الأمير بشير الشهابي الثاني شكل ٩-١: الأمير بشير الشهابي الثاني، هو أعظم أمراء بني شهاب حكام جبل لبنان في الأجيال الأخيرة، وهم عرب يتصل نسبهم إلى قريش، قدموا بلاد الشام في صدر الإسلام، وما زالوا يتناوبون الأحكام في لبنان ووادي التيم مع الأسر الأخرى من الأمراء وغيرهم تحت رعاية الباب العالي إلى أواسط القرن التاسع عشر. أما الأمير بشير فهو أعظم الأمراء الشهابيين سطوة وهيبة، تنصَّر والده في آخر أيامه ثم تُوفِّي عن ولدين: حسن وبشير، وكان حسن أكبرهما سنًّا فانتظم في خدمة الأمير يوسف الشهابي أمير جبل لبنان إذ ذاك، وأقام في قصبة الإمارة بلدة دير القمر، فأصبح الأمير بشير وحيدًا منفردًا، وكانت تعول ولدها بشيرًا وتسعفه بما يقوم بأود حياته من الطعام واللباس. ونزل في بيت الدين بالقرب من الدير في منزل رجل يقال له: الشيخ أبو علي البتديني، وكان يؤانس في وجه الأمير بشير مهابة الأُسود وشهامة الرجال ففتح له صدر بيته، وأنزله على الرحب والسعة، فأقام عنده بضع سنين يقضي نهاره في الصيد وليله في التحرق لما هو فيه من ضيق المعيشة مع شرف الحسب والنسب، ولكنه كظم على مضض الحياة ينتظر فرصة ينهض بها من حضيض الذل إلى ما تطلبه نفسه من المعالي. فاتفق أن دروز لبنان وهم الفئة الكبرى من سكانه أنفوا من حكومة الأمير يوسف، وأجمعوا على إنزاله وإقامة أمير سواه، فتشاور العقلاء والأعيان فأخبره بعضهم عن الأمير بشير وقال: «إن هذا إذا تولى الإمارة كان آلة بيدنا لصغر سنه، » فقال الشيخ بشير: إليَّ به، وليكن مجيئه إلى منزلي سرًّا لأراه ولا يعلم به أحد، فسأله إذا كان يريد أن يتولى لبنان، فقال: «ومن أين لي ذلك ولا مال عندي ولا رجال؟» فقال: أما المال والرجال فنحن نقوم بتقديمهما لك، فكن ثابت الجأش وتربص ريثما نخلع الأمير يوسف، » فالأمير يوسف علم بما تواطأ عليه الدروز والأمير بشير، فبعث إليه أخاه حسنًا وأمره أن يقتله ويأتي برأسه، فسار حسن بالرغم منه حتى أتى بيت الدين، فلما أطل عليه أخوه من بعيد ناداه قائلًا: «لا تقرب من هذا البيت وإلا فإني قاتلك لا محالة. أما كفاكم أني مقيم هنا ولا ينظر إليَّ أحد كأنما أنا من السوقة؟! أليس ذلك عارًا على الأمير يوسف؟!» فخجل حسن وعاد وأخبر بما كان وحسَّن للأمير الرفق بأخيه، أما الدروز فكتبوا إلى الجزار والي ولاية صيدا (وكان لبنان تحت ولايته) يشكون من الأمير يوسف واستبداده، فأرسل الأمير بشير تخلصًا منه، ويقال إنه لما أمره بالذهاب إلى عكا ليكون رهنًا عند الجزار قال له: «سر يا ولدي إلى الجزار في شغل. » فأجابه: «أخاف أن أُذهِب ولدك وأُرجِع ولد الجزار. » فلم يفقه الأمير لما قاله. وكانوا كُتَّابًا في ديوانه فساعدوا الأمير بشيرًا مساعدة قوية، فولاه الجزار الإمارة على لبنان، وألبسه الفروة وأعطاه العُدَّة والرجال وأمره بالذهاب إلى دير القمر لاستلام مقاليد مصلحته، وعلم الأمير يوسف بقدومه ففرَّ من الدير ودخلها الأمير بشير وتولاها، وكان الشيخ بشير جنبلاط وأنصاره أنصارًا للأمير في كل ما يريد فتعززت سطوته وذاع