ترك « محسن ) مسكنه في نزل ( زهرة الأكاسيا ، وكان الروسي قد اشتدت عليه وطأة المرض ؛ فلم يشأ الفتى إزعاجه بكثرة الكلام فلزم هو أيضاً حجرته ، يقطع شوارع الحي صامتاً ، ثم يعطف على باعة المأكولات يوم السوق ، يعود بهما إلى حجرته حيث يهيئ غداءه بیده ! ذلك شأنه أكثر الأيام ؛ وهو الآن لا يستطيع حتى تناول الأكل في مطعم الحي الحقير ! . الآن يدفع ثمن الأسبوعين اللذين قال إنهما ( كل زاده وكل كنزه ) واللذين قالت ( هي ) : ( إنهما شيء تتمنى لو يمحى من ذاكرتها وتود أنها لم تعشهما ) ! ووقف الفتى أمام النار فى أحد أركان حجرته ، يرقب فوران الماء يتبخر الماء فيصب غيره في الإناء . ويتبخر فيصب غيره . ما من مرة نضج معه هذا الأرز ! . أو يغير هذا اللون من الطعام . لماذا يفعل ذلك ؟ . لا يريد أن يعرف . غير أسعار ( الأرز ) مدونة على البطاقات في الحوانيت ، وغير عناوين الكتب القديمة ينظر إليها معروضة في المكاتب ، وكان أحياناً يلمح فوق غلاف بعض الكتب فقرة أو عبارة أو بيتاً من الشعر ، وضع على سبيل الاستشهاد ، فيجعل منه ( نغمة ) ، يظل فكره يرتب عليها تقاسيم ) طول النهار ، وكان يجد في هذا شيئاً من السلوى ؛ جعل في رأسه هذا القول لشاعر یابانی : إنما يبنى الشاعر سعادته على الرمال ، نعم . هنا كل البلاء الآدمى ! . ألا يمكن للنفس الشاعرة أن تقيم هناءها على دعائم أثبت قليلا من هذه الرمال ، التي تغرق فيها الإبل . التي تطويها فيشبه طرفة العين أنامل الهواء ؟ نعم هنالك سبيل واحد : لا ينبغي أن نبنى شيئاً جميلا فوق هذه الأرض ! . هذه الأرض المتغيرة المتحركةبرمالها ومائها وهوائها ! وفطن الفتى ، أن هنالك حقاً نوعاً من الهناء ، ***وأحس الفتى فعلا ؛ كأنه قد خف وزنا ، وكأنه يرتفع ، ــ ليعود إلى السماء ، ولعل « الأزر » أعانه على ذلك ؛ فإن ( الزهد ) هوسلم و الصعود ) !! . وأقبل الفتى بعدئذ على غذائه الحقير الضئيل في لذة روحية ، وبسمة راضية وضاءة ، أنارت له مسالك نفسه المظلمة ، ذلك الشيخ المتأنق ، وعيونه الكحيلة ، لا في قاعة الضريح ذاتها حيث الفرش والرياش ، والخشوع الزائف ؛ إنما فى تلك الردهة الخارجية ، وترك البعض الآخر عارياً نظيفاً ، كالنفس النظيفة العارية ! . كان يحس الفتى هنالك أنه أقرب إلى طول يومه هذا ـ يقلب مثل هذه الأفكار ، أو إلى بيت من بيوت الله . الكنيسة التي دخلها يوم تشييع جنازة زوج ابنة مدام نعم ، إن فيها أيضاً قد أحس يومئذ عين إحساس الصعود ، لتوقعه في ذلك الحرج ، الذي وقع فيه ذلك اليوم ! . نعم ، مضحكة ؛ ثم ذلك ( القمقم ) الفضي في السكنيسة ، وتلك الإشارات والعلامات ، لماذا كل هذا ؟؟ . التي استطاعت أن ترفع الإنسان إلى بعض القمم ، سرعان ما جعلوا لها ثياب سهرة ؛ وقواعد وتقاليد ؛ لا بد من مراعاتها ! . وتنقلب الأمور على مر الزمن ، فينسى الناس الأصل والجوهر ، فإذا كل التفاتهم إلى ثياب السهرة دون الموسيقى ) ، والعبادات ، ولا يستثنى من بين هؤلاء إلا الفقراء التعساء الذين جاءواحقيقة للصلاة ، التياترو ) ، إن ( الإخلاص ) للدين والفن ، وتلك ( السانفونية الخامسة ) ، التي كان قد سمعها ، وذكر ذلك الجو العلوى الذي عاش فيه ذلك اليوم ؛ فليذهب ولو أدى ذلك إلى حرمانه أكل الموز شهراً بأكمله ! . لا لزوم للفاكهة ؛ إنه يستطيع أن يكتفى بالأرز أسبوعاً . و لم يعد يخشى شيئاً ! . هو الذي كان قد حرم على نفسه ، - تلك التي أجهزت على أمله ذبحاً ، بخطاب رقيق رقة حد السكين المستون ! . نعم ، الآن . بقليل من الموسيقى يستطيع أن يعتصم بالسحب ، وذهب و محسن ) إلى مسرح ( شاتليه ، برنامجاً ، لريتشارد فاجنر ، وه السانفونية التاسعة ) لبيتهوفن ) ! . وكانت نقوده لا تسمح له بأكثر من مكان للوقوف بأعلى المسرح فما تردد ! وكان حريصاً دائما على اقتناء ذلك الكتيب الصغير الذي يباع في الردهة ؛ وبياناً عن ظروف وضعها ، ونبذاً من تاريخ مؤلفيها ؛ - فما أحجم عن شراء نسخة ، السطور : قصة المسيح ؛ إذ جاء يحمل إلى الإنسانية ، الذي يخلصها من الخطيئة ! . فاجنر ) إلى صديقه الموسيقى ( لست ) : كيف نبتت في خاطره حيث كان في مدينة تصدح فيها ير ، الذيانتظرته طويلا ! . خطر لي أن أضع هذه القطعة ! . . . وانقطع ( محسن ) فجأة عن القراءة ، ووقف ( المايسترو ) ، ينقر بعصاه الرفيعة نقرأ خفيفاً على قمة مصباحه الأخضر ؛ تنبيهاً للعازفين ، وبدأ « الأوركستر ) يعزف كأنما هو صوت واحد يتكلم ، صوت ، في عين الوقت ، إلى أن تقابلها تلك الأقوال المقدسة : خذوا ، هذا هو جسدى ! . خذوا ، واشربوا ، بين عديد من الانغام السريعة المتعاقبة ، ورنين الصناجات المكبوت ؛ و محسن » ليس على هذه الأرض ، إلى أن أشار الأستاذ ( بعصاه إشارة الانتهاء ، وانطلقت الأيدى بتصفيق كأنهالرعد ، فتنبه الفتى ، وقام الناس يدخنون في فترة الاستراحة ويتحادثون . ولمح على المسرح حركة دخول أفراد مجموعة المنشدين و الكورس ) من سيدات ورجال . ينتظمون في أماكنهم ، كي يسمع منه ، ولقد أخرج هذا العمل في تلك المرحلة من حياته - التي ابتلى فيها بالصمم - كارثة جاء ذكرها في وصيته التي كتبها في أكتوبر سنة ۱۸۸۲ م ، على أثر أزمة قوية من أزمات اليأس ، تبدو من هذه الأسطر :إلى شقيقی (کارل و « جوهان ) بيتهوفن : أنتما يا من كنتما تحسبان أني إنسان حقود عنيد أكره الناس ما أظلمكما ! . إنكما لتجهلان السبب الخفى لكل هذا الذي ظهر لكما من أمرى ! . إنى ، كنت أحس أن نفسي وقلبي يتجهان بطبعهما إلى الخير ! . لا تنسيا أنى ، منذ أعوام ستة ، أصبت بداء قاس ، زاده خطراً عجز الأطباء ! . وأنى ألفيت نفسي مرغماًعلى العزلة قبل الأوان ، آه ، كيف أعترف بهذا وأعلن للناس ضعف حاسة كان ينبغى أن تكون عندى أقوى مما عند جميع الناس ، حاسة كنت أملكها - فيما مضى - على أكمل نمو ، مما لم يتيسر مثله إلا لقليل غيرى من الموسيقيين . لهذا أرجو أن تصفحا عنى إذا كنت اليوم أهجر - كما تريان - هذا العالم ، إنى لشديد الإحساس بمصيبتي ، وإنى من أجلها ينكرنى الجميع ! . انتهت المصارحات القوية ، وتبادل المناجاة الحارة ؛ حالى الآن لا تسمح لى بارتياد المجتمع إلا بالقدر الذي تحتمه الضرورة القصوى ! . أى إذلال يجرح نفسى أحياناً ، إذ أرى إلى جانبي أحد الناس ، يصغى إلى أنغام مزمار يعزف عن بعد ، فأبدى ( بتهوفن ) جهداً مرهقاً ، فلم يستطع ، فكذب عليه ، وزعم له أنه هو أيضاً لا يسمع شيئاً ، ولكن ( بيتهوفن » فهم الحقيقة وغرق في حزن عميق ! . كانت تلقى بي على أعتاب اليأس ، ولكنه الفن وحده ، هو الذي أبقى على حياتي . إنه ليشق على ترك هذا العالم ، قبل أن أعطى كل ما أحس داخل نفسى من مخلوقات ، إنك لترين من عليائك ذلك القاع السحيق ، في أعماق قلبي ! . إنك لتعرفين أنه عامر بحب الإنسانية والرغبة في عمل الخير . يا شقيقي کارل » و « جوهان » . لم يزل حيا ، فالتمسا منه باسمى ، أن يصف دائي وأن يرفق ذلك بصفحاتى هذه ، فلعل الناس بعد موتى يصفحون عنى على الأقل . أما إساءتكما لى ، فأنتما تعلمان أني قد صفحت عنها منذ أمدبعيد . وأن تعفيا مما رزئت أنا به من متاعب ! . فهي وحدها - لا و المال ) - السبيل الحقيقي للسعادة ! . وإنى أتكلم عن تجربة ، وإليها وإلى ( فني ) يرجع كل الفضل في أني لم ألجأ إلى الانتحار . وليحب أحدكماالآخر ! . عندما أخرج سانفونيته التاسعة ) ، ولقد احتمل كل ذلك في جلد - كما قال في وصيته - ولقد خضع لحكم القدر فى شجاعة ؛ كما يقول فيمذكرات أخرى :ه الإذعان ) ، الاستسلام ؛ فلنعرف كيف نستخرج الدرس الخلقى النافع من أفدح المصائب والكوارثبذلك نجعل أنفسنا جديرين بمغفرة الله ! . يهيم في غاباتها ملتمساً منالطبيعة العزاء ، آملا أن يجد في صدرها كل قوى الحياة والخلق ، في أوراقه : وأشعر بالسعادة فى هذه الغابات ، هنا كل شجرة من هذه الأشجار تسمعنى صوتك ! . يا لها من روعة أيها المولى العظيم ! . هذه الأحراش ، وهذه الوديان ،