واستخدامه ضمن خطاب جديد موجّه إلى الحياة السياسية اللبنانية بكل طبقاتها. ولكن هل تنحصر المسؤولية عن الإنهيار في هذين السببين فعلاً؟ هل يحق لأي من هذه الدول في أن تضغط على اللبنانيين لأجل هذين السببين؟ فهل نُعرّف الاقتصاد على أنّه مجال قائم بذاته، منعزل عن المجال العام ويتواصل معه من خلال قنوات واضحة ومحدودة ومحدّدة؟ أم أن الاقتصاد جزء أساسي من المجال العام، أي أنّ الاقتصاد ممارسة سياسية بحد ذاته؟ البحث هنا سيتمحور حول شرح الممارسة السياسية للاقتصاد، واستحالة فصله عن المجال العام. ولأنّ الإنهيار اللبناني هو موضوع نقاشات محلية وعالمية، من الأفضل أن ندخل إلى هذا البحث من بوابة لبنان. ولنبدأ من التأكيد بأن العمل السياسي في لبنان ينقسم إلى مستويين: المستوى الأول هو المستوى المحلي، بينما المستوى الثاني هو المستوى الخارجي. وتظهر العلاقة المعقدة بين هذين المستويين وبين الاقتصاد، في الأزمة المالية المصرفية لعام 1989، بعد الأزمة الحالية التي أدت إلى الانهيار. كانت جذور أزمة عام 1989 مالية، تتعلق بسوء إستثمارات المصارف اللبنانية في المضاربات على العملات في الأسواق المالية الخارجية، بقيادة حاكمه آنذاك الدكتور إدمون نعيم، تغاضى عن هذه الإستثمارات خلال الفترة الممتدة بين عامي 1983-1988، ويربط حوراني هذا الإجراء بخروج أمين الجميّل من الحكم ونفيه خارج لبنان، على يدي سمير جعجع. إجراءات نعيم تبعها انهيار المصرفين، بما أن شبكة الكتائب المصرفية كانت تسيطر على أكثر من ربع القطاع المصرفي في عام 1988. ولإنقاذ القطاع قرّر نعيم، كانت كلفتها النهائية في عام 1990 ما يقارب المليار دولار. علماً بأن موارد البلاد كانت محدودة، وكان يُعوّل عليه للبدء بعملية إعادة الإعمار. شرح أزمة عام 1989 بالذات يُظهر تداخل المستوى السياسي المحلي مع المستوى الدولي في ممارسة القرار الاقتصادي والمالي، يضيف حوراني أن الانهيار الكبير في سعر صرف الليرة اللبنانية في عام 1992، لم يكن وليد ديناميات اقتصادية-مالية بحتة. في الظاهر كانت أحداث الحرب الأهلية في عامي 1989 و1990 والـ Bailout من الأقسى على المالية العامة للدولة وعلى الاستقرار المالي والنقدي. أعلن صندوق النقد الدولي أن المساعدات الدولية لإعادة الإعمار يجب أن تكون مشروطة، لبنان مثال شديد الوضوح عن ممارسة القرار الإقتصادي كفعل سياسي بحت تتداخل فيه السياسات المحلية بالخارجية في نسيج واحد أدام استمرار منظومة الاقتصاد السياسي اللبنانية بما يخدم مصالح أهلها ورعاتها الخارجيين وحُرم لبنان من المساعدة رغم مطالبة الرئيس كرامي، وبرغم هذه المطالبة قدم البنك الدولي دعماً فاتراً، وأيّد منح لبنان خُمس المبلغ المطلوب فقط. وعمد البنك الدولي إلى تأجيل اجتماعات المتابعة طوال عام 1992. تماشياً مع مطالب صندوق النقد الدولي، ومن الواضح أن ضغط المؤسّسات المالية الدولية كان محورياً في صناعة الأزمة الاقتصادية عام 1992، بالأخص أن هذه المؤسسات عينها اعتبرت أن «الثقة» بالاقتصاد اللبناني وبنظامه المالي قد عادت بمجرد إجراء الانتخابات عام 1992، أول هذه التقارير صدر في عام 1993. وهي الخاضعة للمشيئة الأمريكية بشكل تام، في الواقع، تمثّل الأزمة الممتدة من عام 1989 إلى عام 1992صورة واضحة ومكثّفة لتداخل الاقتصاد في نسيج السياسة بكل مستوياتها في لبنان، حيث أن كل مسار الأزمة كان عبر قرارات وممارسات سياسية واضحة تداخل فيها ما هو محليّ مع ما هو خارجي. ولشرح هذا التأثير الغالب للمستوى الخارجي، أعدّها أكسل شيملفينيغ وإدوارد غاردنر في عام 2008. تشرح الورقة أن لبنان يستفيد أولاً وقبل كل شيء من «الضمانات غير المباشرة» التي تنعكس على رغبة المانحين في تمويل لبنان، بالإضافة إلى سمعته في أسواق الائتمان بسبب عدم تخلفه عن السداد سابقاً (التقرير نُشر في عام 2008). أي وجود «الضمانات غير المباشرة»، لأسباب جيوسياسية خاضعة للتبدل والتغيير. ويعرض التقرير حالتان متقابلتان لشرح كيف تعمل «الضمانات» على المحافظة على سلامة الوضع المالي والنقدي: وانعكست التساؤلات، إلى أن تم تأليف حكومة الرئيس نجيب ميقاتي. ولم تنعكس الآية إلاّ بعد انتخابات حزيران من العام نفسه، التي حسمت أكثرية نيابية لفريق 14 آذار، تعبيراً عن عودة «الضمانات غير المباشرة». - الحالة الثانية: ما حصل إثر العدوان الإسرائيلي على لبنان عام 2006. فقد سارعت الدول الخليجية إلى إيداع مليار ونصف مليار دولار في مصرف لبنان، بالإضافة إلى تقديم نحو مليار دولار أخرى على شكل مساعدات (كل هذا قبل نهاية تموز 2006)، بينما كانت حصيلة مؤتمر استوكهولم نحو مليار دولار من المساعدات. هو أن ثقة المودعين والمستثمرين- وهؤلاء هم مصدر تدفق رأس المال الرئيسي- مدفوعة بوجود «الضمانات غير المباشرة» التي تؤكّد دعم النظام المالي اللبناني، كجزء من نسيج الحياة السياسية، لا بل أدارت الإرادة السياسية الخارجية (الولايات المتحدة) دخول لاعبين جدد إلى المنظومة، والإرادة السياسية الداخلية امتثلت للإرادة السياسية الخارجية، حتى عام 2016. أمّا حصر أصل المشكلة في سوء إدارة داخلية فقط، وعزل الأزمة عن كل أبعاده السياسة، يشرح المنظّر السياسي تيموثي ميتشل أن «الاقتصاد»- المجال القائم بحد ذاته- هو مفهوم مزيّف من إنتاجات القرن العشرين. التي تعطي «الاقتصاد» بعداً عقلانياً، لبنان مثال شديد الوضوح عن ممارسة القرار الاقتصادي كفعل سياسي بحت،