صيته. ولكن لم يستتب له الأمر إلا بعد مقتل الأمير يوسف؛ فكان يتعهد له الأمير يوسف تارة بدفع قدر أعظم مما يدفعه الأمير بشير فيوليه، ثم يزيد هذا على ذاك القدر فيعيده ويعزل ذاك، وكان اللبنانيون يشتكون أحيانًا من قساوة الأمير فيتآمرون عليه ويتظلمون منه، وبقي الحال كذلك حتى قُتل الأمير يوسف في عكا بأمر الجزار سنة ١٧٩٠م، وكيفية ذلك أن الجزار كان سائرًا إلى الحج فوصل إليه وهو في المزاريب كتاب من الأمير بشير يشكو فيه من دسائس الأمير يوسف، وكان هذا قد التجأ إلى حمى الجزار في عكا، ثم ندم على مسارعته فبعث إليه أن لا يقتله، فقُتِل الأمير يوسف شنقًا قبل وصول الكتاب الثاني، وأخفاه ابن السكروج كاتب الجزار خدمة لمصلحة الأمير بشير، فاستتب الأمر للأمير بشير، غير أن الفتن بين ولايتي صيدا ودمشق لم تكن تنقطع، واللبنانيون تارة يثورون على أميرهم وطورًا يستبد فيهم محصلو الأموال، ونظرا لكثرة الفئات والطوائف في لبنان لم يكن يخلو ذلك الجبل من فتنة تُهرَق في سبيلها الدماء وتُسلَب الأموال، وكان الأمير بشير يتدبر كل ذلك حينًا بالحكمة، وكان إذا ولَّى أميرًا لا يأمن انتقاضه فَيَسْتَرْهِن عنده ابنه أو أخاه أو زوجته، فإذا عزله بعث إليه بالرهن ويَسْتَرْهِن أحدًا من أبناء الأمير الجديد وهكذا. وكان الأمير بشير عونًا كبيرًا للفرنساوية يمدهم بالمئونة والزاد، وقد سُرَّ نصارى لبنان بقدوم تلك الجيوش وخاف الدروز، ولما طال الحصار على الفرنساويين وامتنعت عكا عليهم بمساعدة العمارة الإنكليزية تحت قيادة السير سدني سميث ملَّ الأمير بشير من معاضدتهم، ثم وردت عليه كتابات من السير سدني يبين له فيها: «أن الفرنساوية لما دخلوا مصر نشروا منشورات ادَّعوا أنهم مسلمون وقد كسروا الصلبان في رومية. وكان الجزار قد تغير على الأمير لمساعدته الفرنساوية ثم علم بكفه عن مساعدتهم، ولكنه لم يقرَّه في مكانه فتوسط له السير سدني سميث، وكان بين هذا والأمير صداقة ومهاداة، وسافر الأمير في أثناء تغير الجزار عليه في مركب من عمارة السير سدني إلى الإسكندرية، وبالغ السير سدني في إكرام الأمير وأحبه محبة شديدة لما رأى من هيبته وجسارته، وأمر بتصويره وخاطب بشأنه الصدر الأعظم، وكان قد قدم غزة لمحاربة الفرنساوية ليعيده إلى منصبه في إمارة لبنان فأعاده. ولكنه اضطر بعد قليل لمغادرة لبنان لعدم رضوخ أصحاب المقاطعات له، فسافر في عمارة السير سدني إلى قبرص وأقام فيها ستة أشهر ثم سافر معه إلى الإسكندرية، وما زالوا في البحر المتوسط بين ذهاب وإياب نحو شهرين، وبعد ذلك عاد إلى إمارته في لبنان وكانت بينه وبين الجزار ومن ولاهم مكانه حروب دامت أربع سنوات، وفي السنة الثانية تُوفِّي الجزار وخلفه إبراهيم باشا (غير ابن محمد علي باشا)، وبينه وبين الأمير صداقة فأقرَّه في إمارته وأيد نفوذه، وكان أولاد الأمير يوسف من أكبر مناظري الأمير في الإمارة وكثيرًا ما كانوا يتمكنون من إغراء الجزار على عزله والتولي مكانه بمساعدة مديره جرجس باز وأخيه عبد الأحد، وفي سنة ١٧٠٩م بنى الأمير بشير جسر نهر