لعلّه يُعجبك أن تقرأ بين الحين والآخر على منصّات التواصل الاجتماعي اقتباسًا يخبركَ بأنّك إنسان جيّد، لكنّك أنتَ لا تخذل أحدًا ولا تُسيء إلى أحد. بالرغم من أنّك تعرف جيدًا أنّهم هُم أنفسهم قد تسبّبوا بإيذاء غيرهم، فهل يَعون ذلك أم أنّهم مَعميّون تمامًا عن رؤية أنفسهم؟ فإذا كان الجميع ضحايا غدر الجميع وأذيّتهم، فمَن المُذنب فينا إذًا؟ لا شك أيضًا بأنك قلت لأحدهم يوما ما أن يكفّ عن لعب دور الضحية، فهم أشخاص يدّعون حدوث كل ما هو سيئ لهم، أشخاص معصومون من الخطأ، من هنا، تنبّه علماء النفس لنمط عامّ في بعض الشخصيات أشبه بأبعاد شخصية تلازم أصحابها، يَرون أنفسهم كضحايا على الدوام، هُم ضحايا لاضطّهاد حقيقي، ومفهوم عقلية الضحية (Victimhood Mindset). قبل الشروع بالإجابة عن هذا السؤال، وقبل الدخول في تحليل عقلية الضحايا وجوانبها النفسية بحسب ما يقوله لنا علم النفس وخبراء التحليل النفسي، من الضروري التنويه أنّ هذا المقال لا يهدف إلى التقليل من أيّ معاناةٍ مر بها شخص ما، وإنما يهدف إلى محاولة الفهم وفتح نقاش جادّ حول جدوى تبني الثنائيات التي تقسم البشر إلى ضحايا وجلادين، ومدى تأثيراتها على النضج النفسي لدى الأشخاص. علم نفس الضحية أما مفهوم عقلية الضحية فهو ميل الشخص إلى رؤية نفسه باعتباره ضحية على الدّوام، أي كأنها تتحول إلى هُويّة، لا إلى حالة مؤقتة متعلقة بحدث ما تعرّض له هذا الشخص. كما أنه من الممكن، أن يكون الشخص ضحية بالفعل لمظلمةٍ تعرض لها في الماضي، أجرى هؤلاء الباحثون 8 دراسات مختلفة، وقاموا بدراسة واختبار ما أسموه هم بـ"Tendency for Interpersonal Victimhood"، فإن بعض المراجعات تقترح وجود كثير من التشابهات والتقاطعات على المستويين الفردي والجمعي، وسنشير إلى ذلك في موضعه. يعرّف هؤلاء الباحثون "المَيل لتبنّي دور الضحية" بأنّه شعور دائم لدى الشخص بكونه ضحية في مختلف أنواع علاقاته وتفاعلاته الاجتماعية، وهو ينطوي على 4 أبعادٍ تثبت وجودها باستمرار لدى من يمتلكون عقلية الضحية، بوجه عام، ردّ فعل نفسيا طبيعيّا لدى من اختبروا صدمة أو تعرضوا لمظلمة ما، ومن ثم فإن نيل الاعتراف بكون الشخص ضحية لمظلمة ما، كما تظهر الأبحاث بأن رؤية من ارتكبوا المظلمة بحق هذا الشخص يتحملون مسؤولية أفعالهم ويظهرون شعورا بالذنب، هو أمر مهم علاجيا للتعافي من الصدمة أو الأذيّة. البُعد الثاني: النخبويّة الأخلاقية (Moral Elitism): يرى من يمتلكون عقلية الضحية أنفسهم باعتبارهم متفوقين أخلاقيا على سواهم من الأشخاص، وعلى الرغم من أن قسمة العالم إلى نوعين فقط من الأشخاص إما ملائكة وإما شياطين قد يساعد على حماية المرء من المعاناة وحماية تصوراته عن ذاته، فإن ذلك في نهاية المطاف سيمنع النضج النفسي لدى الشخص وتطوير رؤية مركّبة تستوعب الذات والعالم في جميع تعقيداتهما. البُعد الثالث: قلة التعاطف تجاه الآخرين: يشعر من يمتلكون عقلية الضحية بأنهم ليسوا ملزمين بالتعاطف مع غيرهم، فهم منشغلون إلى حدّ بعيد بمعاناتهم الشخصية إلى درجة تجعلهم يُغفلون ألم ومعاناة الآخرين، حيث تشير الدراسات إلى أن من يمتلكون عقلية الضحية يرون أنهم قد عانوا بما فيه الكفاية بما يعفيهم من مسؤولية الاهتمام والتعاطف مع معاناة غيرهم. وعلى المستوى الجمعي، كما تظهر بعض الدراسات التي أجريت حول ما يسمى بـ"عقلية الضحية التنافسية" أن أفراد الجماعات الذين يخوضون نزاعات عنيفة يميلون إلى تضخيم حجم معاناتهم وتضحياتهم وإلى التقليل من حجم معاناة الآخرين أو حتى إنكارها، البُعد الرابع: الاستدعاء المستمر لمظالم الماضي: يميل من يمتلكون عقلية الضحية إلى اجترار مظالمهم القديمة والحديث عنها باستمرار بدل البحث عن حلول ممكنة لهذه المظالم؛ تميل الجماعات أيضا إلى القيام بالشيء نفسه. فإنهم لا يكفّون عن إثارة الموضوع في كل حين خوفا من أن يتكرر الأمر مرة أخرى. أو حتى "امتلاك عائلة". عقلية الضحية وانحيازاتها الإدراكية تؤثر العقلية التي يطورّها المرء -أيا كانت- على الطريقة التي يفهم ويتذكر