بتبنّي هذا الإستخلاص، الإجابة تكمن في تعريفنا للاقتصاد. فهل نُعرّف الاقتصاد على أنّه مجال قائم بذاته، أي أنّ الاقتصاد ممارسة سياسية بحد ذاته؟ البحث هنا سيتمحور حول شرح الممارسة السياسية للاقتصاد، واستحالة فصله عن المجال العام. ولأنّ الإنهيار اللبناني هو موضوع نقاشات محلية وعالمية، من الأفضل أن ندخل إلى هذا البحث من بوابة لبنان. ولنبدأ من التأكيد بأن العمل السياسي في لبنان ينقسم إلى مستويين: المستوى الأول هو المستوى المحلي، بينما المستوى الثاني هو المستوى الخارجي. بشكل جليّ، وهي ثاني أكبر الأزمات اللبنانية، ثاني أكبر الأزمات: فعل سياسي كانت جذور أزمة عام 1989 مالية، ورغم أن مصرف لبنان، بقيادة حاكمه آنذاك الدكتور إدمون نعيم، علماً بأنّهما كانا يشكّلان العصب الأساسي للشبكة المصرفية التابعة لحزب الكتائب. ويربط حوراني هذا الإجراء بخروج أمين الجميّل من الحكم ونفيه خارج لبنان، على يدي سمير جعجع. ما هدّد القطاع برمّته، بما أن شبكة الكتائب المصرفية كانت تسيطر على أكثر من ربع القطاع المصرفي في عام 1988. بدء تنفيذ حزمة إنقاذ (Bailout) ضخمة للمصارف اللبنانية، كانت كلفتها النهائية في عام 1990 ما يقارب المليار دولار. وما تبقى من احتياطي بالعملات الاجنبية كان يؤمّن الدعم الحكومي على المواد الغذائية والاستهلاكية الأساسية، وكان يُعوّل عليه للبدء بعملية إعادة الإعمار. كجزء من الفضاء السياسي العام. في زمن حكومة الرئيس عمر كرامي، لم يكن وليد ديناميات اقتصادية-مالية بحتة. هناك عاملاً آخر لعب دوراً رئيسياً في صناعة هذه الأزمة، فبعد شهر واحد فقط من انتهاء حرب 13 تشرين الأول 1990، ببرنامج تقشّف وتجميد للأجور في القطاع العام ورفع الدعم عن المواد الغذائية والمحروقات، بداية من عام 1991. لبنان مثال شديد الوضوح عن ممارسة القرار الإقتصادي كفعل سياسي بحت تتداخل فيه السياسات المحلية بالخارجية في نسيج واحد أدام استمرار منظومة الاقتصاد السياسي اللبنانية بما يخدم مصالح أهلها ورعاتها الخارجيين لكن تلبية مطالب المؤسسات المالية الدولية لم تدفعها إلى تأمين الأموال اللازمة لإعادة الإعمار. 45 مليار دولار. وبرغم هذه المطالبة قدم البنك الدولي دعماً فاتراً، وأيّد منح لبنان خُمس المبلغ المطلوب فقط. وحتى بعدما سمح مصرف لبنان بتعويم سعر صرف الليرة، بقيادة القوى السياسية المحلية الخارجة من الحرب، إلى الإضطرابات التي أسقطت حكومة الرئيس كرامي. ومن الواضح أن ضغط المؤسّسات المالية الدولية كان محورياً في صناعة الأزمة الاقتصادية عام 1992، رغم التقارير الدورية لهذه المؤسسات التي تفصّل سوء إدارة حكومات الرئيس الحريري للسياسات المالية والاقتصادية. هذا التدخل الدولي عبر المؤسسات المالية الدولية، أي السياسة الخارجية. تمثّل الأزمة الممتدة من عام 1989 إلى عام 1992صورة واضحة ومكثّفة لتداخل الاقتصاد في نسيج السياسة بكل مستوياتها في لبنان، وفي الوقت نفسه يظهر أن المستوى السياسي الخارجي أمضى في تأثيره من ذلك الداخلي أو المحلّي. قوة الدفع بالضمانات من الأفضل الاستعانة بورقة عمل صادرة عن صندوق النقد الدولي نفسه، أعدّها أكسل شيملفينيغ وإدوارد غاردنر في عام 2008. تشرح الورقة أن لبنان يستفيد أولاً وقبل كل شيء من «الضمانات غير المباشرة» التي تنعكس على رغبة المانحين في تمويل لبنان، والعامل الثاني هو نتيجة للعامل الأول، وحتى بعد مؤتمرات باريس، لأسباب جيوسياسية خاضعة للتبدل والتغيير. - الحالة الأولى: ما حصل في عام 2005 إثر اغتيال الرئيس رفيق الحريري. إلى درجة أن مصرف لبنان فرض عطلة مصرفية لمدّة خمسة أيام لدرء احتمال حصول حركة سحب مفرط من المصارف وتحويل الودائع إلى الخارج بكثافة. حول مصير لبنان وموقعه السياسي، ضغوطاً على الأسواق المالية عبر خروج الودائع المتسارع وغياب الدعم الغربي والخليجي، إلى أن تم تأليف حكومة الرئيس نجيب ميقاتي. ولم تنعكس الآية إلاّ بعد انتخابات حزيران من العام نفسه، حيث عادت التدفقات المالية إلى النظام المالي اللبناني، تعبيراً عن عودة «الضمانات غير المباشرة». - الحالة الثانية: ما حصل إثر العدوان الإسرائيلي على لبنان عام 2006. فقد سارعت الدول الخليجية إلى إيداع مليار ونصف مليار دولار في مصرف لبنان، بالإضافة إلى تقديم نحو مليار دولار أخرى على شكل مساعدات (كل هذا قبل نهاية تموز 2006)، بينما كانت حصيلة مؤتمر استوكهولم نحو مليار دولار من المساعدات. لم تنقطع «الضمانات غير المباشرة» وبقي الوضع المالي بعيداً عن التأزم. ما تشير إليه الورقة، الامتثال والمكافأة سنخرج بصورة ترسم الآتي: ممارسة القرار الاقتصادي والمالي، كان مشوباً بسوء الإدارة والفساد بما يسمح باستمرار منظومة الاقتصاد السياسي اللبنانية. بما يخدم تصورها لموقع لبنان ضمن منظومتها الإقليمية. واستمرت هذه الإرادة في تقديم «الضمانات» اللازمة لاستمرار التدفقات، ولكن لماذا التغيّر المفاجئ؟ بكل بساطة لأن موقع لبنان ضمن المنظومة الأميركية في المنطقة تغيّر. أمّا حصر أصل المشكلة في سوء إدارة داخلية فقط، وعزل الأزمة عن كل أبعاده السياسة، فهو وصفة لإعادة إنتاج المنظومة بلاعبين جدد لا غير. فإنتاج المعرفة الاقتصادية وممارسات الحكم المستمدة منها هي التي تجعل الفصل بين «الاقتصاد» و«السياسة» تصوّراً حقيقياً. وفقط حين نُسقط تلك الحدود، التي تعطي «الاقتصاد» بعداً عقلانياً، تسقط مبررات مجتمع السوق وتتكشف الصورة الحقيقية لعالم من القوة السياسية والافتراس.