٤) مين دي بيران (١٧٦٦-١٨٢٤) وجد في نفسه عواطف غامضة متناقضة مرتبطة من غير شك بحالات عضوية متأبية على إرادته فالتفت بقوة خاصة إلى الحساسية الباطنة، وفطن إلى أن المعاني والإرادات الأخلاقية صادرة بلا ريب عن منابع مغايرة للإدراكات الحسية الظاهرية، وحدث أن أعلن المجمع العلمي سنة ۱۷۹۹ موضوعًا للمسابقة هو: ما تأثير العادة على قوة التفكير؟، وأعقبها برسالة تكميلية، وأن تأثير العادة يختلف في الانفعال وفي الفعل؛ فالانفعالات جميعًا تضعف بالتدريج حتى تنمحي إذا ما استطالت أو تكررت كالإحساس المتصل برائحة بعينها فإنه ينتهي إلى العدم؛ أو ضعف الشعور بحركات عضلات العينين بتأثير العادة، وعلى العكس يغمض الإدراك حتى يصير انفعالاً إذا ضعفت حركة العضو الحاس أو سكنت؛ ولكن العادة تكسب الأعضاء الحاسة سهولة وسرعة وسدادًا في حركتها فتضعف الشعور بالقسط الفعلي في الإدراك حتى تزيله، والعقل من جهته لا يتكون حقا إلا بحصوله على الألفاظ وهي إشارات إرادية وحركات مقابلة للمعاني دالة عليها، ومن شأن العادة أن تجعل العقل يربط بين هذه الحركات وبين المعاني المقابلة لها بسرعة وسداد متزايدين وليس صحيحًا ما قاله كوندياك من أن قوة التفكير قائمة كلها في الإشارات أو الألفاظ إذ كيف كان يمكن خلق الإشارات بدون فعل الفكرة فكل تقدم فكري فهو يتوقف على رسالة في تحليل الفكرة، وفهم هو أن المطلوب القيام بتحليل يكشف عن أبسط وأوكد معرفة تصير بها جميع المعارف ممكنة، فقال: إن الظاهرة الأولية هي الجهد العضلي، به يعرف الأنا نفسه معرفة مباشرة أنه قوة تعلو على الجسم وتحدث حركة عضلية أي نوترا تستطيله بالإرادة، وليس يعرف الأنا نفسه إلا باعتباره علة فاعلية في مادة تقاومه، ونحن نجد في كل شعور بالأنا هذا الاتحاد الوثيق بين هذين العنصرين المتباينين قوة لا مادية ومقاومة مادية، إن التجربة الباطنة لا تظهرنا على جوهر النفس تدركه بالحدس مستقلاً عن الفعل في الجسم، كما اعتقد ديكارت، ولكنها تقفنا فقط على قوة فاعلة شخصية متضامنة مع الطرف الذي تفعل فيه، كما رأينا عند مالبرانش وليبنتز وغيرهما. وفي معرفة الأنا لنفسه في الشعور بالجهد توجد بالتضمن المعاني الأولية معاني الوجود والجوهر والوحدة والذاتية، ومعنى القوة أو العلة مدركا إدراكا مباشرا لا مستنتجا بالاستدلال، هذه المعاني يقول عنها الفلاسفة إنها مجردات غريزية أو مركبة الحقيقة أنها أصيلة مستمدة من صميم الوجدان، ولكن هذا لا يعني من جانب مين دي بيران أنه بلغ إلى ما بعد الطبيعة، فإن منهجه نفسي، ولم يكن يقصد إلى مجاوزة علم النفس ولما فكر في المسائل الميتافيزيقية والدينية عالجها بالمنهج النفسي، فكان مؤسس علم وهو حداثته . النفس تاريخ الفلسفة الحديثة على الحساسية، وقد سجل هذه التجربة في جريدته الخاصة، ولم يتمه، فيقول إن الانتقال من النفس إلى الله بموجب مبدأ العلية يثير مسألة ممتنعة الحل هي ما علاقة العلية بين الخالق والمخلوق؟ إذ أن هذه العلاقة تختلف بالمرة عما تعلمه من علاقات علية، ما دامت جميعا مجرد أفكار، فلا يبقى الرجوع إلى النفس، وفي الوثبات الآتية نحو الحقائق العليا، وفي البروق اللامعة خلال السحب المخيمة على عقولنا، وفي إلهامات وعواطف مستعصية على التعبير، وحياة إنسانية هي الإدراك مع الفعل أو الجهد، وحياة إلهية هي انفعال وقبول من عل، بيد أن مين دي بيران يسأل نفسه كيف الاستياق من أن أصل هذه التجربة إلهي؟ إذا سلمنا بأنها ليست من فعل النفس لكوننا لا نشعر بأننا نحدثها، كما لاحظ وجه الشبه بين المؤمن المنفعل بالنعمة وبين النائم الذي يتلقى الإيحاء في النوم المغناطيسي، ولاحظ أثر هيئة الجسم في إثارة أفكار وعواطف وحركات معينة، ولم يكن الدين عنده عقيدة محدودة وكنيسة معينة.