الكلب، وبعد سنتين بنى جسر نهر الصفا، وفي سنة ١٨١٣م جاء إلى الأمير رجل حمصي اسمه بطرس بن إبراهيم كرامة، وكان قد قرأ صناعة الإنشاء والشعر على الشيخ أمين الجندي الشاعر المشهور فجعله الأمير نديمًا عنده ثم وكل إليه تعليم ابنه الأمير أمين، وصار بعد ذلك كاتب يده. وكان بجوار دير القمر قرية يقال لها: بيت الدين — وقد تقدم ذكرها — فاتخذها الأمير مسكنًا له وبنى فيها الدور لسكناه ولسكنى أولاده وفي جملتها السراي الباقية إلى هذا العهد المعروفة بسراي بيت الدين، وفيها مقر متصرفية لبنان إلى هذه الغاية. وأجرى إلى بيت الدين قناة من ماء تحت عين زحلتا على مسافة ثلاث ساعات يسمى نبع القاع بجانب نهر الصفا، لأنهم هم الذين سعوا في إمارته وقد شدوا أزره وقاموا بنصرته وأيدوا حكومته ماديًا وأدبيًا، فكانوا ينظرون من وراء مساعدتهم إلى ما يؤيد نفوذهم على الأسر الأخرى الدرزية التي كانت تناظرهم في السطوة ونفوذ الكلمة، فاتفق أن أحد الأمراء المدعو الأمير حسن أراد التزوج بابنةٍ ولم يرضَ أبوها به فغضب وقتله، فغضب الأمير بشير على الأمير حسن وأمر بالقبض عليه ففرَّ إلى دمشق، وهناك أسلم ووشى بالأمير أنه مسيحي وهيَّج عليه الوالي، فحقد الأمير على الشيخ بشير لأنه نسب ذلك إليه، وفي أثناء ذلك بنى الشيخ بشير جامعًا في المختارة بالقرب من بيت الدين وتظاهر بالإسلامية، فأقر الأمير في إمارته ولكنه أخلف بعد قليل وولَّى غيره مدة قصيرة، ثم عادت الإمارة إليه فعاد مكرمًا مع الهدايا والتقادم على أن يكون أميرًا على لبنان مدة حياته، ولكن بعض اللبنانيين لم يذعنوا له بدسيسة ممن كان أميرًا قبله، وأبَوا دفع الأموال كما أراده هو فقامت بينه وبينهم حروب آلت إلى خصام طويل بين ولايتي صيدا ودمشق، وكان عالما أن الفضل في ذلك النصر للأمير بشير فكتب إليه يستجلب رضاه ووعده بالولاية على صيدا ولقبه بوالي الشام وصيدا، فأعرض الأمير عن إجابته وبعث الكتاب إلى عبد الله باشا، فسار في الجند كما أمره وعاد إلى المحاربة، ولكنها اشترطت عليه بواسطة الشيخ بشير شروطًا صعبة في إمارته فلم يرضَ، فاتفق الأمير والشيخ على تولية الأمير عباس فقبل درويش بذلك، وعقد الأمير مع الأمير عهدًا أن يحافظ هذا على بيت الأمير وكل ماله أثناء غيابه، فعرج إلى صيدا ونزل من ضواحي بيروت في المراكب ومعه من الحاشية نحو المائة وخمسين رجلًا قاصدًا مصر سنة ١٨٢١م وفيهم إذ ذاك المغفور له محمد علي باشا واليًا فلاقى منه كل رعاية وإكرام. لأن الدولة كانت تحب محمد علي باشا وتراعي خاطره على أثر ما أوتيه من النصر في حرب الوهابيين في بلاد العرب بعد أن تعبت الدولة في قهرهم. وكان محمد علي باشا إذ ذاك في شاغل من أمر الحرب في المورة، فلما جاء الأمير مستنجدًا طيب خاطره ووعده بالمساعدة وكتب إلى الباب العالي بذلك، وأسكن الأمير في بني سويف ريثما يرد الجواب، لأنه كان راغبًا في امتلاك قلب الأمير ولسانه ليكون له عونًا فيما نواه من فتح الشام. ولبث الأمير في مصر حتى وردت الأوامر بالعفو عن عبد الله باشا فحملها شاكرًا بعد أن تداول