افتتحنا الفصل الأول بالتساؤل عما إذا كان في الأدب شيء آخر غير الأدبية، وهو تساؤل مركزي سيظل يحتل الجوهر الفاعل في مشروعنا هذا. ووقفنا تبعاً لهذا السؤال على المنجزات البحثية والنظرية التي تدافعت نحو هذه القضية، وشكلت ذاكرة معرفية واصطلاحية يرتكز إليها مشروعنا ويستضيء بها. ولعل مقولة - أرخنة النصوص، وتنصيص التاريخ - كما هي معروضة هناك تمثل خلاصة نظرية / نقدية تتحد حولها الأسئلة والإجراء. كلام أخرعلى أننا حينما نضع تساؤلنا هذا في الصدارة فإننا – أولاً – نستحضر المعنى الأبعد لمصطلح (أدبي) و (أدبية) وبه نبادر إلى استبعاد المعنى الأكاديمي / الرسمى لمصطلحي أدبي وأدبية، وتتم عمليات استبعاد كثيرة. حيث هناك فنون راقية ومن تحتها ودونها تأتي أشياء لا تمنحها المؤسسة صفة الرقي. وكلنا نعرف كيف جرت معاملة (ألف ليلة وليلة التي اعتبرت مما لا يليق إلا بالصبيان والنساء وضعاف النفوس، وهذه صفات تكشف عن النسق الثقافي الذي يتحرك وفقه الخطاب البلاغي الرسمي في نظرته إلى الآخر المختلف والضعيف كالمرأة والطفل، وفي نظرته إلى خطاب ينتسب إلى هؤلاء الضعفاء مما يجعله محتقراً مثلهم. وفي مقابل ذلك نرى تقديراً عالياً لكتاب (كليلة ودمنة) لأنه ينتسب إلى المؤسسة الثقافية الرسمية فكاتبه (مترجمه) هو أحد فحول الخطاب الثقافي، كما أنه كتاب معمول للملوك ومن يوصفون بالعقلاء، وهو لذا ينطوي على الحكمة والعقل، لا على متعة السفهاء كما في ألف ليلة وليلة، ومن ذا يقارن ملوك الهند وفارس وبلاطات العباسيين والمؤسسة الثقافية العربية / الفارسية ذات الجاه والوجاهة، من يقارن ذلك مع آداب الرعايا والنساء .هذا مثال واحد على عمليات التصنيف والاستبعاد، وغيرهكثير مما أو جد مستوى رسمياً وآخر شعبياً. وهذا جنى على الخطابين معاً، حيث انفصل الأدب الراقي واكتسب قيمة متعالية ليس على الرعايا فحسب وإنما أيضاً على المؤسسة النقدية ذاتها، فصار لا ينظر إليه إلا عبر قيمته الجمالية المتعالية. فهو جمالي بالضرورة وإذا ما أردت نقده فأنت لا تنقد إلا شرطه الجمالي كأن يكون فيه ما لا يتفق مع الأعراف البلاغية أو أنظمة التعبير المؤسساتي مما عطل الحس النقدي الفعلي في الثقافة، وليس بعجيب أن الأوائل لم يستخدموا مصطلح (ناقد) استخداماً تصنيفياً، ولم يتسم به أحد منهم. كما أن المتأخرين حينما اتخذوا هذا المسمى لم يعطوه بعداً نقدياً متجاوزاً للشرط الجمالي المؤسساتي، ومن ثم ظل الفعل النقدي يدور حول دوائره النسقية ولم يتجه إلى كشف عيوب الخطاب، بما في ذلك عيوب المؤسسة النقدية ذاتها ودورها في تنميط أفعال الاستقبال والتذوق والتأويل، وإخضاع فعل القراءة الشروط المؤسسة وأحكامها، وما كان جميلاً في نظر الناقد القديم ظل جميلاً لدى الناقد الحديث، وليس من فارق إلا من حيث وجوه معالجة ذلك الجميل واستخراج تأويلات مختلفة له. وظل أبو تمام والمتنبي فحلين سامقين ولم نر ما أحدثاه في أنساقنا الثقافية من عيوب خطيرة هما وآخرون غيرهما، من مثل نزار قباني وأدونيس اللذين سنفاجأ إذا ما اكتشفنا كم هما رجعيان في حين أن المؤسسة النقدية تؤكد على تقدميتهما، خاصة تقدمية أدونيس التي يبلغ التسليم بها حد القداسة، ولدى الخطاب الثقافي المهيمن عربياً، مما سنقف عليه في الفصول الثالث والرابع والسابع .