بقلم: مصطفى لطفي المنفلوطي .. أفضل ما سمعتُ في باب المروءة والإحسان أنَّ امرأةً بائسةً وقفت ليلة عيد من الأعياد بحانوت تماثيل في باريس يطوِّقو الناس في تلك الليلة لابتياع اللعب لأطفالهم الصغار، بل لأنها كانت تنظر إليو بعين ولدىا الصغير الذي تركتو في منزلها ينتظر عودتها إليو بلعبة العيد، كما وعدتو، فأخذت تساوم صاحب الحانوت فيو ساعة، والرجل يغالي بو مغالاة شديدة، فساقتها الضرورة التي لا يقدِّرىا إلاّ من حمل بين جنبيو قلباً كقلب الأم، ولا يشعر بمكانها، ثم رجعتْ أدراجها وقلبها يخفق في آن واحد خفقتين مختلفتين: خفقةَ الخوف من عاقبة فِعلتها، ثم تركها وشأنها، وذىب إلى مخفر الشرطة فجاء منو بجنديين للقبض عليها، وصعدوا جميعاً إلى الغرفة التي تسكنها، ففاجأوىا وىي جالسة بين يدي ولدىا تنظر إلى فرحو وابتهاجو بتمثالو نظرات الغبطة والسرور، وىجم الرجل على الولد فانتزع التمثال من يده، فصرخ الولد صرخةً عظمى، لا على التمثال الذي انتزع منو، بل على أمو المرتعدة بين يديو، فانتفض انتفاضةً شديدةً، وصعب عليو أن يترك ىذه الأسرة الصغي رة المسكينة حزينةً منكوبةً في اليوم الذي يفرح فيو الناس جميعً ا، فإني لا أبيعُ ىذا النوعَ من التماثيل، فشكرت لو فض لَو ومروءتو، ولم يفارقهما حتى أسدى إليهما من النعم ما جعلَ عيدىما أسعدَ وأىْناَ ممّا كانا يظنان. ولأولادىم اللعب والتماثيل، ثم ناموا ليلتهم نوماً ىادئاً مطمئنا تتطاير فيو الأحلام الجميلة حول أسرتهم، يئنون في فراشهم أنيناً يتصدع لو القلب، ويذوب لو الصخر، حزناً على أولادىم الواقفين بين أيديهم، يسألونهم بألسنتهم وأعينهم: ماذا أعدوا لهم في ىذا اليوم من ثياب يفاخرون بها أندادىم، ولعب جميلة يزينون بها مناضدىم؟ فيعللونهم بوعود يعلمون أنهم لا يستطيعون الوفاء بها. فهل لأولئك السعداء أن يمدُّوا إلى ىؤلاء الأشقياء يد البرِّ والمعروف، إنَّ رجلًا يؤمنُ بالله ورسلو، ويحمل بين جنبيو قل بًا يخفق بالرحمة والحنان ، في طريقو إلى معبده، أو منصرفو من زياراتو، دامعة العين أن تتوارى وراء الأسوار والجدران خجلاً من أثوابها وصواحبها أن تقع أنظارىنَّ على بؤسها وفقرىا، فلا يجد بدا من أن يدفع عن نفسو ذلك الألم بالحنوِّ عليها، وعلى بؤسها ومتربتها، لأنو يعلم أن جميع ما اجتمع لو من صنوف السعادة وألوانها لا يوازي ذرة واحدة من السعادة التي يشعر بها في أعماق قلبو، عندما يمسح بيده تلك الدمعة المُترقرقة في عينيها.