و أسهم في مجالات أوسع لما أتيح له من مقومات جعلته يفوق الشعر، و ذلك أن كتاب الله نفسه نزل نثرا فوضع أسسا للفنون النثرية لم يكن للعرب قبل بها. فكانت آيات القرآن الكريم حين تبلغ مسامع القوم على يد الرسول صلى الله عليه و سلم تبهر جهابذة الفصاحة و تعجز أساطين البيان، فسار بين الأقوام - يخاطبهم بأسلوب يشق حجب الجهل و الوثنية التي رانت على أذهانهم و قلوبهم، و بذلك انتشلها من غياهب الضياع الديني إلى نور الإسلام الذي امتد شعاعه إلى مشارق الأرض و مغاربها و الرسول - صلى الله عليه و سلم - لم يقل شعرا قط فكان النثر وسيلته في إقناع الناس و تبليغهم الرسالة، و بذلك اكتسب النثر العربي و لاسيما الخطابة بعدا جديدا أضيف إلى البعد الذي اكتسبه القرآن الكريم. و على نهج القرآن الكريم و الهدى النبوي سار الخلفاء الراشدون و من عاصرهم من خطباء المسلمين فبلغت الخطابة أوجا من الازدهار لم تبلغه من قبل و لا من بعد حتى استحق أن يطلق على تلك الحقبة من الزمن عصر الخطابة الذهبي بحق. لقد رأينا كيف أفاد الشعراء في صدر الإسلام من كتاب الله لفظا و معنى و أسلوبا، و رأينا كيف كان الشاعر المسلم يتخذ من قريضه وسيلة جهاده في سبيل الله و أداة لخدمة الدين و إعلاء كلمة الله - عز وجل - و إذا كان الواحد من أولئك الشعراء يقتبس من الذكر الحكيم بض ألفاظ من الآية الواحدة، أما أسلوب التصوير و الخيال في القرآن الكريم، فيتجسد المعاني لتظل حية في الأذهان - من تشبيه و استعارة و مجاز مرسل و كناية و ما إلى ذلك من ضروب البيان - فقد كان للنثر منه نصيب الأسد، و بطبيعة الحال فإن النثر أقدر على القيام بعدة صور متلاحقة و هو أوسع مضمارا من الشعر بسبب ما هو معروف من القيود العروضية التي تلزم الشاعر بعد الخروج عنها. و إذن فإن تأثر النثر بالقرآن الكريم كان أعمق غورا من الشعر سواء من ناحية الشكل أو من ناحية المضمون، بينما الشعر لغة القلب ليس إلا، فكان النثر أقوى على القيام بهذه المهمة من الشعر و صدق الله و هو يقول - و قوله الحق - " تَبَارَكَ الذِي نَزَلَ الفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا " ( الفرقان / 1 ).