ومعلوم أيضا أن أوراق البردي كانت معروفة على شكل قراطيس تصنع في مصر، لكنها كانت باهظة التكاليف، فلم تستخدم إلا في تسجيل البيانات الرسمية، واذا كان الورق قد تم استعماله في العصر الأموي في أعمال الدواوين، حتى أن الخليفة عمر بن عبد العزيز أمر بالاقتصار في استعماله في الأمور الرسمية، وكان الازدهار النشاط التجارى أقر في معرفة صناعة الورق واقتباسها من الصين حيث كانت صناعته متقدمة فيها كمااستعان المسلمون بالفننين الصينين في إنشاء وقد تمت هذه الصناعة بشكل اقتصادي حيث صنع الورق من الخرق، التدوين : ومن الظواهر التي ارتبطت بصناعة الورق ظاهره التدوين فظهرت الكتب وتم تداولها في كافة أرجاء العالم الإسلامي، لاسيما وان صناعة الوراقة قد نشطت بشكل ملحوظ، وهي صناعة كان يقوم بها أصحابها ينسخ الكتب وتصحيحها وتجليدها وانتشرت دكاكين الوراقين التي كانت تعتبر مصدرا من مصادر الثقافة في الأمصار حيث يذهب إليها المتعلمون يطالعون الكتب، وحسبنا أن بغداد وحدها اشتملت على مائة حانوت الوارقين . وصاحب ذلك ذيوع ظاهرة المكتبات واقتناء الكتب وجعلها في متناول كل طالب علم، بسبب الإتجار في الكتب واحتراف الوراقة الذين كانوا في الغالب من أهل العلم وسيوله النشاط التجاري أيضا ساعد على سهولة تداول الكتب خاصة اقتناء نوادر الكتب من خلال الرحلات التي كانوا يقومون بها، حقيقة أن العالم الإسلامي قد ضم منذ البداية مكتبات ملحقة بالمؤسسات الدينية كمدرسة الإسكندرية ومدارس السريان والأديرة، لكنها كانت مقصورة على أصحابها من غير المسلمين لكن مع هذه الانطلاقة الثقافية بدأت محاولات التنقيب والبحث في هذه المكتبات وقد تبارى الخلفاء وحكام الدول المستقلة بعد ذلك في تأسيس المكتبات واقتناء الكتب، فكان للفيلسوف الكندي مكتبة عظيمة حوت العديد من المصنفات العلمية وسميت بالمكتبة الكندية . كما تشكك طلاب المعرفة في الروايات المختزنة في صدور الحفاظ، يضاف إلى ذلك موقف المفكرين العرب من ظاهرتي الزندقة والشعوبية وخوفهم من أن يمتد الانتحال إلى تراثهم الغير مكتوب، لذا كانوا في حاجة ملحة لإحياء هذا الماضي وبعث أمجاده، كما كان ظهور الفرق الدينية من شيعة وخوارج وغيرها حافزا هاما على التدوين، إذ لجأت كل فرقة من هذه الفرق إلى التراث لتؤيد وجهه نظرها . أو وضع حدود تميز بين العلم النقلى وعلوم الأوائل، وبدأت حركة التدوين في ميدان اللغة والأدب واتجه الدارسون العرب إلى جمع مفردات اللغة العربية التي نطق بها العرب، أو من وفود كثير من الأعراب على مدن العراق أو عن طريق الاتصال بالأعراب اللذين كان منهم من يكتب ويؤلف كتبا في النوادر واللغة والنحو، كما بحثوا في الشعر الذي يستشهد به سواء جاهليا أم إسلاميا . وقد عول البعض على وضع معايير السند والآثار في المقام الأول ورتبوا ما ورد في اللغة ترتيب أهل الحديث بينما اعتمد الآخرون على أسلوب المفاضلة وفقا لتداول اللفظ . ومن جمع اللغة بعدة مراحل من جمع الكلمات حيثما اتفق، ثم جمع الكلمات المتعلقة بموضوع واحد ووضع معجم يشمل كل الكلمات على نمط خاص وتلت مرحلة الجمع والتبويب مرحلة وضع قواعد اللغة، فظهر علم النحو من خلال وضع إطار كلى يجمعها تخضع له هذه المفردات من خلال الأحكام التي تخضع لها . كما انسحب التدوين أيضا على الأدب، ولعب الخليل بن أحمد دورا هاما في حصر شعر العرب ووضع عروضه، ويرجع البعض تدوين الحديث إلى خلافة عمر بن عبد العزيز لكن التأليف