مع محمد علي سرًّا بشئون كثيرة تعود إلى مقاصد الباشا في بر الشام، وسار الأمير من مصر إلى عكا بكل إكرام ومعه سلاحدار الباشا حاملًا العفو، ولكن الجنود العثمانية في الشام طلبت النفقات المعينة في مثل هذا الصلح ولم يكن عند عبد الله باشا نقود، وكان الأمير قد جاء بنحو نصف القدر اللازم من محمد علي، فضرب عبد الله باشا الباقي ضرائب على المقاطعات وفي جملتها جانب على الأمير، وكان الأمير قد زاد حقدًا على الشيخ بشير، فطلبه من واليها فأمره بالذهاب، ثم التمس من عبد الله باشا التوسط له عند الأمير بالعفو فأظهر الأمير القبول، فحضر الشيخ بشير وكان لا يزال خائفًا من الغدر به فجاء في جماعة من رجاله إلى بيت الدين، وسار توًّا إلى مقابلة الأمير في قصره، فجعل رجاله صفين مر بينهما ذليلًا خائفًا من الغدر به حتى دخل على الأمير وسلم عليه فأمره بالجلوس فجلس مكتئبًا واجسًا، وأمر له بالقهوة فلم يستطع تناولها لما كان فيه من الارتعاش، ولكنه أمسك الفنجان وأراد الارتشاف منه فنظر إليه الأمير بعين الغضب فازداد ارتعاش يده حتى انسكبت القهوة على ثيابه، وكان منظر الأمير مخيفًا بغير غضب فكيف بالغضب! ولم يستطع الوقوف حتى حوَّل الأمير نظره عنه إلى نافذة بقربه، فضبط الأمير أرزاقه وممتلكاته فعاد الشيخ بشير ناقمًا، فانتشبت الحرب بينهما شديدة حتى اضطر إلى استنجاد ولاة طرابلس وعكا ومحمد علي باشا في مصر، فبعث إليه محمد علي باشا «أن ألفي مقاتل متأهبة تنتظر أمركم. وأمر بسَمْلِ عيونهم وقطع رءوس ألسنتهم. أما الشيخ بشير فكتب الأمير إلى عبد الله باشا أن يقتله لأن أصل الشر منه، ثم علم الأمير أن الباشا أطلق سراحه وأذن له بالسكنى خارج السجن، فبعث إلى محمد علي باشا على يد ابنه الأمير أمين — لأنه كان إذ ذاك في مصر — يخبره بالأمر ويلتمس منه كتابًا إلى عبد الله باشا بقتل الشيخ بشير، وبقتل الشيخ بشير خلا الجو للأمير بشير ففرق أولاده وذويه حكامًا في المقاطعات، وهدأت الأحوال إلى سنة ١٨٢٦ حينما قدمت مراكب اليونانيين إلى بيروت، لأن اليونان كانوا في حرب مع الدولة العليَّة في المورة فبعثوا بمراكبهم إلى سواحل سوريا لافتتاح الثغور. فلما بلغ الأمير قدوم تلك المراكب جمع إليه رجاله ونزل إلى حرج بيروت لدفعها، وكانت قد أطلقت بعض القنابل على المدينة، وفي سنة ١٨٣٠م انتدبه عبد الله باشا لفتح قلعة سانور في نابلس فسار وفتحها فتحًا أيَّد ما عُرف به اللبنانيون من الشجاعة والإقدام، وفي السنة التالية قدم المغفور له إبراهيم باشا بن محمد علي باشا لحصار عكا. قال: إن محمد علي باشا لما قدم إليه الأمير بشأن العفو عن عبد الله باشا تداولا في أمور كثيرة تعود إلى التعاضد والتعاون عند الحاجة، ولذلك رأينا عزيز مصر لم يتقاعد عن نجدة الأمير في حروبه مع الشيخ بشير كما قدمنا، وأما محمد علي فكان عازمًا على توسيع نطاق حكمه بافتتاح سوريا، وكان يظن صنعه الجميل مع عبد الله باشا والأمير يكفي لبلوغ أمانيه، والغالب أن عبد الله كان طامعًا بمثل مطامع محمد علي، وأدرك محمد علي ذلك فعزم على