هنا نقول إن مصلح أدبي وأدبية لا بد أن يتحررا من قيد التصور الرسمي المؤسساتي، بحيث يعاد النظر في أسئلة الجمالي وشروطه وأنواع الخطابات التي تمثله هذا من جهة، ومن جهة أخرى لابد من الاتجاه إلى كشف عيوب الجمالي، والإفصاح عما هو قبحي في الخطاب، وهي نوع من علم العلل كما في مصطلح الحديثالذي يبحث عن علل في المتن أو في السند أو فيهما معاً، وفي ذلك جهود ضخمة نحتاجها كمثال نقدي حي ومجرب.على أن الأداة النقدية كمصطلح وكنظرية مهيأة لأداء أدوار أخرى غير ما سخرت له على مدى قرون من الممارسة والتنظير من خدمة للجمالي وتبرير له وتسويق لهذا المنتج وفرضه على الاستهلاك الثقافي، وبما إن الأداة النقدية مهيأة لهذه الأدوار النقدية الثقافية، خاصة مع ما تملكه من الخبرة في العمل على النصوص، ومع ما مرت به من تدريب وامتحان لفاعليتها في التحليل والتأويل المنضبط والمجرب، وهو مصطلح مؤسساتي، والفروق هنا ليست نقدية، وإنما هي في التفسير والتوظيف، مما يعزز أنساق الخطاب المضمرة، ويضيف إليها أنساقاً أخرى لها نفس القوة في الفرض والهيمنة وخلق حس استلامي غير نقدي لدى جمهور الثقافة .إذن نحن بحاجة إلى نقلة نقدية نوعية تمس السؤال النقديذاته.أيضاً، وهو تحول أو تحويل ضروري مذ كانت الأداة متلبسةبموضوعها الأدبي و موصوفة به، فالنقد موصوف بأنه أدبي مثلماأن النظرية تقيد دائماً بصفة الأدبية والأدبية هنا هي المعنى، من هنا لا بد أن نخلص ما هو أدبي من حده المؤسساتي ولابد أن نفتح المجال للخطابات الأخرى المنسية والمنفية بعيداً عن مملكة الأدب، كأنواع السرد وأنظمة التعبير الأخرى غير التقليدية وغير المؤسساتية، وحسبما هو التصور السيويولوجي الحديث (1) فإن كل ما هو دال فهو لغة وخطاب تعبيري، سواء كان حركة أو فعلاً أو هيئة أو نصاً، كل ذلك أنظمة في الخطاب ولذا فلا وجه للتمييز بين خطاب راق، وآخر غير راق، خاصة وأننا نلاحظ أن غير المؤسساتي هو الأكثر تأثيراً وفعلاً في الناس، ولنقارن بين أي قصيدة حديثة أو قديمة وبين غيرها من الخطابات المهملة نقدياً وغير المعتبرة مؤسساتيا كالنكتة والأغنية والإشاعة، ولننظر في أيها أكثر أثراً في الناس وعلينا ألا نجنح إلى إنكار أدبية هذه الأنماط التعبيرية إذ إنها مكتنزة بالطاقات المجازية والكنائية والترميزية، والشاهد على ذلك هو في طاقتها التأثيرية الهائلة التي لا ينافسها فيه أي خطاب رسمي مهما بلغ الترويج له أو محاولات ترسيخه. هذا أمر غفل عنه النقد رغم أهميته ورغم قدرة النقد على معالجة هذه الخطابات لولا عقدة المصطلح المقيد بالقيد الرسمي المؤسساتي المسمى بالأدبية .إن تحرير المصطلح من قيده المؤسساتي هو الشرط الأول لتحرير الأداة النقدية، مذ كان الارتباط بين الاثنين أزلياً. حيث إنإعمال المصطلح النقدي الأدبي إعمالاً لا يتسمى بالأدبي، ويتخذ له صفة أخرى هي الثقافي، يستلزم إجراء تحويرات وتعديلات في المصطلح لكي يؤدي المهمة الجديدة على ذاكرة هذا المصطلح وهي ذاكرة مكتنزة بالتجارب ومتلبسة بها، ولن تتخلص هي ولن نتخلص نحن معها من هيمنة الاصطلاح إلا عبر هذا التحويل الذي هو عملية تحرير فعلي لنا وللأداة. وهذا ما سنعالجه في الفقرات التالية .كيف يمكننا إحداث نقلة نوعية للفعل النقدي من كونه الأدبيإلى كونه الثقافي.نحتاج هنا إلى عدد من العمليات الإجرائية هي :! - نقلة في المصطلح النقدي ذاته .ب - نقلة في المفهوم (النسق).ج - نقلة في الوظيفة.د ـ نقلة في التطبيق .