إن الكتابة الأدبية هي ابتكار متجدد في طرق التعبيرو كسرا للرتابة و الأشكال النمطية ، بذلك تتحقق لها الطرافة و تقطع مع السائد ر يعد كتاب كليلة و دمنة الذي ترجمه ابن المقفع عن الفارسية مثالا للكتابة التي تنشد الطرافة في شكلها و مقاصدهاو هذا ما يقر به أحد الدارسين في قوله ” الحكاية المثلية هي حكاية رمزية ظاهرهاإمتاع أما باطنها فإقناع وإصلاح” يعتبر القص على لسان الحيوانات ممتعا في حد ذاته لأنه قص عجيب يخترق حدود العقل و يدخل بنا في عالم خيالي يصبح فيه الحيوان و بديلا للإنسان. ومن مظاهر هذه المتعة متعة الكتابة ينجزها ابن المقفع: فالكاتب قد جعل ظاهر الحكاية تسلية وهزلا وباطنها حكمة و علما وهنا يقول ابن المقفع: ” وقد جعل هذا الكتاب حكمة ولهوا ، فاختاره الحكماء لحكمته والأغرار للهوه .أما متعة الحكاية وهي المتعة المتأتية من القصص على لسان الحيوانات بكل بما فيها من خيال عجيب في مستوى الأحداث: أبطالها حيوانات تمارسها في تشويق وإثارة ،فقصة دمنة في باب” الأسد والثور” تتوفر على مختلف شروط المتعة تناظرا في الاحداث واسترسالا في الوقائع وتشويقا للقارئ ،في مستوى البناء القصصي :تتولد المتعة من بنية القص حيث تتداخل عوالم الحكاية استنادا الى التضمين مرة والتداول مرة أخرى أوالتوازي أيضا ، فكلما شرع الكاتب في حكاية إلا وعلقها ليفتح حكاية ثانية ضمنها أو بالتوازي معها فتسحبنا إلى عالمها ،وتتضاعف القصصية و تزداد متعة القارئ فإذا به بين أروقة الحكاية من متعة إلى أخرى . والمثال على ذلك ما ورد على لسان دمنة وهو يحاور الأسد فيعرض عليه في سياق الاستدلال على أطروحته قصة القملة البرغوث ” ويقال : إن استضافك ضيف ساعة من نهار وأنت تعرف أخلاقه ، فلا تأمنه على نفسك ولا تأمن أن يصلك منهفكلما حضرت القصة المضمنة تأجلت الأحداث الاصلية فيتضاعف الانتظار والتوقع تصورا لنهاية الثو ، ثم نهاية دمنة أما على مستوى الحبكة القصصية فمن مظاهر المتعة التي يثيرها الحيوان ، ما يتولد في تضاعيف الأحداث ، حيث تتعدد المآزق و تتعاقب الأزمات تعاقبا عليا ، ففي باب ” الحمامة المطوقة ” اعتمد ابن المقفع ثنائية الأزمة والحل ليعمق من المتعة .فكانت الورطة في وقوع الحمام في الشرك ، و تتولد عنها و ورطة ثانية بملاحقة الصياد للحمامات أما الحل فهو في الطيران في الأخير و الاستعانة بالجرذ سبيلا للنجاة النهائيةأما في باب ” الحمامة والثعلب ومالك الحزين” يتولد التشويق من القص بالتداول إذ يحتال مالك الحزين لتخليص الحمامة من الثعلب ، ثم يقع ضحية لحيلة الثعلب ، فتتحقق المتعة والعبرة في أن واحد .ولقد قصد ابن المقفع الى غرض الهزل والمتعة لجذب القراء نحوه ، وهو الغرض الأول من أغراضالتأليف الأربعة اذ يقول : ” قصد فيه إلى وضعه على ألسنة البهائم غير الناطقة من مسارعة أهل الهزل الى قراءته فتستمال به قلوبهم لأن هذا هو الغرض بالنوادر من حيل حيواناتإن القص على لسان الحيوان إذن أكثر امتاعا منه على لسان الإنسان لأن القارئ بقدر ما يشحذ خياله بمتعة الحكاية فهو يروض ذهنه باقتناص مظاهر الحكمة و يهذب سلوكه بعبرة النهاية ، فيجمع متعة وفائدة في الوقت نفسه .فما أوجه الإقناع و الإصلاح في كتاب “كليلة و دمنة”؟أوجه الإقناع و الإصلاح في كليلة ودمنة يحيل الحديث عن الإقناع في الحكاية المثلية على النزعة الحجاجية التي اعتمدها ابن المقفع وسيلة للتأثير في المتلقي وخروجا به عن التلقي السلبيإلى تعديل وجهة نظره أو زيادة اعتقاده في الظاهرة التي تعالجها الحكاية فالحكاية المثلية هي حكاية ذات أطروحة. استجابة لما يطلبه الملك و يراه جديرا بالاهتمام في ما يخص آداب تدبير : إن القصة على لسان الحيوان لا تأتي جزافا و إنما هي لذلك تفتتح القصص بالعبارة المأثورة ” اضرب لي مثل ….”