باب الوفاء يُعدّ الوفاء من أجود الغرائز، وأكرم الشيم، وأفضل الأخلاق في الحب وغيره، وهو دليل واضح على طيب الأصل وشرف العنصر، ويتفاضل بحسب تفاضل المخلوقات. وقوله: "أفعال كل امرئ تُنبي بعنصرِه والعينُ تُغنيك عن أن تطلب الأثرَا"، وقوله: "وهل ترى قطّ دِفلى أنبتت عنبًا أو تذخر النحل في أوكارها الصبرَا" يُوضحان ذلك. أول مراتب الوفاء الوفاء لمن يقيك، وهو فرض لازم، وحق واجب على المحب والمحبوب، لا يُحوِله إلاّ خبيث المحتدّ. ولكننا هنا نتحدث فقط عن الوفاء في الحب، وهو أمرٌ مطوّلٌ ومتفنّن. رأيتُ بنفسي وفاءً عظيماً، حيث رضي شخص بقطيعة محبوبه، ورأى الموت أحلى من هجره، حفاظاً على سرّ أودعه إياه، والتزم يميناً غليظة ألاّ يتحدث معه أبداً. ثم هناك مرتبة ثانية وهي الوفاء لمن غدر، وهي للمحب دون المحبوب، وهي صفةٌ لا يطيقها إلاّ من كان ذا جلد قويّ، واسع الصدر، حرّ النفس، عظيم الحلم، جليل الصبر، حصيف العقل، ماجد الخلق، سالم النية. ومن قابل الغدر بمثله ليس بمستأهل للملامة، لكنّ ترك مكافأة الأذى بمثله، والكفّ عن سيئ المعارضة، والتأني في جرّ حبل الصحبة، هو غاية الوفاء. وإذا حلّ اليأس، فإنّ الحنين لما مضى، وعدم نسيان ما فات، من أقوى دلائل الوفاء. أعرف رجلاً علق بجارية، ثم غدرت به، فوجد لذلك وجداً شديداً. وكذلك صديق لي فسدت نيّته، وأفشى سريّ بعد أن كنتُ قد حفظت سره، فكتبتُ إليه شعراً أُواسيه، وأُخبره أنّي لن أُقارِضه. ومحمد بن وليد بن مكسير الكاتب، لم يُوفّني حقيّ عندما زرتُه، فكتبتُ إليه شعراً أعاتبه فيه. وهناك مرتبة ثالثة وهي الوفاء مع اليأس البات، وهو أجَلّ وأحسن من الوفاء في الحياة. سمعتُ امرأة تقول أنّها رأت جارية جميلة، أبت أن تتزوج بعد موت مولاه، ورفضت عرض سيدها لها، رغم ضربه لها، وفاءً لمولاه. الوفاء أوجب على المحبّ من المحبوب، لأنّه هو البادئ بالمبادرة، والمُقيد نفسه بزمام المحبة. أما المحبوب فهو مُخيّر، فإن قبل فغاية الرجاء، وإن أبى فلا يُلام. وشروط الوفاء أن يحفظ المحب عهد محبوبه، ويُطوي شره، ويُغطي على عيوبه، والمحبوب إن ساواه في المحبة فعليه مثل ذلك. والوفاء في كل الأحوال حسن، وهو منّة الله عليّ، فلم أجازِ السوء إلاّ بالحسنى. أفتخر بوفائي في قصيدتين، الأولى ذكرت فيها نكباتي، والثانية ردّاً على من أساءوا إليّ.