ولوف نقف على هذه القضايا واحدة واحدة.2 - 1 النقلة الاصطلاحيةلن يكون من الحكمة الافتراض أن المنظومة المصطلحيةمجتهد، كما أنه لن يكون صحيحاً أن نفترض الإحاطة بكل ماقدمه النقد في تاريخه الطويل والمتنوع، ولكن الذي بوسعنا أن نفعله هو أن نستخلص نموذجنا النظري والإجرائي مما هو أساس نقدي للمشروع الذي نزمع التصدي له، توظيفها توظيفاً جديداً لتكون أداة في النقد الثقافي) لا الأدبي، مع التركيز الشديد على عملية الانتقال وكونه انتقالاً نوعياً يمس الموضوع والأداة معاً، ومن ثم يمس آليات التأويل وطرائق اختيار المادة المدروسة، بدءاً من أساليب التصنيف ذاتها والتعرف على النصوص والعينات التي كان يتحكم بها الشرط الأدبي بمعناهالمؤسساتي . والنقلة الاصطلاحية بما إنها أولى النقلات وأهمها ستشملستة أساسيات اصطلاحية هي :أ - عناصر الرسالة (الوظيفة النسقية)ب - المجاز (المجاز الكلي)ج - التورية الثقافية- نوع الدلالة دهـ - الجملة النوعيةو - المؤلف المزدوجهذه أساسيات ستة ستشكل المنطلق النظري والمنهجيلمشروعنا في النقد الثقافي) وسنوضح ذلك بالتفصيل :أ - عناصر الرسالة (الوظيفة النسقية) :لاشك بأن رومان ياكوبسون قد خطى خطوة متقدمة باتجاهتعزيز أدبية الأدب، وأسهم من ثم بتقديم إجابة على السؤال القديم عما يجعل النص اللغوي يكتسب صفة الأدبية، أي ما الذي يجعل الأدب أدباً، وذلك حينما استعار النموذج الاتصالي، ونقله منالإعلام إلى النظرية الأدبية .وكما هو متداول الآن فإن النموذج يقوم على ستة عناصر هي : المرسل والمرسل إليه، والرسالة التي تتحرك عبر السياق والشفرة، وتتنوع وظيفة اللغة حسبب تركيزها على عنصر أو آخر من هذه العناصر، وتكون الوظيفة الأدبية / الجمالية حينما تركز الرسالة على نفسها (2). وهذا إنجاز نقدي كان له أثره الكبير على الدراسات الأدبية، غير أنه وكما هو واضح يمعن في التركيز على الأدبية، وما دامت عملية الاتصال تتم من مرسل إلى مرسل إليه بينهما رسالة، تصل عبر أنواع من الوسائل التوصيلية، وتقوم على شفرات يستعين المرسل إليه على فهمها بالسياق المشترك بين أطراف الاتصال، وهذه عناصر جوهرية لحدوث فعل الاتصال وفعل التفسير، وإذا ما أضفنا العنصر السابع (العنصر النسقي) فإننا بهذا نتيح مجالاً للرسالة ذاتها بأن تكون مهيأة للتفسير النسقي (ولسوف نوضح مقصدنا من استعمال كلمة نسقي ومفهومنا للنسق في الفقرة في هذا الإجراء ستكتسب اللغة وظيفة سابعة هي الوظيفةالنسقية إضافة إلى وظائفها الست الأولى المرتبطة بالعناصر الستة، وهي النفعية والتعبيرية والمرجعية والمعجمية والتنبيهية والشاعرية (الجمالية) (3) و نحن لا نخترع للغة وظيفة جديدة مثلما أن ياكوبسون لم يصنع تلك الوظائف ولكنه كشفها للبحث وللنظر . تؤثر على كل مستويات الاستقبال الإنساني في الطريقة التي بها نفهم والطريقة التي بها نفسر والنصوص التي لا تسمى عادة بالأدبية هي الأكثر انفعالاً مع الوظيفة النسقية، من دون أن ينتفيذلك عن النصوص الأدبية أيضاً.إذا سلمنا بوجود العنصر السابع (النسقي) ومعه (الوظيفة النقية) فإن هذا سيجعلنا في وضع نستطيع معه أن نوجه نظرنا نحو الأبعاد النسقية التي تتحكم بنا وبخطاباتنا، مع الإبقاء على ما ألفنا وجوده وتعودنا على توقعه في النصوص من قيم جمالية وقيم دلالية، وما هو مفترض فيها من أبعاد تاريخية وذاتية واجتماعية، كل ذلك قائم وموجود لطالبه، وإضافة إلى ذلك تأتي الوظيفة النسقية عبر العنصر النسقي. وهذا يمثل مبدأ أساسياً من مبادئ النقد الثقافي، وذلك لكي ننظر إلى النص بوصفه حادثة ثقافية، وليس مجتلى أدبياً نحسب .