يلبسني أبي القباء والجبة والعمة والمركوب بدل البدلة والطربوش والجزمة، ويكون منظري غريباً على من رآني في الحارة أو الشارع، فقد عهدوا أن العمامة لا يلبسها إلا الشاب الكبير أو الشيخ الوقور أما الصغير مثلي فإنما يلبس طربوشاً أو طاقية، فقد كان يظن أني مسخت مسخاً وتبديت بعد الحضارة، وكأن الذي يربط بيني وبينهم هو وحدة لبسي ولبسهم لا طفولتي وطفولتهم، وسرعان ما انقطعت الصلة بيني وبينهم، وتضرعت إلى أبي أن يعيدني إلى مدرستي فلم يسمع، وأن يعفيني من العمة فلم يقبل، وما آلمني أني أحسست العمامة تقيدني فلا أستطيع أن أجري كما يجري الأطفال ولا أمرح كما يمرح الفتيان، كمن يضحك في مأتم أو يبكي في عرس. ولم يكن أمامي إلا أن أحتمل على مضض. هذا أبي يأخذني معه كل صباح يوم فأسير في شوارع لا عهد لي بها، لا كما كان العهد يوم كنت في المدرسة، ولا أدري كيف كان وقع هذه الكلمة على نفسي، فالأزهر شيء غامض لا أعلم كنهه ولا نظامه ولا منهجه ولا مستقبله؛ وأرى أبي يخلع نعليه عند الباب ويطويهما ويمسكهما بيده فأعمل مثل عمله، أدخل منه على إيوان كبير لا ترى العين آخره، فرش كله بالحصير وامتدت أعمدته صفوًفا، وجلس على كل كرسي شيخ معمم كأبي، ويمسك بيده ملزمة من كتاب كما يمسك الشيخ، والشيخ يقرأ أو يفسر والطلبة ينصتون أو يجادلون وبين العمود والعمود بعض الطلبة يجتمعون فيأكلون أو يذاكرون. فهم يشمسونه ثم يختزنونه في بيوتهم. هذا هو كل الأزهر كما رأيته أول مرة. وفهمت من هذا أني سأكون أحد هؤلاء المتحلقين، وسأجلس على الحصير كما يجلسون، وأسمع إلى هذا الشيخ كما يسمعون، وآكل في ركن من أركانه كما يأكلون، وقارنت بين حصير الأزهر ومقاعد المدرس، ومدرس الأزهر ومدرس المدرسة، وأخذت إلى رواق من أروقة الأزهر. وسمي باب المزينين لأن على رأسه حوانيت حلاقين لمجاوري الأزهر وشيوخهم، وكل عالم من علماء الأزهر له كل يوم عشرة أرغفة أو أكثر، فقد أخذ يقطع صلتي بالمدرسة وبأصدقائي فيها، ويؤلف بيني وبين البيئة الجديدة. بعد أن يقيد الطالب في دفتر الأزهر يترك وشأنه، فهو يختار العلوم التي يدرسها، والمدرسين الذين يدرسونها، وليس يمتحن آخر العام فيما درس، فإن احتاج الطالب في شأن من الشئون أن يأخذ شهادة بأنه حضر الكتب الفلانية على المشايخ الفلانيين فما عليه إلا أن يكتب الورقة كما يشاء وبالكتب التي يشاء وبالمدرسين الذين يشاء، إذ يشترط في القاضي الشرعي أن يكون على مذهب الإمام أبي حنيفة — وأن أجود القرآن على شيخ ضحى، وأن أحضر درساً في النحو ظهراً، ولم تكن أوقات الدروس كما عهدتها في المدرسة تؤقت بساعات النهار، ودرس الفقه عند طلوع الشمس؛ وهناك دروس إضافية كالتي كان يلقيها الشيخ محمد عبده في البلاغة أو التفسير عقب صلاة المغرب. على كل حال بدأت أسير على هذا المنهج، وأسير طويلا من بيتي إلى الأزهر، فلم يكن ترام ولا سيارات عامة، والمسافة بين بيتنا والأزهر نحو نصف ساعة على الأقل، فآكله وأنا واقف وأمسح فمي بالمنديل وأحمد الله وأستمر