لغة : يطلق الفتور على معنيين : أ) الانقطاع بعد الاستمرار أو السكون بعد الحركة . ب)الكسل أو التراخي أو التباطؤ بعد النشاط والجد . جاء في لسان العرب : ويفتر فتوراً وفتاراً : سكن بعد حدة ولان بعد شدة ). اصطلاحا : أما في الاصطلاح فهو داء يمكن أن يصيب بعض العاملين بل قد يصيبهم بالفعل . قال تعالى عن الملائكة : { وله من في السموات والأرض ومن عنده لا يستكبرون عن عبادته ولا يستحسرون يسبحون الليل والنهار لا يفترون }. أي (أنهم في عبادة دائمة ينزهون الله عما لا يليق به ويصلون ويذكرون الله ليل نهار لا يضعفون ولا يسأمون ). ويمكن أن يدخل الفتور إلى النفس بسبب من الأسباب التالية : (‍1) الغلو والتشدد في الدين : بالانهماك في الطاعات وحرمان البدن حقه من الراحة والطيبات فإن هذا من شأنه أن يؤدى إلى الضعف أو السأم والملل وبالتالي : الانقطاع والترك بل ربما أدى إلى سلوك طريق أخرى عكس الطريق التي كان عليها فينتقل العامل من الإفراط إلى التفريط ومن التشدد إلى التسيب وهذا أمر بديهي إذ للإنسان طاقة محدودة فإذا تجاوزها اعتراه الفتور فيكسل أو ينقطع ولعل ذلك هو السر في تحذير الإسلام الشديد ونهيه الصريح عن الغلو ، فإن قوماً شددوا على أنفسهم فشدد عليهم ، والديارات - رهبانية ابتدعوها ما كتبناها عليهم ) ، ( أنتم الذين قلتم كذا وكذا ؟ أما والله إني لأخشاكم إلى لله وأتقاكم له ، فمن رغب عن سنتي فليس منى ) ، فوالله لا يمل الله حتى تملوا ) وكان أحب الدين ما داوم صاحبه عليه ) ، وعن ابن عباس رضى الله تعالى عنهما - قال : كانت مولاة للنبي - صلى الله عليه وسلم - تصوم النهار ، فقيل له : إنها تصوم النهار وتقوم الليل فقال - صلى الله عليه وسلم - :( إن لكل عمل شرة ولكل شرة فترة ، 2- السرف ومجاوزة الحد في تعاطى المباحات : قال تعالى :{ يا بنى آدم خذوا زينتكم عند كل مسجد وكلوا واشربوا ولا تسرفوا إنه لا يحب المسرفين } . وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم :( ما ملأ ابن آدم وعاء شر من بطنه . وقد أدرك سلف الأمة ما يصنعه السرف و التوسع في المباحات بصاحبه ، إذ تقول أم المؤمنين عائشة - رضى الله عنها - :( أول بلاء حدث في هذه الأمة بعد نبيها الشبع ، فإن القوم لما شبعت بطونهم سمنت أبدانهم ، وإن الله تعالى ليبغض الحبر السمين ، وحرمان الشفقة على الخلق - لأنه إذا شبع ظن أن الخلق كلهم شباع - وثقل العبادة - وزيادة الشهوات ، وإيثار حياة العزلة و التفرد : ذلك أن الطريق طويلة الأبعاد ، كثيرة العقبات في حاجة إلى تجديد ، ويذكره بربه فيسأم ويمل ، { وتعاونوا على البر و التقوى ولا تعاونوا على الإثم و العدوان . ولا تنازعوا فتفشلوا وتذهب ريحكم . { ولا تكونوا كالذين تفرقوا واختلفوا من بعد ما جاءهم البينات ، وإذ يقول النبي - صلى الله عليه وسلم - ( من فارق الجماعة شبراً ، ( وآمركم بالسمع و الطاعة ، ( الذي يخالط الناس ويصبر على أذاهم ، وقد أدرك سلف الأمة ذلك فلزموا الجماعة ، ويقول عبد الله بن المبارك : لولا الجماعة ما كانت لنا سبل ولكان أضعفنا نهباً لأقوانا 4- قلة تذكر الموت و الدار الآخرة : ولعلنا في ضوء هذا نفهم الحكمة من أمره صلى الله عليه وسلم - بزيارة القبور بعد النهي و التحذير ، فإنها تزهد في الدنيا وتذكر الآخرة ) كما نفهم الحكمة من حضه صلى الله عليه وسلم من تذكر الموت ، فقال رجل : يا رسول الله إنا نستحي من الله تعالى ؟ فقال : من كان منكم مستحيياً فلا يبيتن ليلة إلا وأجله بين عينيه ، وليحفظ البطن وما حوى و الرأس وما وعى وليذكر الموت و البلى ، 5- التقصير في عمل اليوم و الليلة : مثل النوم عن الصلاة المكتوبة بسبب السمر الذي لا مبرر له بعد العشاء ، ومثل إهمال بعض النوافل الراتبة ، وأدنى هذه العقوبات : الفتور بأن يكسل ويتثاقل أو ينقطع ويتوقف . وقد أشار النبي صلى الله عليه وسلم - في حديثه إلى شئ من هذا إذ يقول : ( يعقد الشيطان على قافية رأس أحدكم إذا هو نام ثلاث عقد : يضرب كل عقدة ، 6- دخول جوفه شئ محرم أو به شبهة : إما بسبب تقصيره وعدم إتقانه للعمل اليومي الذي يتعيش منه ، ولعل هذا هو سر دعوة الإسلام إلى أكل الحلال وتحريه ، { يا أيها الناس كلوا مما في الأرض حلالاً طيباً ولا تتبعوا خطوات الشيطان ، { فكلوا مما رزقكم الله حلالاً طيباً واشكروا نعمة الله إن كنتم إياه تعبدون } { يا أيها الرسل كلوا من الطيبات واعملوا صالحاً ، وإذ يقول النبي صلى الله عليه وسلم :( كل جسد نبت من سحت - أي من حرام - فالنار أولى به ) ( الحلال بين و الحرام بين وبينهما أمور مشتبهة فمن ترك ما يشتبه عليه من الإثم كان لما استبان أترك ، من يرتع حول الحمى يوشك أن يواقعه ) (دعما يريبك إلى ما لا يريبك ) ، فكانوا يفتشون ويتحرون عن كل ما يتعلق بحياتهم من الطعام و الشراب واللباس و المركب . الخ وإذا وجدوا شيئاً شابته شائبة أو أدنى شبهة اجتنبوه ، عن عائشة - رضى الله تعالى عنها - قالت :( كان لأبى بكر الصديق - رضى الله تعالى عنه - غلام يخرج له الخراج ، فجاء في يوم بشيء فأكل منه أبو بكر فقال له الغلام : أتدرى ما هذا ؟ فقال أبو بكر وما هو ؟ ؟ قال : كنت تكهنت لإنسان في الجاهلية ، 7- اقتصار العامل على جانب واحد من جوانب الدين : كأن يجعل همه العقيدة فحسب ، أو يقتصر على فعل الخيرات وراعية الآداب الاجتماعية ، غاضاً الطرف عما عداها فكل هؤلاء وأمثالهم تأتى عليهم أوقات يصابون فيها لا محالة بالفتور ، نظراً لأن دين الله موضوع لاستيعاب الحياة كلها ، ثم إذا بلغ الذروة في هذا البعض يتساءل : وماذا بعد ؟ فلا يجد جواباً سوى الفتور إما بالعجز وإما بالكسل . ولعل ذلك هو أحد أسرار الدعوة إلى أخذ منهج الله كلاً بلا تبعيض ، { يا أيها الذين آمنوا ادخلوا في السلم كافة ولا تتبعوا خطوات الشيطان إنه لكم عدو مبين } ، لما يكنه لكم من العداوة و البغضاء فيصرفكم عن منهج الله بالكلية ، 8- الغفلة عن سنن الله في الكون و الحياة : فإننا نرى صنفاً من العاملين لدين الله يريد أن يغير المجتمع كله - أفكاره ومشاعره ، وتقاليده وأخلاقه وأنظمته الاجتماعية والسياسية والاقتصادية في يوم وليلة بأساليب ووسائل هي إلى الوهم والخيال أقرب منها إلى الحقيقة و الواقع ، 9-التقصير في حق البدن بسبب ضخامة الأعباء وكثرة الواجبات وقلة العاملين : ذلك أننا نجد بعض العاملين ينفقون كل ما يملكون من جهد ووقت وطاقة في سبيل خدمة هذا الدين ، ضانين على أنفسهم بقليل الراحة و الترويح فهؤلاء وأمثالهم ، ولعل هذا هو سر تأكيده - صلى الله عليه وسلم - على حق البدن مهما تكن الأعذار