السابع كالتالي :الشفرةالسياقالمرسلالرسالةالمرسل إليهأداة الاتصالالعنصر النسقيوتكون وظائف اللغة حينئذ سبعاً بإضافة واحدة إلى الستالمعهودة، وهن كالتالي :1 - ذاتية / وجدانية (حينما يركز الخطاب على المرمل)3 - مرجعية حينما يكون التركيز على السياق)4 - معجمية حينما يكون التركيز على الشفرة)ك - تنبيهية حينما يكون التركيز على أداة الاتصال)6 - شاعرية / جمالية حينما تركز الرسالة على نفسها، وهذه هي إضافة ياكوبسون التي بها أجاب على سؤال الأدبية وكيفتتحول اللغة إلى صفتها الأدبية)7 - الوظيفة النسقية (حينما يكون التركيز على العنصرالنسقي، كما هو مقترحنا لاجتراح وسيلة منهجية لجعل النسقوالنسقية منطلقاً نقدياً، وأساساً منهجياً. وهذا هو المنطلق الأولفي مشروعنا النظري .ب - المجاز والمجاز الكلي :مازال المجاز هو الأساس المبدئي في الفعل النصوصي، ولقد سيطر التصور البلاغي على مفهوم المجاز وعلى فعله حتى لقد صار المجاز بحد ذاته مؤسسة ذوقية ومصطلحية تتحكم بشروط إنتاج واستقبال النصوص، مع أن هناك مقولة مبكرة تشير إلى أن اللفظ قبل استعماله ليس حقيقة ولا مجازاً (4) ، وأن الحقيقة والمجاز من عوارض الألفاظ . هذا يجعل (الاستعمال) هو المستند في الوصف والتعرف، ولاشك أن الاستعمال فعل عمومي جمعي، وليس فعلاً فردياً، أي أنه أحد أفعال الثقافة. بمعنى أن هناك أنماطاً سلوكية ثقافية تتحرك وتتفاعل وعبر هذا التحرك والتفاعل تتخلق نماذج للقول تسود في الخطاب، ومن ثم يأتي الاستعمال الذي يعني وضع الخطاب في وظيفة بأن تجعله يعمل ويعمل به، وما الاستعمال سوى المسمى الإجرائي للفعل الثقافي ذي الطابع العمومي الجمعي.من هذا المدخل نأتي إلى قضيتنا في نقد المفهوم البلاغي للمجاز، وفي اقتراح مفهوم ثقافي للمجاز يوسع من مجاله ويهيئه لاستعمال نقدي أكثر وعياً بالفعل النسقي وتعقيداته .فالمفهوم البلاغي للمجاز يدور حول الاستعمال المفرد للفظة المفردة، وإذا زاد فعن الجملة، وهو ما يسمى بالمركب، ولا يتجاوز ذلك إلى الخطاب. وبما إن نظرية المجاز تقوم أصلاً على الازدواج الدلالي الذي تسميه البلاغة الحقيقة والمجاز والذي يصف حركة اللغة في تحويل القول من معنى إلى معنى آخر، مع تجاور المعنيين معاً وإمكانية أخذهما معاً في الاعتبار، إذا أخذنا هذا التصور الأولي للمجاز، وتمعنا في الفعل الثقافي مع وظيفة اللغة من حيث أداؤها التعبيري المباشر ثم من حيث أدوارها التأثيرية غير المباشرة، وهما وظيفتان متصاحبتان وليس من شك في وجودهما معاً ولا في تأثيرهما على علاقتنا مع اللغة، إذا أخذنا هذا الازدواج الدلالي بالاعتبار، فإننا سندرك أولاً أنه ازدواج على مستوى كلي وليس على مستوى المفردة أو الجملة فحسب، ثم إنه ازدواج يمس وعينا باللغة ذاتها وبفعلها معنا وفينا، بمعنى أن الخطاب يحمل بعدين أولين أحدهما حاضر وماثل في الفعل اللغوي المكشوف، وهو هذا الذي نعرفه عبر تجلياته العديدة الجمالية وغيرها. وحينما أقول وغيرها فإني أحيل إلى وظائف اللغة الست مجتمعة كما ذكرناها أعلاه. وكل ما هو من الأفعال اللغوية المعروفة في إنتاج الدلالة وفي فهمها وتأويلها فهو من المستوى الحضوري القابل للمثول والحصر، حتى وإن بدا غامضاً أو مركباً فإنه يظل داخل مجال الحضور اللغوي، وهذا يمثل كل ما تعارفنا عليه في الدرس البلاغي والنقدي وفي نظريات الاستقبال والتأويل.