بينما كانت تعني على الصعيد الثاني انتظام العمال في جميع أنحاء العالم فيما كان يسمى بـ"الأممية البروليتارية". الذي تمتد جذوره في أعماق التاريخ، كالمنظمات الأهلية العربية التي عقدت مؤتمرها الثاني في شهر مايو الأخير بالقاهرة الخ… أقول برزت هذه المنظمات غير الحكومية لتقدم نفسها كـ"قطاع ثالث" بين الدولة والسوق، دور إنساني بالأساس فإن من المهام الملحة، كما كان الأمر من قبل، *** إن من المظاهر الرئيسية في الدولة العربية الحديثة أنها ورثت دولة المستعمر أو قامت على غرارها، بالقدر الذي يخدم مصالحه الاستعمارية والاقتصاديةوالاستراتيجية. إذا هو تذكر الحالة التي كانت عليها -عند نهاية الحرب العالمية الثانية وبدايات الاستقلالات الوطنية- كل من مصر وسوريا ولبنان والعراق من جهة، وهكذا تكرست ثنائية صميمة في الوطن العربي ككل كما في كل قطر من أقطاره، وأصبحت دولة الاستقلال -سواء دولة القبيلة أو دولة الحزب الوحيد أو دولة التعددية الطائفية أو دولة الديموقراطية المشوهة- مطبوعة بهذه الظاهرة، هل ستساعد كل من الخوصصة والعولمة على التخفيف من وقع هذه الازدواجية والانشطار والتفاوت العريض بين الفئات والنخب -وهذا ما أصبح يشكل قوام التخلف في المجتمعات العربية- أم أنهما ستزيدان هذا النوع الجديد من التخلف استشراء وتجذرا؟ فإن المسألة الأساسية بالنسبة لموضوعنا ليست مسألة اختيار إيديولوجي بل مسألة النتائج العملية. فعلا، لقد تمكنت النظم الرأسمالية الليبرالية في كثير من الأقطار الغربية من التخفيف من حدة الأزمة التي كانت تهدد الرأسمالية بالانفجار في أواخر القرن الماضي وأوائل هذا القرن، والعلاقات مع الخارج كانت تتم عبر الحماية الجمركية وخدمة المصالح الاقتصادية والاستراتيجية في "ما وراء البحار". ولنقل فشل القطاع العام، ومع ذلك فإن الشيء الذي يجب أن لا يغيب عن أذهاننا هو أن القطاع العام ولنقل الدولة الوطنية، فمن خلال القطاع العام استطاعت الدولة الوطنية في كثير من الأقطار العربية التخفيف من وطأة البطالة وتقديم خدمات اجتماعية هامة، وإنشاء مشاريع وطنية كان من جملة أهدافها استيعاب أكثر ما يمكن من اليد العاملة. ما مصير مئات الآلاف من العمال والموظفين الذين يصبحون فائضين عن الحاجة مع تصفية القطاع العام ونقل أملاكه ومؤسساته إلى القطاع الخاص؟ ومن جهة أخرى، ما مصير الخدمات الاجتماعية العامة التي كانت توفرها الدولة الوطنية صاحبة القطاع العام لجميع المواطنين، جواب واحد يتراءى في الأفق وتؤكده يوميا عملية الخوصصة نفسها: تسريح العمال بالآلاف وتقليص أو إلغاء مجالات المجانية في التعليم والصحة وغيرهما. ليس في مستطاع القطاع الخاص في الأقطار العربية -على الأقل في المدى المنظور- إيجاد حلول حقيقية ناجحة للمشاكل الاجتماعية التي فشل القطاع العام في حلها حلا جذريا. ذلك لأنه يفتقر إلى الاستقلال وإلى الدولة القومية الحامية المعينة وإلى الموارد الخارجية المساعدة الخ، وإذن فإن أول مظاهر العولمة هو تركيز النشاط الاقتصادي على الصعيد العالمي في يد مجموعات قليلة العدد، إذ ارتفعت استثماراتها في جميع أنحاء العالم وفي المدة ما بين 1983-1992 بوتائر سريعة جدا: أربع مرات في مجال الإنتاج وثلاث مرات في مجال المبادلات العالمية. وهكذا -وعلى سبيل المثال فقط- فإن حاملي نفس الشهادة العلمية لا يحصلون على نفس الراتب ولا على نفس الدخل. ونفس الظاهرة تستشري اليوم، إنه منطق المنافسة في إطار العولمة والخوصصة، المنطق الذي يفرض تسريح العمال والموظفين والتقليص من مناصب الشغل إلى أقصى حد ممكن. وفي هذا الصدد تطلعنا الإحصائيات على حقائق مهولة. إن التقدم التكنولوجي يؤدي في إطار العولمة والخوصصة إلى ارتفاع البطالة مما سيؤدي حتما إلى أزمات سياسية. ولننظر إلى حال الطفولة في عالم اليوم. ويقدمون يدا رخيصة للمصانع فيتقاضون أدنى الأجور في معامل المنتوجات الاستهلاكية كالأقمشة والأحذية التي تُصدَّرٌ إلى المتاجر الكبرى في العالم. والذي لا مردودية له لا حق له في الحياة. "وبين الذين يعيشون من لا شئ والذين يعيشون في الغنى والرفاه هناك أطفال لديهم أكثر قليلا من لا شئ وأقل كثيرا من كل شئ. بل يعاملون في كثير من الجهات معاملة أقسى وأفظع من المعاملة التي كانت تميز نظام العبودية في أثينا وروما قبل خمسة وعشرين قرنا. جسميا وعقليا ونفسيا، تعتاده وتألفه كما يعتاد الإنسان ويألف الأشياء اليومية المكرورة. أما اليوم فالأمر يختلف، دون أن تكون لها مصالح خاصة. التي تخترق الحياة البشرية في كل مكان، ولذلك أرى أنه من الضروري العمل داخل هذا النظام نفسه واستعمال وسائله وأدواته للتأثير على مساره واتجاهه.