بحيث تؤثر كل من هاتين العمليتين في الأخرى، هما عمليتان ذواتا توجه ثقافي، بحيث تقوم الدولة أثناء عملية بناء الأمة بإكساب الأخيرة خصائصها، على إكساب الدولة خصالها الثقافية، وتتضمن هذه العملية المزدوجة نوعين من المتغيرات. فمن ناحية الدولة هناك مجموعة المتغيرات التي تتوقف عليها قدرة الدولة على بناء الأمة، ويمكن تسمية هذه المتغيرات بـ عوامل القدرة الاستيعابية للدولة. فالنوع الأول يشتمل على القدرة الوظيفية للدولة والقدرة الاقتصادية والقدرة الأيديولوجية الأكثرية، وبذلك تغدو الحلقة الرابطة بين العمليتين (A) و (B) هي الهوية القومية للأكثرية بعينها، وتنشأ عن التقابل والتدعيم المتبادلين للمتغيرات القادمة من اتجاه عملية تكوين الدولة لبناء الأمة، وتلك المتغيرات القادمة من اتجاه عملية بناء الأمة للاستحواذ على الدولة وجعلها خاصة بالأكثرية المهيمنة يمكن القول إن الهوية القومية للأكثرية وانتشارها تتناسب طردياً مع القدرة الاستيعابية للدولة وقوة متغيرات الهوية عينها معاً. فكلما كانت تلك القدرة، أما إذا كانت تلك القدرة والمتغيرات ذات فاعلية منخفضة، فإن ذلك يفضي بدوره إلى انخفاض قوة الهوية القومية وتقلص نطاق انتشارها، ومن ثم يتم التوجه إلى أحد الأشكال الثلاثة الأخرى للدولة في أول الاحتمالات هو الدولة العالمية، إن الهوية القومية تؤدي دوراً مزدوجاً، بهدف تعميم ذاتها حتى تصبح هوية مشتركة، وذلك من خلال الاستعانة بالتعليم والجيش والجهاز الإداري والبنية الاقتصادية للدولة. وفي مقابل ذلك، تتيحالهوية نفسها السبيل أمام الدولة والأكثرية المهيمنة للاستفادة من عملية نشر وتعميم الهوية القومية للأخيرة، بحيث تستفيد الدولة منها في سياق محاولتها التخلص من التباينات الثقافية من أجل الوصول إلى وضعية الولاء والتأييد العام لكيانها السياسي، إذ إنها تتعامل مع السكان وكأنهم وحدة ثقافية واحدة، وعلى منوال الدولة نفسه، إلا أن الأكثرية المهيمنة تستهدف من إلغاء تلك التباينات التخلص من وجود أي بديل ثقافي ينافسها في أسلوب وطريقة حياتها، الأمر الذي يدل على أن سعي الأكثرية المهيمنة إلى الاستحواذ على الدولة إنما هو آلية للدفاع عن هويتها الجماعية من خلال تسوية التباينات وموالاة الجميع للقيم وأسلوب الحياة نفسهما. ويتبين من ذلك أن الأقليات ستغدو هي المتضرر الأكبر في هذا التفاعل الحاصل بين العمليتين (۸) و(B)، أي ما يميزها ثقافياً من الأكثرية من حيث القيم وأسلوب الحياة والموروث الثقافي. وبفعل نزعتها إلى البقاء والاستمرار يتولد من جانب الأقليات ردود فعل عكسية، إلى جانب ما تقدم، مثل النموذج الليبرالي القائم على الحرية التامة للتجارة على الصعيد العالمي، يتناقض تماماً مع الدول القومية وليس «الأمة ككل، ولعلها حين تعمد اليوم إلى تحرير التجارة عالمياً، إنما تريد بذلك إتاحة السبيل أمام بروز الهويات القومية المماثلة، يُشكل دليلاً كافياً على وجود دور لليبرالية في هذا الخصوص. فإن حرص الهوية القومية للأكثرية على ترسيخ وجودها داخلياً لا يتناقض مع النموذج الليبرالي لحرية التجارة، بل إن الأخير يعينها على التحول إلى هوية قومية شاملة لمكونات الدولة كافة. ب - أن العامل الرئيسي الذي يدفع الأكثرية المهيمنة إلى الاستحواذ على الدولة، إنما يتمثل في رغبتها في المحافظة على هويتها الثقافية ونزوعها إلى البقاء