أما البعد الآخر فهو البعد الذي يمس (المضمر) الدلاليللخطاب، هذا المضمر الفاعل والمحرك الخفي الذي يتحكم في كافة علاقاتنا مع أفعال التعبير وحالات التفاعل، وبالتالي فإنه يديرأفعالنا ذاتها ويوجه سلوكياتنا العقلية والذوقية .هذان بعدان كليان في اللغة يحتاجان إلى مفهوم ذي بعد كلي أيضاً ليتسنى لنا بحثياً أن نكشف عنهما، وكما أثبت مفهوم المجاز قدرة فائقة في كشف وتسمية التحولات الدلالية على مستوى المفردة والجملة فإن توسيع المفهوم سيساعدنا على كشفالازدواج الدلالي الأخطر، ذلك الازدواج الذي يتلبس الخطابالثقافي ببعده الكلي الجمعي.وعبر العنصر النسقي وما يفرزه من وظيفة نسقية، وعبر توسيع مفهوم المجاز ليكون مفهوما كلياً لا يعتمد على ثنائية الحقيقة / المجاز، ولا يقف عند حدود اللفظة والجملة، بل يتسع ليشمل الأبعاد النسقية في الخطاب وفي أفعال الاستقبال، فإننا نقول بمفهوم (المجاز الكلي متصاحباً مع الوظيفة النسقية للغة، والاثنان معا مفهومان أساسيان في مشروعنا في النقد الثقافي) كبديل نظريج - التورية الثقافية :يستطيع الواحد منا أن يقول إن أهم منجزات البلاغةالمصطلحية هو مصطلح (التورية) غير أن هذا المصطلح يعاني منمثل ما تعاني منه المنظومة المصطلحية البلاغية، من حيث إنها تُعنىبالظواهر التعبيرية المقصودة فعليا في صناعة الخطاب وفي تأويله . ولقد ورث النقد الحديث هذه الخاصية البلاغية. ونحن في النقد الثقافي لم نعد معنيين بما هو في الوعي اللغوي، وإنما نحن معنيونبالمضمرات النسقية، وهي مضمرات لا تعين المصطلحات البلاغية أو النقدية الأدبية على كشفها أو التركيز عليها، وهذا ما يدفع بنا إلى إجراء تعديلات توسع من قدرة المصطلح على العمل، ولا تحرمنامن الخبرة الاصطلاحية المدربة . وهذا منطلق مهم جداً للنقد الثقافي غير أن الخلل يأتي من أن المفهوم التقليدي للتورية يشير صراحة إلى أن المقصود هو المعنى البعيد. وهو بهذا يخضع العملية للقصد أي للوعي ويحولها بالتالي إلى لعبة جمالية. وصارت مهمة الناقد ليست في الكشف ولكن في التفسير وهي لا تخترع الجمالي ولا تؤسسه ولكنها تقول لنا، فحسب، لماذا الجميل جميل - كما هو السؤال البنيوي حسب تحديد شتراوس (5) وتقول لنا كيف لنا أن نحاكي الجمالي وأن نتذوقه، وتعجز عن كشف المضمر أو التعامل مع العيوب النسقية ومعضلات الخطاب الثقافي، لأنها مقيدة بقيود الجمالي منجهة وقيود الوعي من جهة أخرى.وإذا ما كانت التورية تقوم على هذا الازدواج الدلالي بين بعيد وقريب، و هو الازدواج الذي نسعى بواسطته إلى تأسيس تصوراتناعن حركة الأنساق الثقافية في بعديها المعلن والمضمر، مع الأخذ بالاعتبار أن الشق المعلن من الخطاب قد خدم نقدياً وعلى نطاق واسع، بينما جرت الغفلة عن الأنساق المضمرة مع جليل أثرها وخطرها، فإن استعارة مصطلح (التورية) ونقله من علم البلاغة إلى حقل (النقد الثقافي) يستلزم توسيع المفهوم ليدل دلالة كلية لا تنحصر في معنيين قريب وبعيد مع قصد البعيد، وإنما ليدل على حال الخطاب إذ ينطوي على بعدين أحدهما مضمر ولاشعوري، ليس في وعي المؤلف ولا في وعي القارئ. هو مضمر نسقي ثقافي لم يكتبه كاتب فرد، ولكنه انوجد عبر عمليات من التراكم والتواتر حتى صار عنصراً نسقياً يتلبس الخطاب ورعية الخطاب من مؤلفين وقراء. والكشف المنهجي عنه يتطلب أدوات خاصة تأتي التورية في مقدمتها، لكن بمعنى (التورية الثقافية) أي حدوث ازدواج دلالي أحد طرفيه عميق ومضمر، وهو أكثر فاعلية وتأثيراً من ذلك الواعي وهو طرف دلالي ليس فردياً ولا جزئياً إنما هو نسق كلي ينتظم مجاميع من الخطابات والسلوكيات - باعتبارها أنواعاً من الخطابات - مثلما ينتظم الذوات الفاعلة والمنفعلة، وهذا هو المدلول الأشمل لمصطلح التورية الثقافية) كما هو الهدف من المشروع النظري والإجرائي لهذا الكتاب.