فعمرها يكاد لا يتجاوز السبعين عاما في حين أن الأدب من أقدم الفنون ، فلدينا نصوص أدبية يزيد عمرها على الأربعين قرنا ، فضلا عن المحاولات الشفاهية التي سبقتها ولم تصل إلينا . لذلك كانت للأدب تقاليده الفنية الراسخة ، ومقاييسه الجمالية المصطلح عليها ، في حين أن السينما ما زالت تفتقر إلى مثل هذه التقاليد والمقاييس .ولعل غلبة العنصر الصناعي على السينما وما يترتب عليه من قيم تجارية سوقية هو السبب الرئيسي لتخلفها الفني والفكري ، ونفور عدد غير قليل من كبار الأدباء والمفكرين عنها ، فالمنتج الذي يملك وسائل الإنتاج السينمائي ويقوم بتمويله ، ومن ثم يضع في اعتباره أولا وقبل كل شيء متطلبات السوق ، ورغبات الجماهير الضخمة ومستوى فهمها ، الذي اصطلح على أنه لا يزيد على مستوى صبي مراهق في الرابعة عشرة من عمره !عقلية القطيع ( 2 )ومن هنا كان نفور معظم منتجي السينما على كل ما يتصل بالثقافة والفن الأصيل ، وحرصهم على حشد أفلامهم بكل أنواع التسليات والمثيرات ، واللقطات الخليعة ، التي ترضي فضول الجماهير العريضة في كل أنحاء العالم ، وتحرك غرائزها ولا تتطلب منها جهدا فكريا من أي نوع ، وتلهيها عن مشاكل حياتها الواقعية ، والمتخلفة منها بصفة أخص ، وبين الشباب بصورة أوضح . بل يوجهون إليها أقسى النقد ، ويحذرون من أخطارها على الثقافة والحضارة بعد أن لاحظوا عزوف الجماهير عن القراءة الجادة النافعة ، وإقبالها الشديد على مشاهدة السينما والتلفاز والاستماع إلى المذياع ، وكلها لا تتطلب جهدا كبيرا في متابعتها ، وقلّ أن تقدم زادا ثقافيا حقيقيا .ويرى هؤلاء المفكرون أن البشرية مهددة بكارثة كبرى تتمثل في إعراض الجماهير عن الكتاب بعد أن أخذت تشبع حاجتها إلى المعرفة والتسلية عن طريق السينما والمذياع والتلفاز .ويرون أن الرجل المتوسط لم يعد يجد متسعا من الوقت ، ولا مالا كافيا بل ولا عزما مثابرا ليرضي حاجاته الروحية ، فقدرته على الانتباه والاستطلاع والفراغ تستغرقها اليوم آلات قوية الأثر هي التلفاز والمذياع والسينما ، حيث تختلط الأخبار بالمعارف والتسلية بالعلم ، فتسهم في تكوين شخصية الإنسان المعاصر في نفس الوقت الذي تسليه فيه . وعندهم أن هذه الآلات لا يمكن أن تقدم ثقافة خصبة لسببين :عقلية القطيع ( 3 )أولهما : أن كل ثقافة حقيقية هي ” اختيار ” و ” مجهود ” ، وأنت لا تختار ما تسمعه في المذياع ولا ما تراه في السينما أو التلفاز ، فلا بد لك من معاودة قراءتها لتكتشف معانيها الدفينة ، وتفكر فيها ، فتستوحي منها آراء جديدة تخصب نفسك وتوسع آفاق المعرفة أمامك ، وكل هذا مستحيل وأنت تستمع إلى المذياع الذي يتدفق كالسيل حاملا إليك أخلاطا من كل شيء أو أنت تشاهد فيلما سينمائيا أو تلفزيونيا بصوره الخاطفة المتلاحقة التي لا تتوقف أبدا .أما ثاني الأسباب : فهو أن هذه الوسائل الآلية العامة ستنتهي إلى قتل الروح الفردية في البشر ، لأن كل الناس يسمعون نفس الأحاديث بالمذياع ويشاهدون نفس الأفلام ، فينتهي بهم الأمر إلى أن يصبحوا نسخا متشابهة لا أصالة فيها ، حتى لتصبح عقليتهم أقرب لعقلية القطيع الذي يسهل قياده .