فإذا تولى عليها ملك غير ملكها رحبت به أملًا بأن الخلف يصلح ما أفسده السلف، وكثيرًا ما تدفع تلك الأمنية بعض الولايات إلى سل السيوف في وجه ملكها القديم، فيثور أهلها ثورة حاسمة قد يتمكن بها الطامعون من الاستيلاء على الولاية الثائرة، وغني عن البيان أن موقف المغتصِب يبقى في البلاد حرجًا مهما كان عادلًا في أحكامه وقويًّا بجنده وعدده؛ لأن أهل الولاية المغتصَبة يبقون على عدائه ما دام في بلادهم، وكذلك لا يتمكن المغتصِب من اكتساب إخلاص جماعة الخائنين الذين مكنوه من بلادهم؛ ومهما تكن قدرته في المال والرجال فلا يمكن أن تستقيم له حال إذا لم يكن مع أهل البلاد على أتم ما يكون من الصفاء والوداد، ووجدوا من شره ما أبعد قلوبهم عنه، فاستسلموا من تلقاء أنفسهم للأمير «لدويج دي سفورزا» وأسلموا إليه قيادهم. فيسلك بعد في سياسة الولاية المتهورة طريقين؛ الأولى: أن يمد يده بالعقاب لمن يسببون القلاقل ويخلقون المشاغب. كما كانت قبل عرضة لسهامه فيتمكن منها وفق مرامه، أما في المرة الثانية فإنه لم تتمكن دولة من اغتصاب ميلانو من فرنسا قبل أن اتحدت دول أوروبا عليها، على أن هذا الاتحاد القوي لم يضعف من عزم فرنسا، ولم يكن هذا الفوز المبين إلا أثرًا من آثار السياسة الثانية، سياسة تقوية أماكن الضعف في هيئة الحكومة، ولضياع ميلانو من يد فرنسا في المرة الثانية أسباب لا بد من ذكرها وشرحها كما ذكرنا أسباب خروجها من يدها في المرة الأولى، وسنستطرد إلى ذكر الأمور التي كان يجب على فرنسا فعلها لتحتفظ بميلانو وذكر ما كان يفعله ملك آخر لو كان مكانها. غني عن البيان أن كل ولاية تفتح قد تكون متحدة والدولةَ الفاتحةَ في الجنس أو اللغة أو غيرهما من الروابط وقد لا تكون، فإن كانت الجنسية هي الرابطة فاستيلاء الدولة على الولاية سهل سيما إذا كان أهلها ميالين بطبعهم إلى تحرير أعناقهم، ويكفي لسيادة الدولة الفاتحة على الولاية المفتوحة انقراض الأسرة المالكة القديمة في تلك الولاية؛ وذلك لأن الحال تبقى على ما كانت عليه من قبل، فلا تتبدل الأخلاق ولا تتغير العادات، ولا فرق بينها وبين أهل فرنسا إلا في اللغة، فإن هناك بونًا طفيفًا في اللهجة، وقد سارت فرنسا في تملُّك تلك الولايات على الطريقتين السابقتين، فسعت أولًا في إهلاك الأسرة المالكة، وأبقت على القوانين القديمة والشرائع السالفة، أما إذا كانت الولاية المقهورة تختلف عن الدولة القاهرة في اللغة والأخلاق والقوانين، لأن القاهر يحتاج في مثل تلك الولاية إلى حظ وافر وعمل مستمر ليتمكن من الاحتفاظ بالولاية المقهورة، وخير وسائل الاحتفاظ بها أن ينتقل الفاتح إلى الولاية الحديثة ويعيش بين أهلها، ولنضرب للقارئ مثل الأتراك وبلاد اليونان فإن كل الوسائل التي استخدمها الترك لإبقاء بلاد الإغريق تحت سلطتهم لم تكن لتفيد لو لم يقطنوا البلاد ويعيشوا بين أهليها، فيسعى في تلافيها قبل أن يتسع الفتق على الراتق، ومنها أن عمَّال الفاتح على الولاية يرونه أبدًا نصب أعينهم فيتقون غضبه إذ هم حادوا عن الطريق المستقيم، ولا خوف من ذلك على الفاتح ما دام هذا النفر القليل المسلوب الحق ضعيفًا؛ ولا يستطيع كذلك هؤلاء الأقلون أن يثيروا غضب الأكثرين ممن لم تُغتصب أملاكهم لأن من لم يُغلب على أمره في متاعه لا يكون كمن غُلب، سهل على الفاتح تسكين ذلك الغضب، فهم أبدًا يخشون أن يُصنع بهم ما صُنع بغيرهم من قبل من الظلم والاغتصاب، فيخلدون إلى السكينة ويرضون بما يُمنحون. ويكون الفاتح — كما تقدم — آمنًا شرَّ من اغتصب