د - نوع الدلالة (الدلالة النسقية) :بني النقد الأدبي مشروعه في العمل على علاقة النص مع إنتاج الدلالة في تميزه بين نوعين من الدلالة هما الدلالة الصريحة والدلالة الضمنية، وليس هناك توازن عددي أو إنشائي بين الدلالتين إذقد نجد دلالة ضمنية واحدة تنتظم نصاً كاملاً أو مجموعة من النصوص أو الأعمال كالرواية مثلاً أو النوع الأدبي كالشعر العذري، وقد تقتصر على جملة واحدة كالمثل . بينما الدلالة الصريحة ترتبط بالجملة النحوية وبشروط التوصيل اللغوي وحدوده (6)إذن هناك دلالتان تشكلان المفهوم المحوري للتمييز النقدي الأدبي، سنقترح نوعاً ثالثاً من أنواع الدلالة هو الدلالة النسقية وإذا ما كانت الدلالة الصريحة مرتبطة بالشرط النحوي ووظيفتها نفعية / توصيلية، بينما الدلالة الضمنية ترتبط بالوظيفة الجمالية للغة، فإن الدلالة النسقية ترتبط في علاقات متشابكة نشأت مع الزمن لتكون عنصراً ثقافياً أخذ بالتشكل التدريجي إلى أن أصبح عنصراً فاعلاً، لكنه وبسبب نشوئه التدريجي تمكن من التغلغل غير الملحوظ وظل كامناً هناك في أعماق الخطابات وظل يتنقل ما بين اللغة والذهن البشري فاعلاً أفعاله من دون رقيب نقدي لانشغال النقد بالجمالي أولاً ثم لقدرة العناصر النسقية على الكمون والاختفاء. وهو ما يمكنها من الفعل والتأثير غير المرصود وبالتالي تظل باقية ومتحكمة فينا وفي طرائق تفكيرنا، بسبب تحكم النسق فينا، حتى ليظهر الحداثي رجعياً والديموقراطي دكتاتورياً على الرغم من دعاوى الطلائعية والتعددية. كما سنحاول أن نثبت في الفصل السابع . المهم هنا أن نسلّم بضرورة إيجاد نوع ثالث من الدلالة هو الدلالة النسقية وعبر هذه الدلالة سنسعى إلى الكشف عن الفعلوتكون الدلالات حينئذ كالتالي :1 - الدلالة الصريحة، وهي عملية توصيلية2 - الدلالة الضمنية، وهي أدبية جمالية3 - الدلالة النسقية، وهي ذات بعد نقدي ثقافي،بالجملة الثقافية كما سنرى في الفقرة التالية .هـ - الجملة النوعية (الجملة الثقافية) :تبعاً لقولنا بالدلالة النسقية فإنه من اللازم أن نستعين بمفهوم خاص للجملة، فإذا كانت الدلالة الصريحة تستند إلى الجملة النحوية، والدلالة الضمنية تتنشأ عن الجملة الأدبية، فلا بد لنا من تصور خاص يسمح للدلالة النقية بأن تتولد، وهو هنا ما سميه بالجملة الثقافية و الجملة الثقافية هي المقابل النوعي للجملتين النحوية والأدبية. من حيث إن الجملة الثقافية مفهوم يمس الذبذبات الدقيقة للتشكل الثقافي الذي يفرز صيغه التعبيرية المختلفة،وستكون أنواع الجمل ثلاثاً كالتالي : 1 - الجملة النحوية المرتبطة بالدلالة الصريحة .2 - الجملة الأدبية ذات القيم البلاغية والجمالية المعروفة .3 - الجملة الثقافية المتولدة عن الفعل النسقي في المضمرالدلالي للوظيفة النسقية في اللغة . 4 على أن مفهوم (الثقافة) هنا يأخذ بمقولة قيرتز في أن الثقافة ليست مجرد حزمة من أنماط السلوك المحسوسة، كما هو التصور العام لها، كما أنها ليست العادات والتقاليد والأعراف، ولكن الثقافة بمعناها الأنثروبولوجي الذي يتبناه قيرتز هي آليات الهيمنة، من خطط وقوانين وتعليمات كالطبخة الجاهزة، التي تشبه ما يسمى بالبرامج، في علم الحاسوب، ومهمتها هي التحكم بالسلوك. والإنسان هو الحيوان الأكثر اعتماداً على هذه البرامج التحكمية غير الطبيعية من أجل تنظيم سلوكه. ومن أبلغ الحقائق عنا أن الواحد منا يبدأ حياته متطلعاً لأن يعيش ألف نوع من الحيوات، ولكنه لا يحصل أخيراً إلا على حياة واحدة (7) .