اسمي كاتسوهيكو تاكاهاشي. بدأ كل شي في عام 1967 باتصال هاتفي من سفير اليابان في الكويت دكتور كاتوسوهيكو، يرغب الشيخ زايد في كان الأمر يتعلّق حسب الدبلوماسي، بالمساهمة في بناء عاصمة بلد لم أسمع به من قبل أبوظبي. ولما سألت موظف شركة الطيران الأمريكية عن المكان أجابني: «هذه مدينة عندما وصلت في 17 سبتمبر 1967 لاحظت على الفور أنهم بصدد تحويل قرية صيادين إلى مدينة حديثة. حصلت للتو على دبلوم الهندسة من المدرسة العليا للهندسة المعمارية بجامعة كولومبيا، في تلك السِّنّ يغلب على المرء الطيش والصلف الملازمان للشبيبة. وما زلت أسمعني أرد على الشيخ زايد يوم أطلعني على أفكاره قائلاً له: «لقد وظفتني لأني أملك الخبرة التي لا تملكها أنت عليك إذن أن تُصغي إلي». حين أفكر في ما قلته أجد به أنني كنت بلا شك مجنوناً. وبصفتي سليل عائلة عريقة من المحاربين اليابانيين القدماء، كما فعلت أنا مع الشيخ زايد، يصبح مجبراً على الانتحار بطريقة الهاراكيري. لكن في ذلك الوقت كان معظم المستشارين المحيطين بالشيخ زايد يمتدحون بانتظام كل ما يقترحه ولا أحد يجرؤ على معارضته. أتخيل إذن أنه بدل أن يشجب صراحتي كان يجب أن تعجبه. كان الرجل المعياً ومنفتح الذهن على نحو لا يُصدق. لكن غالباً ما كنا على خلاف. أنا متأثر بالمعمار الحديث وفقاً لأسلوب كوربوزييه في البناء، وهو لا يميل إلى الضخامة المشهدية إطلاقاً. التعليم. ومخططات جمالية عمرانية. ولما كان متأثراً بما شاهده في نيويورك كان يريد أن يعطي مدينته جادات عريضة مستقيمة، لم تكن هذه وجهة نظري. أصبحت علاقتنا أكثر تعقيداً يوم اقترحت عليه نقل العاصمة إلى منطقة المفرق، وتحويل الجزيرة (حيث العاصمة الأصلية) إلى مواقع سياحية مؤلفة من فيلات ومرفأ يصلها باليابسة طريق إسفلتي. مهندساً موهوباً. وكان أن توجهت نحو منظمة الأمم المتحدة للتنمية. هذه المرة كنت أريد مهندساً عربياً مختصاً بتخطيط المدن. لقد مللت الاستعانة بمترجم دائماً. ثم إن اللغة كلما كانت غنية كانت أكثر استعداداً للتعبير والإبداع، وتلك هي حال اللغة العربية. أياً تكن مقدرة من يتولى الترجمة لا بد أن تفوته الفروق الدقيقة دائماً. اقترحت علي الأمم المتحدة مهندساً معمارياً. هو الدكتور عبد الرحمن حسنين مخلوف ابن مفتي القاهرة الأكبر، الذي لم يكن قد حلَّ بعد. لم يضع الدكتور مخلوف وقته منذ اللحظة التي حلّ فيها عندنا. وفي هذا نقطة إيجابية لصالحه في نظري. بعيداً عن الوسط نسبياً. لا أملك أي تصميم للعاصمة. أجابني بأن هذا لا يطرح أي مشكلة، وأنه قادر على وضع تصميم في مهلة أسبوعين. أعترف بأنني بدوت كالمتشكك. غير أن هذا ما فعله مستعيناً بالمخطوطات الإجمالية التي وضعها من سبقوه، لم ينجح في احترام المهلة التي التزم بها فحسب بل نجح أيضاً في تحويل وحدات القياس الإنجلو-سكسونية إلى النظام المتري. حظي الرجل بتقديري فوراً. من بين كل مخططي المدن الذين قاربتهم لا شك في أن مخلوف كان أكثر من وثقت به بكل موضوعية. لا أظن أن ثقتي به كانت لكونه عربياً ولا لكونه مسلماً، على لون بشرته. ذلك أننا خلق الله وخياره جميعاً. كان مخلوف متأثراً جداً بالفيلسوف اليوناني أرسطو الذي كان يرى أن الدولة المثالية يجب أن تكون من أجل سعادة مواطنيها في المقام الأول. وتخطيط المدن مهمة اجتماعية قبل كل شيء. كان لمخلوف معلمون درسوا في جامعات فرنسا وليس إنجلترا وهم من كبار المهندسين المصريين. نصحه أحدهم بالذهاب