والاستمرار. وهذا الأمر ليس بالإمكان تحقيقه عملياً إلا عن طريق الاستيلاء على السلطة السياسية، ومن ثم توجيه دفة الحكم بما يتناسب والمحافظة على تلك الهوية من جهة، فكلما صعدت الدولة والهوية القومية للأكثرية من قدرتيهما الاستيعابية، وآية ذلك ما تنبه إليه ماكس فيبر بهذا الخصوص، فإنها ستواجه مشكلة آنية جديدة، وهي كيفية استخدام المظاهر الحيوية لقوتها داخلياً ضد مطالب الهويات القومية الأخرى والنجاح الأكثر بروزاً في هذا الاتجاه يتمثل في دفع الأمة لأعضائها نحو الاستحواذ على مراكز النفوذ والامتيازات. سيتوجب عليها التخوف من صعود شعوب أخرى وحركات قومية أخرى ساعية إلى تحقيق الغاية ذاتها لأنها هي الأخرى تبتغي الاستحواذ على الدولة وإكسابها رموزها وخصالها الثقافية وسبب ذلك هو أن كلا النوعين من الجماعات مدفوع بالباعث المحرك نفسه المتمثل في الهوية القومية. بل هي عملية لم تزل متواصلة بحكم التنافس القائم بين الطرفين على الدولة بذاتها أو الانفصال عنها وبذلك يتفق كاتب السطور مع ما ذهب إليه باريخ مسبقاً من أن الدولة - الأمة، وتحديداً الجماعة المهيمنة على مركزها، ومثل هذا الوضع يصح على الدول الليبرالية وغير الليبرالية، فكل منها تحاول ان تميز مجالها العام وتضفي عليه سمة قومية واضحة، فإن تلك السياسات قد لا تتضمن انتهاكاً للحقوق الفردية الأساسية، إلا أنها في ذات الوقت تعدّ وسائل لتهديم أمة أخرى سواء من حيث مقاصدها أو من حيث نتائجها، وفقاً لتعبير كيملكا ولعل من أكثرها أهمية ما يأتي : فإنه يهدف في عين الوقت إلى هدم أمة أو ربما أمم أخرى، لأن السياسات المعتمدة في هذا المشروع تصب نظرياً وعملياً في خدمة هوية واحدة جامعة، وذلك لاعتقاد هذه الأكثرية بأن الأقليات إذا ما تمكنت من المحافظة على ثقافاتها المميزة، واستقلت ذاتياً عن المركز، وربما ستدشن كل أقلية مشروع بناء الدولة - الأمة وبالمراحل والسياسات ذاتها عادة، وكذلك الرغبة العامة في خلق أمة متجانسة للذين حكما المحاولات الرامية إلى قمع التنوع الثقافي، بل إنهما يشيران إلى ذلك التفاوت الكبير في حيازة السلطة السياسية والمكانة ما بين جماعتين أو أكثر داخل دولة ما وذلك بفعل اللامساواة الاقتصادية، لأن أشكال اللامساواة هذه ستدفع الأقلية المحرومة اقتصادياً و سياسياً وثقافياً إلى البحث عن مخرج لوضعية الأقلية - الأكثرية، ولهذا يعتقد كيملكا بأنه من الأجدى تسمية هذه الدولة بـ دولة بناء الأمة» أو «الدولة المؤتمةبدلااً من مفهوم الدولة -الأمة، ومن ثم فإن عملية البناء هي في حقيقة الأمر عملية مستمرة، ونظراً إلى ذلك، فهذه الدولة، 1 د - إن الهوية قد أصبحت شأناً من شؤون الدولة، فهي التي تضع لها القواعد والضوابط وتتعامل بموجبها مع الهوية على نحو مباشر، أو أنها بعد قبولها لشكل معين من التعددية الثقافية تقوم بتعيين هوية مرجعية يتم بموجبها تحديد الهوية الشرعية والوحيدة للدولة، ومثال ذلك حالة الولايات المتحدة . ومن ثم الحفاظ على استمرارية هذا الوضع، حيث إن ما يفصل بين جماعتين عرقيتين تعيشان مثلاً في مجتمع واحد هو الاختلاف الثقافي جنباً إلى جنب إرادة كل جماعة منهما ورغبتها في التميز، فكراً وممارسة، على أساس إرادة جماعية واعية بذاتها وذات مشروع هادف، وفي كلا الحالين قد لا تنتهك الحقوق الفردية الأساسية، نلاحظ أن الكيفية التي تتفاعل