لعل أروع نموذج فى شعر أبي تمام يمثل هذا المزج الواسع بين ألوان التصنيع العقلية وألوان التصنيع الحسية هو قصيدة عمورية ، فقد تجلت فيها مقدرة أبي تمام في المزج بين الألوان الثقافية القائمة والألوان الفنية الزاهية ، إذ تدور مجموعة الألوان الأولى في أوعية المجموعة الثانية ، فإذا هي تتحول إلى ألوان فنية جديدة ، وكأنما أبو تمام شاعر الألوان والأضواء فى اللغة العربية وهي ألوان وأضواء قائمة ، بل هو شاعر الرسم والزخرف والتنميق ، أو أن زخرفه مادة وحس فقط بل إن زخرفه - قبل كل شيء - فكر وفلسفة وعقل وكشف عن حقائق الحياة في أعماقها وأغوارها . كان أبو تمام يزاوج بين العقل والحس ، ولكنه تعبير يفضى بالإنسان إلى فكر عميق ظهر فى شكل زخرف أنيق . وإن الباحث ليعجب كيف استطاع أبو تمام أن ينهض بفنه إلى هذا المدى من التعبير عن الفكر والزخرف جميعاً ، فليس هناك من فارق عنده بين الفكر والزخرف ، إن الفكر نفسه يصبح زخرفاً يزخرف به نماذجه ، وأنظر إليه يستهل قصيدة عمورية على هذا النمط : السيف أصدق إنباءً من الكتب في حده الحد بين الجيد واللعب بيض الصفائح لا سود الصحائف في متونهن جلاء الشك والريب (۱) فإنك تراه يؤمن بتفوق السيف على الكتب ألم تقل الكتب ويقل معها المنجمون إن المعتصم لا يفتح عمورية فى الوقت الذي اختاره لمهاجمتها ، ولكنه لم يستمع لقولهم وهاجمها وانتهى هجومه بفتحه العظيم ؟ ويأتى أبو تمام فيتحدث عن علم التنجيم هذا الحديث الساخر الذى يفضل فيه السيف على الكتب والقوة على العقل ، ويستمر فيهزأ بما يذكره المنجمون من أيام السعد والنحس، وما يذهبون إليه من تقسيم الأبراج إلى ثابتة ومنقلبة وتحكيمها في طوالع الناس والأحداث ، وهنا نتبين أثر ثقافته الفارسية ، وظهرت في هذه القصيدة آثار أخرى مختلفة للثقافات الإسلامية والعربية واليونانية ؛ من جهة أخرى . يقول في وصف يوم الموقعة : تتصرح الدهر تصريح الغمام لها… عن يوم هيجاء منها طاهر جنب لم تطلع الشمس فيه يوم ذاك على … بان بأهل ولم تغرب على عرب ما ربع مية معموراً يُطيف به … غيلان أبهى ربي من ربعها الحرب ولا الحدود وقد أدمين من خجل… أشهى إلى ناظر من خد ها الترب سماجة غنيت منا العيون بها… عن كل حسن بدا أو منظر عجب وعلى هذه الشاكلة يستمر أبو تمام فى هذه القصيدة فيجعلك تحس باستعلائه على الشعراء ، إذ يمزج بين الثقافات وألوان الشعر مزجاً طريفاً ، فأنت تراه في البيت الأول يعمد إلى عنصر قديم هو عنصر الحلب ، فيحوره تحويراً جديداً إذ يضيف إليه العسل فيعطيه طعماً طريفاً . وتراه يخرج من ذلك إلى الحديث عن الصراع بين الإسلام والمسيحية وهو فى أثناء ذلك يغمس الشعر في الطباق بين الصعد والصبب ، ثم لا يلبث أن يخرج إلى وعاء التشخيص يعبر به عن عزة عمورية وما دهاها ، تلك السيدة الفاتنة التى كانت تدل على الملوك والأكاسرة، عرضاً