أملاكهم لتأسيسها ما داموا مشتتين، وهنا أود أن ألفت نظر القارئ إلى قاعدة سياسية، وهي أنك إذا أردت أن تريح نفسك من رجل فاعمد إلى إحدى طريقين؛ وهي أنهم يحاولون دائمًا أن ينتقموا من أعدائهم لما ينالهم من الأضرار التافهة، ولكنهم لا يقدرون على الانتقام لأنفسهم ممن ينالهم بأضرار كبيرة، وقد فضلت تأسيس المستعمرات على تأسيس الحاميات، دع ما يولده بقاء الجند الفاتح في البلد المفتوح من أسباب الحقد والبغضاء بين الغالب والمغلوب، لأن الولايات المغلوبة كثيرًا ما تستغيث بجيرانها، ولنضرب لذلك مثل الرومان عندما دعاهم «الإيتوليون» إلى بلاد الإغريق، فكانوا كلما دنوا من ولاية واستنجد بهم أهلها لبوا دعوتهم واستعانوا بهم على حكامهم وامتلكوها. وليعلم الفاتح القوي أنه إذا دخل ولاية جديدة فإن من كانوا ضعافًا من الأشراف والنبلاء قبل فتحه ينضمون إليه، وتمكن من قلوبهم فإنه يستطيع بقوته وبما يمدونه به من إضعاف الحاكم الأصلي فيعقد له لواء النصر، ولكن من لا يسير على درب تلك السياسة يفقد في برهة ما ربحه في عام، وأحسنوا إليهم بدون أن يزيدوا في قوتهم، وكسروا جناح الأقوياء من الملوك والأمراء، وهاك تفصيل تلك السياسة في بلاد الإغريق: فإن الرومان لما افتتحوا تلك البلاد توددوا إلى إتشاي وإتيولي، وكذلك لم يسمحوا لأنتيوكوس بالعود إلى بلاد الإغريق، فيعدون له عدده ليتقوا ما يمكن أن يكون؛ فيكون مثلها كمثل حُمَّى الدق التي يصعب على الأطباء اكتشافها في بداية أمرها، ولكنها إذا تمكنت سهل اكتشافها واستحال علاجها، والأدواء المعنوية التي تشبه تلك الحُمَّى في تدبير الممالك كثيرة، أما إذا لم يكن على رأس السياسة رجل كما وصفت فلا يبعد أن تقع البلاد في هاوية. وفيها رجال يحسبون للمستقبل ألف حساب، ولم يكن خوفهم من الحرب ليقف في وجه تلك السياسة الحكيمة؛ وأن تأجيل الحرب ربما يفيد العدو فيستعد ويتأهب بما لا يوده الرومان؛ ولهذا السبب أشهروا الحرب على فيلبس وأنتيوكوس في بلاد الإغريق ليتقوا محاربتهما في إيطاليا، على أن ساسة الرومان كانوا يستطيعون بما اكتسبوه من الحكمة والخبرة أن يتقوا تلك الحرب، وأن يوكلوا للأيام ما أوكلوه للرمح والحسام، ولنعد الآن إلى فرنسا لنرى هل سارت على درب الرومان؟ وهلَّا اقتدى ساستها وملوكها بساستهم وملوكهم؟ ولنضربن بالملك «لويس» مثلًا، فإنه هو الذي طال عهده في إيطاليا، لأنه خالف تلك السياسة على خط مستقيم، وغنيٌّ عن البيان أن أهل «البندقية» هم الذين استنجدوا بالملك لويس ليقاسموه ولاية «لومبارديا» على أنني لا أرى حقًّا للائميه على رعونته؛ لأنه كان يود أن يوطد قدم فرنسا في إيطاليا سيما بعد أن بغَّض سلفه أهل هذه المملكة في فرنسا، ولو أن لويس استمر على سياسة النفع والوفاق ولم يفسد على نفسه بما أتاه من الأغلاط السياسية لفاز في إيطاليا فوزًا باهرًا، فلما رأى أهل البندقية ذلك فطنوا إلى حقيقة الأمر وندموا وعادوا على أنفسهم باللائمة؛ لأن طمعهم في جزء من لومبارديا أدى إلى استيلاء ملك فرنسا على أكثر من ثلثي إيطاليا، وما كان أسهل التمكن من تلك الولايات كلها لو سار الملك لويس في سياستها على الخطة التي سار عليها الرومان، وكان من اليسير عليه أن يستعين بالضعيف منها على القوي حتى يستوي الكل في الضعف والاستكانة، فإنه لم يوشك أن يستتب له الأمر في ميلانو حتى مد يد المعونة إلى البابا «إسكندر» ليحتل ولاية «رومانيا» ومن العجيب أن لويس لم يتنبه إلى تلك الهفوة مع أنها زعزعت أركان قوته، لأنه بمعاونة البابا على إحدى