بموجبها عملية تكوين الدولة وعملية بناء الأمة كيفية تدور حول الهوية القومية للأكثرية. لتغدو كل منهما صورة عن الأخرى، بحيث تبتغي تلك الهوية القومية من وراء ذلك التحوّل إلى هوية جامعة عبر صهر كافة المكونات الثقافية فيها وتحولها إلى وحدة ثقافية واحدة. سواء التي توجد منها داخل أوروبا أو خارجها، أصبحت تطالب اليوم بالحفاظ على خصوصياتها الثقافية وبوجوب التعامل معها بوصفها شريكة للأكثرية في الدولة -الأمة، ومع ذلك، مما يعني أن هناك علاقة جوهرية بين ظاهرة انبعاث الهويات والدولة - الأمة. وكذلك رموز الهوية الأخرى، حتى غطاء الرأس، لأن الثقافة لها أهميتها، تحاول الشعوب والأمم أن تجيب عن السؤال المهم : من نحن؟ وتأتي الإجابة عنه دائماً بالأسلوب التقليدي الذي اعتاده البشر، هذا التصور في مجمله قائم على أساس الخوف من أن يؤدي هذا البروز المفرط للتباينات الثقافية إلى انبثاق فسيفساء من الكيانات الإثنية والقومية داخل نطاق الدولة - الأمة نفسها، وما يؤكد ذلك ظهور عدة مؤشرات أضحت في نهاية القرن العشرين باعثة على إثارة ذلك الخوف والقلق، ومنها : وتفكك يوغسلافيا عسكرياً، هناك من يسعى إلى إيجاد دولة مستقلة خاصة بالسود، تبدأ الجماعات لم شملها باستخدام كل ما هو مشترك وإيلائه أهمية كبيرة، إذ ينشط عامل التمايز والاختلاف في تحريك التباينات الثقافية التي لم يكن لها من قبل أهمية كبيرة، وتأسيساً على ذلك، فإنه يفعل نزوع الدولة نحو الاندماج واستيعاب التباينات الثقافية تموت لغات العالم بمعدل عالي جداً، إذ يوجد في يومنا الراهن ما يزيد على ٦٠٠٠ لغة في العالم، ومن المتوقع أن ينقرض نصفها مع نهاية القرن الحادي والعشرين، وفي هذا السياق، حيث إنها تقودها إلى فقدان ارتباطها اللغوي بثقافاتها الموروثة ويعني ذلك، وإذا صدق هذا الأمر، فإن الدولة -الأمة تواجه اليوم أكبر عائق يحول دون احتفاظها بوحدة كيانها السياسي وذلك بالرغم من مرور عدة قرون من الزمن على عمليات تكوين هذه الدولة سوس وكذلك الحال في بلجيكا التي تسعى فيها أقلية الوالون التي تمثل جميعاً توجه الدولة نحو الاندماج والوحدة. بينما أصبحت على الصعيد الخارجي أكثر شبهاً بفرنسا أو ألمانيا من حيث المعاصرة والعلمانية والتصنيع وثقافتها الديمقراطية والاستهلاكية، ولكن لماذا الهوية ما تزال قوية ؟ وكيف يمكن تفسير هذه الأزمة التي تعانيها الدولة - الأمة المتجسدة في استمرارية التناقض بين حركتها نحو الاندماج وانبعاث الهويات القومية والإثنية فيها التي تدفعها نحو التفكك؟ ويمكن توزيعها إلى أربعة تفسيرات رئيسية : وفي هذا الخصوص، قد أديا بالنتيجة إلى بروز نزعة البحث والاستقصاء عن هويات جديدة استناداً إلى معتقدات متشددة إثنياً ودينياً وقومياً. ولذلك أصبحت الظروف مهيأة لبروز الشعور بخوف الهوية واستمرار هذا الشعور، إذ بات الأفراد يخشون الدولة، وهذا يعني أن الخوف من إمكانية زوال الدولة أوجد حالة من الهلع ما بين المكونات الثقافية للدولة. تحكمها أكثرية لها صفات أو عادات مختلفة. وهذا ما دفع برلين إلى الاعتقاد أن ما نشهده هو تفاعل عالمي ضد المبادئ الأساسية لعقلانية القرن التاسع عشر والليبرالية نفسها. وقريباً من هذا السياق، وذلك لأن الحركات ذات الهوية الإثنية التي تبدو أنها ردود أفعال من الضعف والخوف هي محاولات النصب المتاريس لصد قوى العالم الحديث .