آيته همود في الجسم وثقل في الدماغ ووهن ـ يشتد حينًا ويخف أحيانًا ـ في الساقين، وقال له الطبيب ـ بعد أن فحصه بدقة وعناية ـ إنه مصاب بضغط الدم وأشار عليه بالتزام الراحة أيامًا وبالاقتصار علي الطعام المسلوق والفواكه، وقد يكون هذا ـ في ظاهره علي الأقل ـ غريبًا لأن الضغط لم يكن شديدًا، ولأنه من الأمراض التي يمكن تلافي خطرها بالعناية والحرص في اختيار الطعام والطعام والشراب، ولأن محمد أفندي شاب في الخامسة والثلاثين فلا ينذره الضغط بما ينذر به ذوي الستين أو السبعين. والأعجب من هذا كله أنه لم يكن غافلاً عن هذه الحقائق ولكنه في الواقع لم يخش المرض في ذاته قدر ما خشي التاريخ أعني تاريخ أسرته. فهو يذكر أن أباه أصيب بالضغط وهو في مثل عمره تقريبًا ويذكر أنه لم يقاومه طويلاً فساءت حالته وأصابه الشلل فقضي في عنفوان شبابه وقوته. ولم يكن موت أبيه في عنفوان شبابه حادثًا غريبًا في أسرته، فهكذا قضي جده من قبل ولم يجاوز الأربعين. ولكن صورة المرحوم المعلقة بحجرة الاستقبال أثر باق يشهد بالشبه العظيم بين الابن وأبيه، وإن الناظر إلي الصورة ليقتنع بهذه الحقيقة التي تدل علي أثر الوراثة. فالجبهة المربعة والعينان العسليتان المستديرتان، جميع هذه معالم مكررة بين صورة الراحل والشخص الحي كالأصل وصورته، وكأن صاحب الصورة هو محمد نفسه في ثياب بلدية. ولا مراء في أن الشبه بينهما لم يقف عند حد الشكل فطالما سمع والدته تنوه بأوجه الاتفاق بينه وبين أبيه في الخلق والطبع في المناسبات المختلفة. أو إذا جلس إلي الحاكي ينصت في انتباه ويهز رأسه في طرب قالت وهي تبتسم له: «ابن حلال يا بني. » أو إذا رجع إلي البيت بعد منتصف الليل بعد منتصف الليل ثملاً مترنحًا استقبلته قلقة حزينة وتصيح به وهي تغالب دموعها «إن جرح قلبي لم يندمل. فلا تفجعني فيك كما فجعت في والدك من قبل. فهو صورة صادقة لوالده في شكله وخلقه وطبعه وها هو ذا يرث عنه مرضه. فلم لا تكون نهايته كنهايته؟ فليس إذًا هذا المرض من المصادفات المحزنة. وما هو إلا معيد تمثيل الدور القصير الذي قام به من قبل المرحوم والده، وما مرضه هذا إلا سبب تعتل به الطبيعة عليه لتنفذ قضاءها المحتوم من شجرة أسرته البائسة المقضي عليها بالذبول والجفاف في إبان ربيعها. وجعل يردد فيما بينه وبين نفسه: «الشكل واحد والخلق واحد والسيرة واحدة والمرض واحد فالنهاية واحدة دون ريب»، وتشبث وجدانه بهذه الأفكار فقويت عقيدة الموت في نفسه وملأت شعوره فتمثلت له حقيقة لا تتزحزح، إننا جميعًا نعلم أننا سائرون إلي الموت ولكنا لا نذكر هذه الحقيقة إلا حين حوادث الوفاة أو لدي زيارة المقابر وفي الساعات النادرة التي نستسلم فيها للتأمل. لم يشعر بهولها من قبل. تري ما هو هذا اللغز الغامض؟ وما كنهه؟ وما حقيقة الروح التي ستفارقه بعد زمن يسير وتصعد إلي بارئها؟ وذكر عند ذاك الآية الكريمة «يسألونك عن الروح قل الروح من أمر ربي وما أوتيتم من العلم إلا قليلاً» أما هو فلم يأت من العلم كثيرًا ولا قليلاً، أو جثة كما يقولون. ودلف إلي المرآة وألقي علي وجهه نظرة ملؤها الأسف والحزن. والأدهي من ذلك أنه لم يشبع من الدنيا وأحس في تلك اللحظة كأنه لم يبدأ رحلة حياته بعد، وود من أعماقه لو تتاح له فرصة فيعيد الكرة، كلا إنه لم يشبع من الدنيا ولم يتمتع بحياته كما ينبغي له. وإنه ليسأل نفسه وسط حزنه وأسفه وبأسه: «ماذا صنعت بحياتي؟» فيعييه الجواب كأنه ولد بالأمس القريب، فلا يكاد يظفر فيها بما يجوز أن يعده من السعادة الصافية التي تطيب بها الدنيا وترجي لها الآخرة. وما يتبقي من الوقت ما يتيح الفرصة لإصلاح فاسده والتكفير عن سيئه.