و - المؤلف المزدوج :في الفعل النقدي الذي يتخذ النسق الثقافي هما أساسياً له يصبح الشرط النقدي من جهة، والشرط الثقافي من جهة ثانية، عنصرين مكونين للمادة وللأداة. وما لم يتحقق ذلك وينضبط منهجياً وعلى مستوى النظرية والمصطلح، وهذا قد حدث فعلاً مع كثير من الدراسات التي اكتفت بتغيير مجالها البحثي دون أن تتوسل لذلك بمنهج منضبط. فوقعت في فخ الأنساق دون أن تدرك. وهذا هو ما يجعلنا نتخذ بين يدي عملنا هذا قواعد والوظيفة النسقية مع الجملة الثقافية، وعبر هذه المقولات النظرية ستحرر من هيمنة البلاغي / الجمالي الذي هو أحد إفرازات النسق الثقافي، وله سلطة ذات هيمنة ضاربة ومتحكمة تمسك بتلابيب الناقد وتوجه ذائقته وأحكامه، ذاك لأن الناقد أصلاً كان خاضعاً لها وهو أحد صنائعها مثله مثل رعية الثقافة، سواء وصفوا بالمنتجين أو مستهلكي الثقافة، فالجميع صنائع ثقافية تتحكم فيها الأنساق وتوجه حركتها. ولا يحررنا من هذا إلا الانضباطالمنهجي .وبواسطة هذا الانضباط سنرى أن في كل ما نقرأ وما ننتج وما نستهلك هناك مؤلفين اثنين أحدهما المؤلف المعهود، مهما تعددت أصنافه كالمؤلف الضمني والنموذجي والفعلي (8). والآخر هو الثقافة ذاتها، أو ما أرى تسميته هنا بالمؤلف المضمر، وإنما هو نوع من المؤلفالنسقي - كما هو الشأن في حركة النسق ومفعوله المضمر . بمعنى أن المؤلف المعهودهو ناتج ثقافي مصبوغ بصبغة الثقافة، أولاً، ثم إن خطابه يقول من داخله أشياء ليست في وعي المؤلف، ولا هي في وعي الرعية الثقافية، وهذه الأشياء المضمرة تعطي دلالات تتناقض مع معطيات الخطاب سواء ما يقصده المؤلف أو ما هو متروك لاستنتاجات القارئ. وما قلناه عن كون المضمر الدلالي يتناقض مع معطيات الخطاب هو شرط في الفعل النقدي الثقافي، وإذا لم يتحقق هذا الشرط فلن يكون هناك نقد ثقافي حسب المفهوم الذي نحاول التأسيس له هنا، وسوف نوضح هذه المسألة في المبحث اللاحق. المهم أن نؤكد الآن أن المؤلف المزدوج) يرتبط بالدلالة النسقية، حيث يعشش التناقض المركزي وتفعل الأنساق أفاعيلها، وتلك هي مهمة النقد الثقافي للكشف والتعرف .2 - 2 في المفهوم النسق الثقافي) :ما النسق الثقافي .وكيف نقرؤه .وكيف نميزه عن سائر الأنساق .يجري استخدام كلمة (النسق) كثيراً في الخطاب العام والخاص، وتشيع في الكتابات إلى درجة قد تشوه دلالتها. وتبدأ بسيطة كأن تعني ما كان على نظام واحد، وقد تأتي مرادفة لمعنى البنية - structure) أو معنى (النظام - system) حسب مصطلح دي سوسير. واجتهد باحثون عرب في تصميم مفهومهم الخاص للنسق (9). ومع أننا لا نعترض ومن ثم فإنه يكتسب عندنا قيماًدلالية وسمات اصطلاحية خاصة، نحددها فيما يلي:1 - يتحدد النسق عبر وظيفته وليس عبر وجوده المجرد، والوظيفة النسقية لا تحدث إلا في وضع محدد ومقيد، وهذايكون حينما يتعارض نسقان أو نظامان من أنظمة الخطاب أحدهما ظاهر والآخر مضمر، ويكون المضمر ناقضاً وناسخاً للظاهر . ويكون ذلك في نص واحد، أو في ما هو في حكم النص الواحد. ويشترط في النص أن يكون جمالياً، وأن يكون جماهيرياً. ولسنا نقصد الجمالي حسب الشرط النقـدي المؤسساتي، وإنما الجمالي هو ما اعتبرته الرعية الثقافية جميلاً.