إلى ألمانيا والانتساب إلى جامعة ميونيخ. آنذاك كانت عملية إعادة الإعمار قائمة على قدم وساق في ألمانيا التي دمرتها الحرب. وقد نصحه مرشده: «إذا أردت أن ترى التخطيط الحضري وهندسة المستقبل فهناك !». وطاقاتهم، وجديتهم. كانوا يعرفون ماذا الذي يريدون وكيف يصلون إلى الهدف المحدد. كما تأثر بحمية الناس المشاركين في أشغال إعادة الإعمار، وبالاهتمام الذي يولونه لإعادة بناء مدنهم كما كانت قبل الحرب. وقر في ذهني أن تلك التجربة قد وسمته بطابعها يشهد على ذلك عمله عندنا. سرعان ما عينته رئيساً لدائرة تخطيط المدن، وهو منصب شغله بكفاءة عالية شرفه بها. كان يرى أن عاصمتنا يجب أن تكون قادرة على استيعاب 250 ألف ساكن، كان مخلوف مقتنعاً بأننا سوف نشهد توسعاً عمرانياً هائلاً. كنا أنا وهو مخطئين: اليوم، في هذه السنة 2004، تضاعف هذا الرقم مرتين. كنت أرغب في أن تحترم أعمال البناء شرطاً جوهرياً هو التماسك الاجتماعي. رغبت أيضاً في أن تكون المنازل قريبة من المساجد، يساعده مساح واحد، ورسام واحد. منحته جنسية بلادي. أعلم أنه احتفل حديثاً ببلوغه سن الثمانين. يتمتع بصحة جيدة ويعيش في القاهرة. العمل عندنا خبراء جدد ومؤسسات جديدة، مثل ليو كاثر إنترناشيونال المحدودة، في موازاة ذلك نجحت في إحاطة نفسي بشخصيات ذات كفاءة عالية، أمثال الدكتور عدنان الباجه جي. شغل الرجل في الفترة - 1959 1965 منصب وزير خارجية العراق، لم أتأخر في تعيينه وزير دولة. شخصية أخرى، عزيزة علي، لكن ما المصادفة إن لم تكن مشيئة الله الخفية؟ أؤكد: للمرة الثانية»، هناك التقيته. من حياء لن أذكر اسمه وسأدعوه نشيبي". من أصل فلسطيني، بعد حرب 1967 لم يعد بإمكانه العودة إلى بلاده، إنترناشيونال المحدودة، ومقرها لوس أنجلوس. في موازاة ذلك نجحت في إحاطة نفسي بشخصيات ذات كفاءة عالية، ونظراً لما يتمتع به من مكانة وخبرة دبلوماسية، وللعلاقات الواسعة التي نسجها على المستوى الدولي خلال حياته المهنية، لم أتأخر في تعيينه وزير دولة. رافقتني أيضاً في مسيرتي الطويلة. لكن ما المصادفة إن لم تكن مشيئة الله الخفية؟ أؤكد : للمرة الثانية»، لأن الأولى كانت في عام 1966 عندما زرت سفارة الأردن في لندن. هو ابن السفير، وكان يُعد رسالة لنيل الماجستير في الاقتصاد. ونظراً لما يتصف به من حياء لن أذكر اسمه وسأدعوه نشيبي. كان، مثل أبيه من أصل فلسطيني، فقرر القدوم ولما كان يتكلم عدة لغات من بينها الفرنسية والإنجليزية فقد عرض خدماته على بعض الصحف على أساس العمل بالقطعة، وفي أبريل 1968 اتصل بي فريق إنجليزي يعد لعمل وثائقي ويرغب في إجراء مقابلة معي. وكان نشيبي هو الرجل المثالي. هكذا التقينا للمرة الثانية. لم يتركني نشيبي قط. شغل منصب مدير الإعلام، وأصدر أول صحيفة باللغة الإنجليزية في بلادنا الناشئة. وكان حافظ سري، ومستشاري، بوجه خاص. يوماً بعد يوم كنت أرى أرضنا تغير وجهها. في الباطن حل المطار الذي كنا في أمس بمواصفات دولية، وعلى طرف شمال شرق الجزيرة يوشك أن يظهر مرفأ جديد والممر المعبد بالحجارة والطين المجفف الذي أمرت ببنائه في المقطع قبل بضع سنوات لم يعد سوى ذكرى يمتد مكانه اليوم جسر رائع بطول ثلاثمائة وبأربعة مسالك. وكنت في خضم كل ذلك حريصاً على عدم اقتلاع أشجار أرضنا التي تفيأنا بها وتحملت معنا قسوة الحياة، والمستشفيات الأولى، وصالات السينما الأولى والمدارس الأولى للبنين وكما وعدت زوجتي المدارس الأولى للبنات. الملابس