و المبررات إذ يقول :" إن لربك عليك حقاً ، وإن لنفسك عليك حقاً ولأهلك عليك حقاً فأعط كل ذي حق حقه " وفي رواية أخرى :" فإن لجسدك عليك حقاً ، 10- عدم الاستعداد لمواجهة معوقات الطريق : ذلك أننا نجد بعض العاملين يبدءون السير في الطريق دون أن يقفوا على معوقاته ، وقد يحدث أن يصدموا أثناء السير بهذه المعوقات ، وهذا سر تنبيه القرآن الكريم ، { ألم * أحسب الناس أن يتركوا أن يقولوا آمنا وهم لا يفتنون * ولقد فتنا الذين من قبلهم فليعلمن الله الذين صدقوا وليعلمن الكاذبين } ، 11-صحبة ذوى الإرادات الضعيفة و الهمم الدانية : فقد يحدث أن يصحب العامل نفراً ممن لهم ذيوع و شهرة ، ( إنما مثل الجليس الصالح و الجليس السوء كحامل المسك ونافخ الكير ، 12- العفوية في العمل سواء على المستوى الفردي أو الجماعي : ذلك أن كثيراً من العاملين أفراداً كانوا أو جماعات يمارسون العمل لدين الله بصورة عفوية لا تتبع منهجاً ، فيقدمون الأمور الثانوية أو التي ليست بذي بال ويؤخرون بل ويهملون الأمور الرئيسية و التي لابد منها من أجل التمكين لدين الله ، ولعلنا في ضوء هذا نفهم سر وصيته صلى الله عليه وسلم لمعاذ لما وجهه إلى اليمن إذ قال له : إنك تأتى قوما من أهل الكتاب ، فإن هم أطاعوك لذلك فأعلمهم أن الله افترض عليهم صدقة تؤخذ من أغنيائهم وترد في فقرائهم ، إن الحديث قاعدة رئيسية في منهجية العمل ، 13- الوقوع في المعاصي و السيئات ولاسيما صغائر الذنوب مع الاستهانة بها : فإن ذلك ينتهي بالعامل لا محالة إلى الفتور ، { وما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم ويعفو عن كثير } وصدق رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي يقول :( إياكم ومحقرات الذنوب ، فجعل الرجل ينطلق فيجيء بالعود و الرجل يجيء بالعود حتى جمعوا سواداً ، فذلك الران الذي ذكره - عز وجلّ - { كلا بل ران على قلوبهم ما كانوا يكسبون } . تلك هي الأسباب التي توقع في الفتور غالباً . وللفتور آثار ضاره ، لذا كان من دعائه صلى الله عليه وسلم :( اللهم إني أعوذ بك منالهم و الحزن وأعوذ بك من العجز والكسل ، ( اللهم اجعل خير عمري آخره اللهم اجعل خواتيم عملي رضوانك ، اجعل خير عمري آخره وخير عملي خواتيمه ، وكان من بشرياته لأمته :( إذا أراد اله بعبد خيراً استعمله ، وكان من وصيته لها :( إن العبد ليعمل بعمل أهل النار ، ( لا تعجبوا لعمل عامل حتى تنظروا بم يختم له ) إذ مضت سننه سبحانه : ألا يعطى النصر و التمكين للكسالى و الغافلين و المنقطعين ، { إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات إنا لا نضيع أجر من أحسن عملاً } { إن الله مع الذين اتقوا و الذين هم محسنون } { و الذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا وإن الله لمع المحسنين } ولما كان الفتور يؤدى إلى الآثار و المخاطر التي ذكرنا لزم التحرز و التطهر منه ويستطيع العاملون التحرز و التطهر منه على النحو التالي : 1- البعد عن المعاصي و السيئات كبيرها وصغيرها ، 2- المواظبة على عمل اليوم و الليلة : من ذكر ودعاء وضراعة ، ومناجاة ولاسيما في وقت السحر ، فإن ذلك كله مولد إيماني جيد ، { وهو الذي جعل الليل و النهار خلفة ، وقال النبي صلى الله عليه وسلم :( من نام عن حزبه