اختياره والتعويل على تنفيذ مقاصده بالقوة، فبعث إلى الأمير بشير أن يبعث إليه بجانب من الأخشاب التي يحتاج إليها في بناء المراكب فباشر الأمير إجابة طلبه فمنعه عبد الله باشا، فشق ذلك على محمد علي واعتبره بظاهر الأمر مخالفًا لأوامر الدولة العليَّة؛ فبعث عبد الله باشا إلى الأمير أن يعدَّ رجاله ويأتي لدفع الجنود المصرية عن عكا، وكتب إبراهيم باشا بمثل ذلك لما بينه وبين والده من العهود، فوقع الأمير في حيرة بين أن يطيع رئيسه الشرعي أو يقوم بمواعيده لدى والي مصر، وكان حاقدًا على عبد الله باشا؛ لأنه رأى منه استبدادًا فيه بعد أن كان هو السبب في عوده إلى ولاية عكا، فجمع رجاله وسار قاصدًا عكا، فغضب محمد علي وكتب إلى الأمير يهدده، فظل سائرًا إلى صحراء عكا فاستقبله إبراهيم باشا بترحاب؛ لأنه كان في حاجة كلية إلى مساعدته فيما جاء من أجله. وكان الأمير عضدًا قويًّا للجنود المصرية في حصار عكا وغيره من أعمالهم في سوريا. وكان اعتماده في كثير من المواقع عليه وعلى أولاده، ولا سيما الأمير خليل فإنه حارب عنه حروبًا كثيرة في طرابلس وغيرها. أما أهل لبنان فكان دروزهم ضد إبراهيم باشا ونصاراهم معه، غير أن الدروز اضطروا أخيرًا إلى الإذعان بمساعي الأمير وتهديده، وعرَّض بنفسه للخطر مرارًا حتى كان يضطر أحيانًا إلى التنكر بلباس الفَعَلة وغيرهم خوفًا من مكامن الدروز. وبعد أن فتح إبراهيم باشا عكا وقبض على عبد الله باشا وبعث به إلى الإسكندرية سار إلى دمشق وبعث إلى الأمير أن يوافيه إليها فجند إليها وفتحوها، وعاد الأمير إلى بيت الدين، وخرج إبراهيم باشا لفتح حمص ففتحها وسار منها إلى حلب يحارب الجنود العثمانية ففتحها ثم فتح أيقونية، وهناك قبض على الصدر الأعظم قائد الجنود العثمانية وزحف على مرسين فترسيس، وما زال في فتوحاته حتى توسطت الدول الإفرنجية وتم الصلح بين الدولة العليَّة وإبراهيم باشا على أن يقف عند حدوده في سوريا وأن يكون واليًا عليها جابيًا لأموالها (كما تقدم في ترجمة محمد علي باشا). حتى اضطر محمد علي إلى المجيء بنفسه لنجدة ولده، ثم رأى إبراهيم باشا أن الأمر لا يستتب له إلا إذا جرد اللبنانيين والنابلسيين وغيرهم من السلاح، فعهد بذلك إلى الأمير فجمع السلاح ولم يكن جمعه كافيًا لاستتباب الراحة لأن البلاد لم ترضخ لحكومته رضوخًا تامًّا، والدولة لم تفتأ عن محاربته تارة بعد أخرى، فقضى إبراهيم باشا في سوريا نحوا من تسع سنوات لم يهدأ له فيها بال، وفي سنة ١٨٣٧ قدم الدكتور كلوت بك كبير الأطباء المصريين إلى بيت الدين فطلب إليه الأمير أن يستأذن محمد علي باشا في إرسال بعض اللبنانيين يدرسون الطب في القصر العيني على نفقة الحكومة، فنال ما طلبه وبعث بعضًا منهم إلى تلك المدرسة، وفي سنة ١٨٣٨ أمر إبراهيم باشا أن يلبس أولاد الأمير بدل العمائم الطرابيش، وكتب الأمير إلى أقاربه أن يفعلوا ذلك أيضًا ففعلوا. فلما بلغ نصارى لبنان وسوريا ذلك خافوا أن يجري هذا التجنيد عليهم إذا استقام الأمر للمصريين بينهم، وكان الأمير بشير مع ذلك يحاول إقناعهم