. فالإقناع هو هدف من أهدافهذه القصص بل هو مقصده الرئيسي. يتجلى الإقناع كذلك في الحكاية المثلية من خلال التدرج في عرض الأطروحة عرضا تقريرياعلى سبيل الحكمة، ثم عرضها عرضا قصصيا بقدر ما يمتع السخفاء فإنه يقنع العقلاء.أولا ولتحقيق هذا الإقناع لا بد من توفير بقية مكونات الخطاب الحجاجي : أما في القصة الفرعية فيتجلى الحجاج تحاورا بين الشخصياتالحيوانية للإقناع بالأطروحة التي يكون عليها مدار الأحداث ،مثل دفاع دمنة عن نفسه من تهمة قتل أو إقناع مالك الحزين للحمامة بحسن استخدام نفسها .و يتجسد ذلك من خلال القصة المقترحة في كل باب ومثال ذلك في باب “الحمامة والثعلب ومالكولا يراه لنفسه، ..* من مظاهر الإقناع كذلك تولد الحكمة على لسان الحيوان و يعود ذلك إلى إخراجها في لغة فنيةبعيدا عن الوعظ والتوجيه ،فتكون بمثابة العبرة المستخلصة من المثل المطروح. فيقول دمنة إثراستعراض أطوار القصة ” وإنما ضربت لك هذا المثل لتعلم ان صاحب الشر لا يسلم من شره أحد ،وان هو ضعف عن ذلك جاء الشر بسببهأوجه النقد والإصلاح : لئن استند الإقناع إلى أطروحة و حكاية و حكمة يتم استخلاصها في نهايةالمثل فإنه لا يقف عند هذا الحد و إنما يتعداه إلى طلب الغاية العملية و ذلك بتحقيق الوظيفةالإصلاحية التربوية و السياسية وهي الرسالة التي يهدف ابن المقفع إلى تحقيقها لتغيير الواقع ومعاجةظواهره الوظيفة التربوية: يهدف ابن المقفع إلى جعل القارئ يتعلم بعض القيم الأخلاقية و الاجتماع لتعويض القيم الفاسدة المنتشرة في الواقع و ترسيخ قيم سامية .تدور عليه كل هذه القيم التي دعا إليها ابن المقفع. فالأخلاق و المجتمع لا يصلح حالهما إلا إذا استخدمالإنسان عقله استخدامها ناجعا في الحياة العملية، استخداما يعود على صاحبه و على المجتمع عامةبالنفع في المعاش و المعاد. وخير مثال على ذلك الحمامة المطوقة . ونبه ابن المقفع في المقابل منعاقبة سوء استخدام العقل حتى لا يكون مصير الإنسان مثل مصير مالك الحزين ” ياعدو نفسه ترىو تعجزعن ذلك لنفسك حتى يتمكن منك عدوك– و لا تخلو هذه القصص كذلك من دعوة إلى نبذ القيم الفردية مثل الأنانية والنفاق و الوصوليةو الانتهازية و الكذب و دعا في مقابل ذلك تصريحا أو تلميحا إلى ضرورة الصدق و حسن الخلقوالتعاون و التضامن و الإيثار .* الوظيفة السياسية:و تمثل أبعد الغايات و أكثرها أهمية و خطورة فهي ثاوية في عمق الدلالة لايشف عنها النص القصصي إلا بمقدار .و يهدف ابن المقفع من ورائها أن يجلس من المنصور كماجلس الفيلسوف من الملك لفضح مساوئ الاستبداد و الانفراد بالرأي و تداخل السلط و العمل بالظنو يدعو في المقابل إلى حكم رشيد يعتمد على المشورة و إعمال العقل و اصطفاء الرجالالتأليف جزئي :تتمحور مظاهر الإقناع و الإصلاح في “كليلة ودمنة” إذن حول الخطة الحجاجية كما تكمن فيما يمرره ابن المقفعمن مواقف نقدية عبر ثنايا القصص وقد اتخذ من المقصد التعليمي سبيلا لتحقيق ذلك.– على هذا النحو يبدو لنا التكامل بين مختلف الوظائف و المقاصد في الحكاية المثلية. فتتحقق الوظيفةالأغرار، وتتحقق الوظيفة التأثيرية الإقناعية من خلال المسار الحجاجي الذي سلكته الحكاية استدلالاعلى الحكمة. و تتحقق الوظيفة المرجعية من خلال الرسالة النقدية والفكرية التي يدعو ابن المقفع إلىتحقيقها في مجتمعه و إخراجها من المجازإلى الحقيقة و من حيز الإمكان إلى حيز الوجود.يتحقق مفهوم العقل كما يراه ابن المقفع بمرجعيته الإسلامية الفارسية.– فالحكاية المثلية شكل أدبي ذو طبيعة رمزية فلا قيمة لظاهرها الهزلي إلا بباطنها الجاد,