من الليل ، 3- ترصد الأوقات الفاضلة و العمل على إحيائها بالطاعات ، وكان يحجره من الليل فيصلى فيه فجعل الناس يصلون بصلاته ، ويبسطه بالنهار فثابوا ذات ليلة فقال :( يا أيها الناس عليكم من الأعمال ما تطيقون ، وإن أحب الأعمال إلى الله ما دووم عليه وإن قل ) وكان آل محمد صلى الله عليه وسلم إذا عملوا عملاً أثبتوه . وعن أبى هريرة رضى الله عنه قال - قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :( فإذا نهيتكم عن شئ فاجتنبوه وإذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم ) . وعدم اعتزالها أو الشذوذ عنها بحال من الأحوال ، وحسبنا قوله صلى الله عليه وسلم :( الجماعة رحمة و الفرقة عذاب ) ، 6- الانتباه إلى سنن الله في الإنسان والكون { فلن تجد لسنة الله تبديلاً ولن تجد لسنة الله تحويلاً } من استفراغ الطاقة وبذل الجهد الإنساني أولاً { ذلك ولو يشاء الله لانتصر منهم ولكن ليبلوا بعضكم ببعض } ، فكان جواب الأب الفقيه :( لا تعجل يا بنى فإن الله ذم الخمر في القرآن مرتين ، وإني أخاف أن أحمل الناس على الحق جملة فيدعوه جملة فيكون من ذا فتنة ) . ويكون الاستعداد لمواجهتها و الغلب عليها فلا يبقى مجال لفتور أو انقطاع . 8- الدقة و المنهجية في العمل على معنى مراعاة الأولويات وتقديم الأهم ، 9- صحبة الصالحين المجاهدين من عباد الله : إذ أن هؤلاء لهم من الصفاء النفسي والإشراق القلبي ، ( ألا أخبركم بخير الناس ؟ قالوا : بلى يا رسول الله ، فقد دخل مرة المسجد فرأي حبلاً ممدوداً بين ساريتين ، وقال أيضاً : إذا نعس أحدكم وهو يصلى فليرقد حتى يذهب عنه النوم ، أو القيام ببعض الرحلات النهرية للتجديف ، أو الصحراوية للتمرس و التعود على مواجهة مشاق الحياة ، و الضيعات ونسينا كثيراً فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم :( والذي نفسي بيده لو تدومون على ما تكونون عندي و في الذكر لصافحتكم الملائكة على فرشكم ، 12- دوام النظر و المطالعة في كتب السيرة و التاريخ و التراجم ، { لقد كان في قصصهم عبرة لأولى الألباب } وعلى سبيل المثال حين يقرأ المسلم عن عمر بن عبد العزيز أنه كان إذا فتر في الوقت من صلاة الفجر إلى طلوع الشمس وارتفاعها قليلاً أخذ يدور في صحن بيته ، وكيف تنام العين وهي قريرة ولم تدر أي المحلين تنزل حين يقرأ المسلم ذلك تتحرك مشاعره وأحاسيسه فينشط ويجاهد نفسه ليكون ضمن قافلة العاملين المجاهدين . وخير وسيلة لتذكر الموت الذهاب إلى القبور - ولو مرة كل أسبوع - وزيارتها للاعتبار بأحوال أهلها :( كنت نهيتكم عن زيارة القبور ، = وجاء عن ابن السماك الواعظ : أنه كان قد حفر حفرة في بيته كأنها قبر ، { رب ارجعون لعلى أعمل صالحاً فيما تركت . وبعد طول استغاثة وطلب يجيب نفسه ، وينادى بأعلى صوته :( عجبت من الجنة كيف ينام طالبها ، ثم يقول : { أفأمن أهل القرى أن يأتيهم بأسناً بياتاً وهم نائمون } ) . إذ العلم حياة القلوب وربما سمع العامل كلمة من عالم صادق مخلص ، { إنما يخشى اللهَ من عباده العلماءُ } ، 16- أخذ هذا الدين بعمومه وشموله ، فإن ذلك يضمن الدوام والاستمرار ، { يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله ولتنظر نفس ما قدمت لغد واتقوا الله إن الله خبير بما تعملون .