ذات الزي الموحد، وتشجيعاً للتلاميذ على المواظبة في الحضور خصصت لكل منهم ستة دولارات يومياً. والصرف الصحي تنتشر سريعاً، مرات في غضون عشرين سنة. والولايات المتحدة. ذات يوم، أشرت إلى فضاء مزدحم بالنخيل وأعلنت: «هناء يوما ماء ستقوم مدرسة، رؤيتي كانت في طريقها للتحقق. الأمية، أعلى درى المعرفة، والتقدم القدم، كلمات متاحف جامعات . كلما عاينت التحول الكبير الذي أطلقت له العنان تحضرني، وجوه أشخاص بقيت مغفلة زمناً طويلاً، وكل منها ساهم بطريقته، لم يكونوا من كبار المهندسين ولا الخبراء ولا الاقتصاديين، بل هم آنان بسطاء ميزتهم الأولى الكرم وعظمة من يتذكر ماما زليخة واسمها الحقيقي الدكتورة زليخة وهي مثل كثيرين، لم تكن قد سمعت بالمنطقة قبل أن تحط بها في 20 أغسطس 1964، كرمت كل وقتها للعمل من دون القطاع، احترقتها الصارات أو الأطفال الذين لعدم توافر الماء، شربوا الكيروسين خطأ، وكان عليها أن تواجه كل الحالات الطبية الطارئة: ولادة، كسور، حدري، التهاب الرئة. في الحقيقة لم يكن لديها إلا القليل من الأدوات التي تسمح تشخيص صحيح للمرض فكانت تعتمد على حدسها يوجه من مسقط طلباً للعلاج. بارك الله ماما زليخة، هي في قلوبنا دائماً. وكيف أنسى الدكتورة فروك هيرد بك، تلك السيدة الكبيرة التي حملتها ريح طيبة إلى شواطئنا عام 1967 بعد دراسة باهرة في برلين، دافید میرد. ورأيت أن من الضروري أن تحتفظ الأجيال الجديدة بأثر من ماضينا. ونظراً لعدم وجود مكان مناسب اخترت لهذا المركز جناحاً كبيراً في قصر الحصن. يعمل آنذاك في الدوحة بقطر. عرض فكرته على أحد أصدقائي الذي كان في الوقت نفسه من معاوني المقربين أحمد خليفة السويدي، الأديب والشاعر الكبير المولع بالتراث الشعري العربي لم تكن الثقافة كلمة بسيطة في نظره بل كانت وظيفته، فضلاً عن أنه يشاطرني أدرك السويدي على الفور أهمية هذا المشروع عرضه على فوافقت في البداية كان هذا المركز - المتواضع جداً - مؤلفاً من الدكتور عبد الله وثلاثة موظفين فقط، في هذا الطابق حركة المحي، والذهاب لا تنقطع تصادف فيه بدواً يحملون صقورهم على قبضاتهم، وحمالين، وكان بعض الزوار يستعيرون كتباً ثم يختفون عن الأنظار. كانت المرة الأولى التي تخطت فيها الدكتورة فروك هيرد بك عتبة قصر الحصن بعد سنة أو سنتين من قدومها إلى البلاد. العالمية الأولى. قبل لها إنها يمكن أن تحد في المركز معلومات عن مرحلة الإمارات المتصالحة فذهبت إليه وسألت الدكتور عبد الله إن كان يسمح لها بمراجعة الكتب الموجودة فوافق من دون تردد. كيف لا وهو لا يستقبل كل يوم مؤرخة مثلها، ولم تكن السيدة هيرد بك بحاجة إلى وقت طويل حتى تكتشف أنها وقعت على كثر حقيقي. ما عدت أدري أفي ذلك اليوم أو بعد فترة اقترحت أن الفرز المؤلفات وتصنفها، لم يسعد الاقتراح الدكتور عبد الله فحسب بل خصص لها مرتباً، مقداره ذات يوم علمت أن دار المحفوظات في القاهرة تحتوي على وثائق نفيسة تسرد وقائع الحملة العسكرية التي شنها محمد علي، على شبه الجزيرة العربية في القرن التاسع عشر، على إذن بتصوير الوثائق المعنية رفض طلبه لماذا؟ بكل بالاتها الناسخة. لم ينل ذلك من عزم على التاجر. واحدة واحدة، وعاد إلينا ظاهراً. يقرر آلاف الكتب المتراكمة وترقيمها وترتيبها على رفوف استوردتها من ألمانيا. بفضل هذه المرأة المدهشة، إلى مؤسسة الأرشيف الوطني، إن أناساً مثلها، هم الذين ساعدوا على التعريف بالوجه الحقيقي لبلادي . الغداء معه،