في الخضوع فلم ينجح، ورأت الدول أن إبراهيم باشا لا بد من إخراجه من سوريا بالقوة، فجاء ريشارد وود الإنكليزي بمأمورية سرية، وكان يعرف العربية فأغرى السوريين على كتابة عرض يطلبون فيه من الدولة العليَّة وسفراء دول إنكلترا وفرنسا والنمسا أن يخرجوا الجنود المصريين من بينهم، فكتبوا وأرسلت الكتابة إلى الآستانة. فجاء الأميرال نابيه في عمارة إنكليزية إلى ميناء بيروت، وبعث يتهدد متسلمها ويبشر اللبنانيين والسوريين بقدوم عمارات أخرى لإنقاذ سوريا من الدولة المصرية، ثم جاءت العمارة العثمانية وفيها بوارج إفرنجية كما تقدم، وأطلقت المدافع على بيروت فتحققت الجنود المصرية أن الانسحاب أولى بهم بعد أن دافعوا دفاع الأبطال وصبروا صبر الرجال. أما الأمير فخاب أمله وكان يظن فرنسا تساعده عند الحاجة فلم يتحقق ظنه، فاضطر إلى التسليم فسلم فأُمر بالذهاب بمن أراد من أهله وذويه للإقامة في مالطة، وسار مودعًا لبنان بدموع الأسف في مركب أُعدَّ له حتى أتى مالطة، ثم أُرسل إلى الأناضول إلى بلدة اسمها زعفر أنبول فأقام فيها سنة ونصف سنة، ثم عاد إلى الآستانة ومات هناك شيخًا هرمًا، ودُفن في كنيسة الأرمن الكاثوليك بغلطة. أما أولاده: فالأمير أمين اعتنق الديانة الإسلامية بعد مجيئه الآستانة واستأمن فلم يسر مع والده إلى المنفى، وأما الأمير خليل فبقي مسيحيًّا حتى تُوفِّي في الآستانة. أما بطرس كرامة فتعيَّن مترجمًا في الباب العالي وبقي مع ذلك محافظًا على صداقة الأمير وتُوفِّي بعده ببضعة أشهر في الآستانة أيضًا. كان الأمير بشير ربع القامة، ويُروى عن هيبته وشدة بأسه وصرامته روايات أشبه بالخرافات منها بالحقائق. ولولا ذلك لم يستطع أن يحكم اللبنانيين المعروفين بالشجاعة وشدة البأس وقوة الأجسام والعقول، ومما يُحكى عن صرامته أن أحد رجاله الذين كان يبثهم في أنحاء لبنان لصيانة الطرق من اللصوص جاءه يومًا قائلًا: «رأيت أيها الأمير بالأمس في وادي العليق فتاة منفردة في ظلام الليل غير خائفة فعجبت من جسارتها فسألتها عما جرَّأها على المسير وحدها في ذلك الوادي المخيف، لأن أبا سعدى (تريد الأمير بشيرًا) سائر معي، » فحملق الأمير بالرجل حتى كاد يقع صريعًا من الخوف، ولكن ما الذي جرَّأك أنت على مخاطبتها وهي سائرة بنفسها في طريقها؟» وأمر فقبض عليه، ومما يُحكى عن هيبته أنه لما كان في الآستانة وكان قد زاده الشيب هيبة ووقارًا دعاه الصدر الأعظم لزيارته في مجلس الوكلاء، فلما خرج عنف الوكلاء الصدر على وقوفه له فوعدهم أنه إذا جاء ثانية لا يقف له، فسأله الوكلاء بعد خروجه عما حمله على الوقوف وإخلاف وعده، لأني حالما رأيته وما هو فيه من الهيبة لم أشعر إلا أني وقفت بغتة. وكان إذا جلس في مجلسه لا يجلس إلا جاثيًا على طرف مقعد وغدارته محشوة إلى جانبه. وكان عفيف النفس قليل النهم في الطعام، وكان قوي البنية شديد البطش. ورعًا تقيًّا مثابرًا على الفروض الدينية حتى أقام كنيسة للصلاة في نفس منزله في بيت الدين، وقد أوضحنا أخلاق هذا الرجل وسائر مناقبه في روايتنا (المملوك الشارد