فنياً إن صح هذا التعبير ، حتى التاريخ يتحول بطريقة غريبة إلى لون من ألوان الفن . وقد جاء بالإسكندر ليدل على ثبات عمورية وقدمها ، ونحن نحسها دائماً في صياغته العقلية وما أشرنا إليه من استخدامه لنوافر الأضداد التى نشرها في جميع أشعاره . وما يزال أبو تمام يلائم بين هذه الثقافات وعناصرها من فارسية وعربية وإسلامية ويونانية ، وهو يغمر ذلك كله في ألوان تصنيعه من جناس وطباق وتشخيص ، ونستمر حتى نجد تلك الصورة التي يصور فيها الأجيال تمخض عمورية مخض البخيلة حتى كانت زبدة الدهور ، ولكن أذواقنا لا ترفضها ، وكان أبو تمام كثيراً ما يعرض مثل هذه الصورة بحكم تصنيعه وتعمقه في مذهبه . ونراه بعد ذلك يستخدم نوافر الأضداد ، فهذه عمورية كانت تفرج الكرب ، وهي اليوم تسببها ، وهي عناصر عربية ، ولكن أبا تمام كان يعرف كيف يوحد بين عناصر الثقافات المختلفة في عصره ، ويكون منها هذا الزخرف الفني الغريب الذى ما يزال يرضع به قصائده على أشكال صور شتى. وإذا مضينا فى القطعة وجدناه يعنى بالتدبيج إذ يقف عند الدم السرب ، وحينئذ يعمد إلى المقابلة، وأنت ترى فى ذكر السنة هنا شيئاً من العناصر الإسلامية . فيصفه بأنه يوم ذليل الصخر والخشب ، ونراه يستمر فى الحديث فيصف النار وهي مشتعلة في عمورية آناء الليل ، وما أجمل تلك الصورة التي جعلها ترسخ فى أذهاننا بقوله : أو كأن الشمس لم تغب ! وهنا تطل علينا من بين أبياته ثقافته الدينية إذ يستغل قصة يوشع التي تذهب إلى أن الشمس تأخرت من أجله عن مغربها ، فكأن هذا يوم يوشع ! إنه يوم المعجزة الكبرى في تاريخ العرب ، يوم عمورية . وإنه ليعجب حين يذكر نهار هذا اليوم وليله ، أما نهاره فظلمة من دخان في ضحى قاتم ، يل في ضحى النار في شاحب ، وأما ليله فضوء من ظلام عاكف ، وإنه لتعلوه الحيرة ، في الشمس طالعة وقد رآها غاربة، والشمس يراها غاربة وهي غير غاربة ، أرأيت إلى وصف هذا الحريق وما استخدم فيه أبو تمام من ألوان التجسيم والطباق ونوافر الأضداد ؟ إن أبا تمام كان يحكم استخدام الألوان في فنه إحكاماً شديداً فإذا هو يستخرج منها هذا الزخرف النادر ونراه يتحدث بعد ذلك عن هذا اليوم الطاهر الجنب وما فيه من الزواج والعزوبة ، وهى فكرة كانت تروق الجيش الظافر الذي اقتسم السبي ، وقد استخدم فيها التعبير بنوافر الأضداد ليكسبها ضرباً من الروعة الفنية . وأخيراً يعرض علينا هذه الصورة الغريبة التي مزجها بعناصر قديمة ، فهذه عمورية على ما بها من الحرب وعلى ما أصاب خدها من نمش النار وتشويه الدخان أحب في عينه من ربع مية فى عين ذى الرُّمة الذي عاش يتعبد جمالها و يتغنى بوصفها ، واستمر في القصيدة فسترى الدلاء والأوتاد والطنب تأتى لتعبر عن أروع الأفكار ، كأن يقول هذا البيت الذى سبق أن عرضنا لما فيه من رمز : إن الحمامين من بيض ومن سُمرٍ… دلوا الحياتين من ماء ومن عشب