الفعلي قد بدأ في منتصف القرن الثاني الهجري ففي مكة جمع الحديث ابن جريح عام 767/150م، وفي المدينة محمد بن إسحاق 151هـ/768م، ومالك ابن أنس 179هـ/ 795م، وبالكوفة ظهر سفيان الثوري 777/161م، وبمصر الليث بن سعد 791/175م، ولم يصلنا من هذه المجموعات المبكرة إلا موطأ مالك . وارتبط علم الحديث في هذه الفترة بالفقه، بسبب الحاجة العملية إلى السنة النبوية في استنباط أحكام تتمشى مع سياسة الإصلاح التي اتبعت آنذاك، وامتد التدوين إلى الفقه، وكان لكل مدرسة اتجاهها، فقهاء المدينة جمعوا فتاوى عبد الله بن عمر وعائشة وابن عباس وكبار التابعين بالمدينة، ثم بدأوا يبوبون الحديث أبوابا حسب الفقه ثم جمعوا الأحاديث المستقلة بموضوع واحد في باب واحد أما أهل العراق فكانوا أميل إلى الرأي . وتطرق التدوين إلى الأخبار والأيام والتاريخ، وحتى النصف الأول من القرن الأول الهجري كانت الدراسات التاريخية قد وضحت في عدة اتجاهات أولها كتب مغازي الرسول صلي الله عليه وسلم وسيرته، واتضح هذا الاتجاه في مدرسة المدينة كما تناولت مغازي الراشدين حتى نشأت كتبفتوح الأمصار، أما الكتابة في السيرة النبوية واتضح التأثر الواضح بعلم الحديث من خلال العناية بالإسناد وتحري الحقيقة . واشتغل بهذا الاتجاه النسابون الذين تخصصوا في تاريخ القبائل وأنسابها، لكنهم لم يمهلوا منهج الإسناد الذي تبنته مدرسة المدينة، حيث استفادوا من الخبرات السابقة في مدرسة المدينة والبصرة والكوفة والفسطاط، والأنساب والمصادر الأخرى، وقد ازدهر هذا النوع من التواريخ المحلية خاصة في ایران، كما اتضح التاريخ الحرمين، أو التاريخ لبعض المدن مع العناية بالمحدثين والفقهاء والعلماء جيلا بعد جيل . حقيقة أن بواكير حركة الترجمة بدأت في أواخر القرن الثالث الهجري وتجمعت أسباب كثيرة ساعدت على دفع عجلة الترجمة قدما إلى الأمام، كما انتقلت المؤثرات الصينية عن طريق جاليات التجار المسلمين، كل ذلك أوجد نوعا من التبادل الثقافى قام فيه اليهود بدور الوسيط كما قام الخلفاء العباسيون بدور هام في هذا الشأن فبدأت الصفقات الثقافية منذ عهد المنصور، فبعث إلى ملك الروم في طلب كتب العلم فكان من جملة ما حمل إليه كتاب اقليدس وتتابعت جهود الخلفاء بعد ذلك، فكان الخليفة المنصور يجمع حولة العلماء ويشجعهم بط على الترجمة، كما كرس المأمون بيت الحكمة في بغداد لترجمة أمهات التراث اليوناني، وعين يحيى بن مأسوية لرئاسته، وظهرت عدة أسماء في هذا المجال منهم حنين بن إسحاق وهو من أساطرة العرب، وكان كثيرا ما يترجم الكتب اليونانية إلى السريانية ثم يتولى مساعدته نقلها إلى العربية، وكذلك ثابت بن قرة وكان من صائبة حران، وكان له الفضل في ترجمة كتب اليونان في الرياضيات والفلك وقسطا بن لوفا وغيرهم . لا سيما وأن التسامح قد بلغ أوجه في هذا العصر مع أهل الذمة، حتى تقلدوا بعض المناصب الإدارية والمالية ومن مظاهر هذا التسامح على الصعيد الفكري تلك المحاورات والمساجلات التي جرت دون أذنب تعصب بين الفقهاء وأرباب الملل غير الإسلامية حول اخص المسائل العقيدية، كما كسرت الحواجز التي كانت تطوق نزعة التسامح الفكري بين الفرق الإسلامية أيضا . وأنت الترجمة إلى الانفتاح اعلى ثقافات متعددة فأستقى المسلمون الهلينية من منابعها الأصلية في جند نيسابور وحران والإسكندرية، ولقد تعدى تأثير الفكر اليوناني إلى تعاليم المتكلمة فنقلت إلى العربية بعض المفردات اليونانية،