الولايات أضعف نفسه بأن تخلى عن ولاية محالفة كانت لا تألوا جهدًا في مساعدته أنَّى شاء، وشوكة الدين إذا قويت اشتد بها ساعد الكنيسة، وامتد نفوذها إلى السلطة الدنيوية. ولما أن هفا لويس تلك الهفوة لم يرَ له بدًّا من البقاء على خطئه، وتفصيل ذلك أنه لم يكتف بما جلبته عليه سياسته الأولى من الضعف سيما بعد أن غدر بأصدقائه ومحالفيه، بل أراد لويس أن ينال مملكة نابولي فاتحد مع ملك إسبانيا واقتسماها، وقد جنى بتلك السياسة الخرقاء على نفسه؛ لأن أهل الطمع من ولاية نابولي ممن كانوا ناقمين عليه في عهد انفراده بالملك وجدوا سواه بديلًا عنه، ولم يكتف لويس بشريكه الضعيف الذي كان يستطيع إخضاعه بل أبعده عن الملك، واستبدل به ملكًا قويًّا، وغرس مكانها بذور سلطته. أقول: على أنني لا ألوم الملوك المتطلعين للاستيلاء على الولايات؛ لأن طبيعة التملك والسيادة راكزة في نفس كل أمير، بل أراني أميل للثناء على كل راغب في مد نفوذه إذا كان يُحسن التصرف، ولكن من يحاول امتلاك البلاد وهو جاهل بطرق السياسة، فهو جدير بأن يلام على تهوره لومًا عنيفًا، وكان الأجدر به لما أن رأى عجز فرنسا عن الاحتفاظ بولاية نابولي أن يتركها مرة واحدة لا أن يشرك فيها غيره، لأن الرابطة التي كانت بينه وبين جمهورية البندقية لم يكن لها مثيل بينه وبين سواها. ومجمل القول أن الملك لويس خلط الإصابة بالغلط في خمسة أمور؛ الثاني: أنه علَّم أمراء إيطاليا كيف يتفرد ملك واحد بالملك. الثالث: أنه جلب إلى البلاد أجنبيًّا عنها قويًّا عليها. الرابع: أنه لم يسكن إيطاليا ليتقي بقربه ما يخشى حدوثه على البعد. بَيْدَ أنَّهُ كان في استطاعة الملك لويس أن يتقي ما نجم عن تلك السيئات السياسية لو أنه لم يقترف السادسة، فإنه — لا در دره — اغتصب السلطة من أيدي أهل البندقية وغلبهم على أمرهم بعد أن فرت فرصة مثل هذا العمل، ولم يُدخل إلى إيطاليا مَن أدخل من ملوك إسبانيا، لكان ذلك من الحكمة وحسن السياسة بمكان عظيم؛ أما وقد فعل تينك الفعلتين فكان الأجدر به أن يساعد جمهورية البندقية لتكون درعًا يحمي لومبارديا من عداء المعادين ومناصبة الفاتحين، لأن أهل البندقية لم يكونوا ليسمحوا لفاتح أن يمد يده إلى لومبارديا لما لهم فيها من المآرب، وكذلك لم يكن أحد ليحاول فتح تلك الولاية ليسلمها إلى البندقية طائعًا مختارًا ثم يذهب راشدًا مهديًّا، أقول: وإذا التُمس للملك لويس عذر في منحه رومانيا «للإسكندر» وتنازله عن المُلك لإسبانيا؛ وهو أن السلطان العاجز هو الذي يهمل أمر ما يحدث في ملكه من القلاقل التي تورث الحرب ليتقيها؛ لأن الحرب لا تُتقى بالإهمال، إنما يمهله أعداؤه إلى أجل مسمى، وإذا التُمس العذر للملك لويس بما وعد به البابا إذا عاونه على تطليق زوجته، لأن لي في عهود الملوك ووعودهم رأيًا سأبديه. وليس في ذلك غرابة لأن لكل شيء في هذا الكون قانونًا، على أنني لما لقيت الكردينال روهان في «نانت» حادثته في هذا الشأن، وكان ابن البابا إسكندر يعمل في ذلك الحين لاحتلال رومانيا، فقال لي الكردينال في عرض كلامه: إن الإيطاليين لا يعرفون فن الحرب. لأنهم لو عرفوه ما استطاعت الكنيسة أن تنال في عهد ملكهم ما نالته من السلطة والقوة، وقد دلت الحوادث على أن فرنسا هي مانحة تلك القوة، وهي التي دعت إسبانيا إلى إيطاليا، فكانت كالباحث عن حتفه بظلفه، وتنشأ عن ذلك نظرية — قلَّ أن تخطئ — وهي أن القوي الذي يعمل لتقوية الضعيف يسعى إلى الموت بقدمه؛ لأن ما يكون في يده من القوة لا يخفى منشأه عن خصيصه،