ومن الموضوعات الأخرى التي تناولها ابن خلدون في مقدمته ، و التي لها صلة بالاهتمامات الأنثروبولوجية ، على حد سواء ، تلك العلاقة القائمة بين البيئة الجغرافية وشؤون الاجتماع . وكما يذكر لنا على عبد الواحد وافي في تحقيقه القيم « مقدمة ، أن ابن خلدون اعتبر البيئة الجغرافية دعامة هامة لمختلف الظواهر الاجتماعية ، وأنه تناول هذا الموضوع في أربع مقدمات من الباب الأول حيث بدأ بعرض عام الجغرافية العالم ، بالقدر الذي وصلت إليه بحوث هذا العلم في عصره ، ثم شرح آثار البيئة الجغرافية في مختلف الظواهر الفردية والاجتماعية ( مرجع 65 ص 291 ) . وكما يتضح من النص التالي ، فقد رد ابن خلدون اختلاف البشر في ألوانهم ومزاجهم النفسي وصفاتهم الجسمية والخلقية إلى البيئة الجغرافية التي اعتبرها أيضا عاملا هاما في تحديد المستوى الحضاري للمجتمعات الإنسانية ( مرجع 65 ص 291 ) . كتب ابن خلدون فصلا بعنوان في المعتدل من الأقاليم و المنحرف و تأثير الهواء في ألوان البشر و الكثير من أحوالهم » ، نشير إلى بعض فقراته فيما يلي اقد بينا أن المعمور من هذا المنكشف من الأرض إنما هو وسطه لإفراط الحر في الجنوب و البرد في الشمال . ولما كان الجنبان من الشمال و الجنوب متضادين في الحر و البرد ، وجب أن تتدرج الكيفية من كليهما إلى الوسط فيكون معتدلا . والذي حافاته من الثالث و الخامس أقرب إلى الاعتدال . فلهذا كانت العلوم و الصنائع و المباني و الملابس و الأقوات و الفواكه بل و الحيوانات و جميع ما يتكون في هذه الأقاليم الثلاثة المتوسطة مخصوصة بالاعتدال و سكانها من البشر أعدل أجساما و ألوانا و أخلاقا و أديانا , حتى النبوات فإنما بواكير الفكر الأنثروبولوجي توجد في الأكثر فيها . ولم نقف على خبر بعثة في الأقاليم الجنوبية ولا الشمالية ، وذلك أن الأنبياء و الرسل إنما يختص بهم أكمل النوع في خلقهم وأخلاقهم ، ص 486 ) . وإلى جانب تلك الموضوعات ، نجد أن هناك تشابها إلى حد كبير بين ما جاء في قواعد منهج ابن خلدون في البحث و عرض الحقائق ، وبين ما يدعو إليه الأنثروبولوجيون المحدثون في دراساتهم و كتاباتهم عن ثقافات الشعوب ، و عن منهج ابن خلدون يكتب الدكتور علي عبد الواحد وافي أن ابن خلدون اعتمد في بحوثه : « على ملاحظة ظواهر الاجتماع في الشعوب التي أتيح له الاحتكاك بها و الحياة بين أهلها ، و على تعقب هذه الظواهر في تاريخ هذه الشعوب نفسها في العصور السابقة العصره ، وتعقب أشباهها ونظائرها في تاريخ شعوب أخرى لم يتح له الاحتكاك بها ولا الحياة بين أهلها ، والموازنة بين هذه الظواهر جميعا ، والتأمل في مختلف شؤونها للوقوف على طبائعها ، وعناصرها الذاتية وصفاتها و ما تؤديه من وظائف في حياة الأفراد والجماعات ،