وسكونٌ أطبق على شفتيه. بحث عن الزاوية المعتمة في نفسه. وافترش الوحدة غطاءً له في منتصف الليل. جلس عند جدار متهالك لم يقه برد الشّتاء. ثمّ غرق في بحر التفكير المتلاطم بمآسيه. مدّ ذراعه ولوى عنقه على صخرة صمّاء لم ترأف به، والتحف السماء الملبدة بالغيوم، وصوت الريح الباردة تتأفف منه. ومضى شاردًا بخياله: "لماذا لا أكون معهم!". يُنصت لصوت خفي يهمس له من بعيد: "حاول مرة تلو الأخرى. بل ازداد في فراغ الفقر. فدار جدل ملتهب مع تلك الأسئلة التي تغيب في إغفاءة، وعلى رغم قصر اللحظة تنقضّ تهاجمه: "لماذا لا ترضى بذلك؟". حاول عصر ذهنه واستجماع حواسه ليعرف الإجابة، التي ربما تثمر في قلبه مستقبلا ضائعاً. فافترسته الحقيقة. وأكل الضعف من فؤاده، وتعبّأّت روحه بالظلام، حينما تذكر تلك الوجوه المفترسة التي تحوطه؛ لتشبع رغبتها من جمال محياه الذي أفل نوره. هاجمته تلك النوايا المتحجّرة، ونهض من شروده. أوغل في ماضيه المجهول. وغاص في دوامة تفكيره من جديد، وتخيّل صوت أبيه الذي لم يسمعه مذ كان جنيناً يخاطبه: "لا تصبح نسياً منسياً". وتاه في فكره. وسار وحيداً للحظات، والأفكار والرؤى تتصارع في داخله . لاحقته. ولمح حشداً عنده، ورأى طفلاً يدس رأسه ضمن الرؤوس، حملوه مسرعين للمستشفى، ثمّ تردّد قليلاً. وقال: "من سيدفع علاج المتسوّل؟". اختفى الجميع من حوله إلا ذلك الطفل الذي لم يستطيع فعل شيء سوى أن صرخ بألم باكياً. حينها جاء متسول أخذ الطفل ودفع الفاتورة ومضى.