ونحن هنا نستبعد (الرديء) و (النخبوي) عبر شرطي الجمالي والجماهيري، كما نتبعد التناقضات النسقية التي تحدث في مواقعمختلفة وفي نصوص متباينة .وتحديدنا لهذه الشروط راجع إلى أن مشروع هذا النقد يتجه إلى كشف حيل الثقافة في تمرير أنساقها تحت أقنعة ووسائل خافية، وأهم هذه الحيل هي الحيلة الجمالية) التي من تحتها يجري تمرير أخطر الأنساق وأشدها تحكماً فينا. وأمر كشف هذه الحيل يصبح مشروعاً في نقد الثقافة، وهذا لن يتسنى إلا عبرملاحقة الأنساق المضمرة ورفع الأغطية عنها.نقول - إذن - إن مواصفات الوظيفة النسقية هي :أ - نسقان يحدثان معاً وفي آن، في نص واحد أو في ما هو بحكم النص الواحدب - يكون المضمر منهما نقيضاً ومضاداً للعلني.بوصف الجمالية هي أخطر حيل الثقافة لتمرير أنساقها وإدامتها . د - ولا بد أن يكون النص جماهيرياً ويحظى بمقروئية عريضة،الذهن الاجتماعي والثقافي. هذه شروط أربعة إذا ما توافرت نكون أمام حالة من حالات الوظيفة النسقية، وبالتالي فهي لحظة من لحظات النقد الثقافي . وهذه هي شروط ومواصفات المواد التي سندرسها فيالفصول التطبيقية .صفتها قراءة خاصة، قراءة من وجهة نظر النقد الثقافي، أي أنها حالة ثقافية، ولكنهأيضاً حادثة ثقافية .الصريح منها والضمني، والتسليم بالقيمة الفنية وغيرها من القيمالنصوصية التي لا تلغيها الدلالة النسقية، وليست بديلاً عنها، بل إننا نقول إن هذه الدلالات وما يتلبسها من قيم جمالية تلعب أدواراًخطيرة من حيث هي أقنعة تختبئ من تحتها الأنساق وتتوسل بهالعمل عملها الترويضي الذي ينتظر من هذا النقد أن يكشفه .على أن ما وضعناه من شروط سيؤدي بالضرورة إلى استبعاد نصوص كثيرة من تلك التي لا تتوافر فيها هذه الدلالة النسقية بصفتها تلك .3 - والنسق هنا من حيث هو دلالة مضمرة فإن هذه الدلالةليست مصنوعة من مؤلف، ولكنها منكتبة ومنغرسة في الخطاب مؤلفتها الثقافة ومستهلكوها جماهير اللغة من كتاب وقراء يتساوى في ذلك الصغير مع الكبير والنساء مع الرجال والمهمش مع المسود.4 - والنسق هنا ذو طبيعة سردية، يتحرك في حبكة متقنةولذا فهو خفي ومضمر وقادر على الاختفاء دائماً، ويستخدم أقنعة كثيرة وأهمها - كما ذكرنا - قناع الجمالية اللغوية، وتعبر العقول والأزمنة فاعلة ومؤثرة، ويكفي أن نرى أنفسنا ونحن نطرب لقراءة الروض العاطر أو نردد بعض أبيات شعرية أو نستمتع بنكتة أو إشاعة مروية، مما هو ضد ما نؤمن به عقلياً، وتتأسس به تبعاً لذلك وتتولد في داخلنا أنماط أخرى هي صور لهذه الأناق، وليس نسق (الطاغية) وهذا هو موضوع الفصل الثالث والرابع من هذا الكتاب.الغلبة دائماً، وعلامتها هي اندفاع الجمهور إلى استهلاك المنتوج الثقافي المنطوي على هذا النوع من الأنساق، فالاستجابة السريعة والواسعة تنبئ عن محرك مضمر يشبك الأطراف ويؤسس للحبكة النقية. وقد يكون ذلك في الأغاني أو في الأزياء أو الحكايات والأمثال مثلما هو في الأشعار والإشاعات والنكت كل هذه وسائل وحيل بلاغية / جمالية تعتمد المجاز والتورية وينطوي تحتها نسق ثقافي ثاو في المضمر ونحن نستقبله لتوافقه السري وتواطئه مع نسق قديم منغرس فينا، وهو ليس شيئاً طارئاً وإنما هو جرثومة قديمة تنشط إذا ما وجدت الطقس الملائم.6 الرمزي) ذي طبيعة مجازية كلية / جماعية (وليست فردية كما هو المجاز البلاغي)، أي أنه تورية ثقافية تشكل المضمر الجمعي، ويقوم (الجبروت الرمزي) بدور المحرك الفاعل في الذهن الثقافي للأمة،