بها المرء الموقف الذي تعرض له. في مقالة له بعنوان "تفكيك عقلية الضحية" يُشير عالم النفس "سكوت كوفمان" إلى وجود 4 انحيازات إدراكية أساسية تميّز ميل الشخص إلى رؤية نفسه باعتباره ضحية، وهي كالتالي: انحياز التفسير (Interpretation Bias) يميل من يمتلكون عقلية الضحية إلى المبالغة في إعطاء الإهانة الموجهة إليهم حجما أكبر من حجمها الحقيقي، فعلى سبيل المثال، وجدت دراسة أن أولئك الذين يمتلكون عقلية الضحية يميلون إلى الاعتقاد بأنه لو تم تعيين مدير جديد في مكان عملهم، فإنه سيحاول التقليل من النظر إليهم بعين الاعتبار وسيظهر رغبة أقل في مساعدتهم، حتى قبل أن تتسنى لهم مقابلة هذا المدير الجديد. انحياز عزو الأفعال المؤذية (Attribution of Hurtful Behaviors) يميل أولئك الذين يمتلكون عقلية الضحية إلى نسبة نوايا سيئة إلى الطرف الذي مارس عليهم مظلمتهم، بل من الممكن أن يكون العكس من ذلك تماما هو الصحيح. وعلى المستوى الجمعي، تظهر ذاكرة الذين يمتلكون عقلية الضحية سهولة أكبر من غيرهم في استرجاع مشاعرهم السلبية، من خلال استعادة كلمات ذات حمولة سلبية، غضب، بينما لا يتذكرون المشاعر والتجارب الإيجابية بالقدر نفسه. فإن الجماعات تظهر ميلا أكبر لتذكر الأحداث التي أثرت بها عاطفيّا، بما في ذلك الأحداث التي وقعت فيها الجماعة ضحية لجماعة أخرى. انحياز المغفرة (Forgiveness Bias) تظهر الدراسات أن من يمتلكون عقلية الضحية يظهرون ميلا أقل لمسامحة الآخرين إذا قاموا بإهانتهم، كما أنهم بدلا من التجاهل يُظهرون رغبة وميلا أكبر لارتكاب سلوك انتقامي. وعلى المستوى الجمعي، لماذا قد يتبنى الإنسان عقلية الضحية؟ على المستوى الفردي، بما فيها كون المرء فعلا ضحية لمظلمة ما، حيث يعتمد الأفراد ذوو نمط التعلّق العاطفيّ القلِق على قبول الآخرين واعترافهم المستمر بجدارة معاناتهم. ينبع هذا السعي المستمر لكسب اعتراف الآخرين بمعاناتهم من شكوكهم المستمرة حول قيمتهم الاجتماعية. (للمزيد حول نمط التعلّق العاطفيّ القلِق، انظر هنا) ويتم ذلك من خلال عدة وسائل، وهكذا يمكن لنا فهم كيف يطوّر الإسرائيليون الذين يعيشون اليوم عقلية الضحية من خلال تبنّيهم سردية محرقة الهولوكوست، على الرغم من أنهم لم يتعرضوا لها بشكل مباشر، كما يمكننا كذلك فهم دور بعض السياسات والأطراف السياسية التي تطوّر خطابا كاملا (تحديدا في الغرب) بناء على عقلية الضحية، من الصعب علينا أحيانا أن نعترف لأنفسنا ولمن حولنا بأنّنا نتصرّف وفقا لعقلية الضحية وأنّنا نرى أنفسنا كذلك، لتعرف ما إذا كنت تمتلك عقلية الضحية، لنأخذ مثالا عن "نور" وزوجها "أحمد": قامت نور بتوضيب جميع حقائب السفر وترتيب باقي الأمور، وأن موعد الطائرة سيفوتهما بسبب ذلك. عن هذه الفوضى، وطلب منها أن تتواصل هي مع شركة سيارات الأجرة لتعديل الموعد، فإن عدم تغيير أحمد موعد سيارة الأجرة وعدم حجز موعد مناسب منذ البداية هو قرار اتخذه هو للحدّ من سعادتها وقدرتها على نيل ما تريده. كل ذلك في سبيل أن تحافظ على سرديتها الخاصة بها عن كونها ضحية لقرار زوجها بعدم تغيير موعد سيارة الأجرة. ما الذي لا تستطيع نور إدراكه في هذه القصّة؟ فبغض النظر عن القرار السيئ الذي اتخذه زوجها بشأن اختيار موعد غير مناسب أو تغيير الموعد المتأخر لسيارة الأجرة، بدلا من أن تقوم هي بتصحيح ذلك (وهو ما لم يكن ليأخذ منها أكثر من اتصال هاتفي واحد مع شركة سيارات الأجرة)، ولم يكن قراره صائبا، فإن عزو هذه النوايا له باعتباره يريد منعها من أن تكون سعيدة ليس سلوكا صائبا أيضا، إن بناء تصوراتك عن ذاتك وعن العالم من حولك من خلال حدثٍ ما كنت الضحية فيه، سيمنعك حتما من تجاوز محنتك، والتفكير بشكل سليم بشأن ماضيك ومستقبلك، إن خطر عقلية الضحية على المدى البعيد يتمثل في نزع فاعلية الأفراد باعتبارهم أفرادا يتحملون مسؤولية أفعالهم وقادرين على اتخاذ قراراتهم بأنفسهم واختيار مصائرهم، وليسوا مدفوعين -فقط- بكونهم ضحايا لمظلمة حقيقية أو متخيّلة. وكما أنه يمكننا اكتساب عقلية الضحية،