في السير، وتقدم إلي على مائدة متواضعة لا بالنظيفة ولا بالقذرة، فإذا فرغت منها تقدمت إلى الأمام خطوة أو خطوتين داخل الدكان فأرى مقطًفا صغيراً مليئا بالنخالة، فأفرك يدي بها وآخذ منها فأدعك فمي وأحمد الله أكثر مما حمدته على البليلة. وعلى رأسه عمة حمراء، فأعطيه نصف قرش ويعطيني مربعاً من البسبوسة بعد أن يقطر عليه شيئًا من السمن، وأصل إلى مسجد بالقرب من الأزهر قبل طلوع الشمس، وكانت المساجد حول الأزهر تلقى فيها الدروس كالأزهر، وموضوع الدرس الوضوء — قرأ المتن والشرح ففهمتهما ولكنه سبح بعد ذلك في تعليقات واعتراضات على العبارة وإجابات على الاعتراضات لم أفهم منها شيئًا. وبعد أن أحضرت كل ذهني ووجهت إليه كل انتباهي لم أفهم أيضاً، فشرد ذهني وأخذت أفكر وأستعيد في ذكرى المدرسة التي كنت فيها ودروسي التي كنت أفهمها وأتفوق فيها، وهؤلاء الطلبة الذين أمامي وليس لي بهم صلة، ثم يعود ذهني إلى ما يلقيه الشيخ، ويسأل بعض الطلبة أسئلة فلا أفهم ما يسألون، ويجيب الشيخ فلا أفهم ما يجيب، واستمر الحال على هذا المنوال ساعتين أو أكثر من غير أن ينتقل الشيخ من هذه الجملة، وسررت عندما قال الشيخ «والله أعلم» إيذانا بأن الدرس قد انتهى. ويقبلون يده فلم أسلم ولم أقبل، وخرجت من هذا المسجد إلى الأزهر نفسه. وقد اعتاد الطلبة بعد درس الفقه أن يفطروا، وعمادهم في فطورهم الفول المدمس أو النابت والطعمية والسلطة، يضعونها كلها على حصير الأزهر، فإذا فرغوا تركوا بقايا أكلهم من فتات أو ورق، وكنت في كثير من الأوقات أفضل أن أفطر بقطعة من الجبن وقطعة من الحلاوة الطحينة — ثم أذهب إلى حائط من حوائط الأزهر أجد بجانبه شيخاً طويلا ضعيف النظر مصفر الوجه ذا لحية بيضاء، اتفق أبي معه على أن يقرئني القرآن مجوداً، فأقرأ ما تيسر من القرآن على ترتيبه في المصحف وهو ينتقد ما أقرأ وينبهني إلى مخارج الحروف، وفي كل مرة يصلح أخطائي حتى يستقيم لساني حسب أصول القراءة، منهم من يقرأ بالسبع ومنهم من يقرأ بالأربع عشرة. ثم أنفلت من هذا الشيخ لأعد درس النحو وكانت العادة في الأزهر أن يعد الطالب درسه قبل أن يلقى أستاذه. فيقرؤه في الكتاب ويتفهمه ويعرف ما فهم وما لم يفهم وما وضح وما غمض ليتحرى موضع الغموض حين يفسر الأستاذ، وأذهب إلى مكاني من درس النحو، وكان موقفي في درس النحو أسوأ من موقفي في درس الفقه، مع أن درس الفقه جديد علي ودرس النحو ليس بجديد، فقد درسته في المدرسة ودرسته مع أبي، فلم أفهم مما قال شيئا، كثير الفخر بنفسه. فقد كان يقول كلاما مزخرف الظاهر، وخلص الدرس فاسترحت من هذا العناء قليلا، وذهبت بعد ذلك إلى مسجد المؤيد، إذ كان مدرسو هذه المواد العصرية منتدبين من المدارس في مدرستي. وزاد الأمر سوءا أن ليس بيني وبين الطلبة صلة، ولا بيني وبين الأساتذة رابطة، ولا أتلقى سؤالا إن كنت فهمت أم لم أفهم، ولا أكلف واجباً أعمله في بيتي. وكان هذا يوما نموذجياً جرت الأيام بعده على نمطه، وفكرت طويلا في عودتي إلى المدرسة فلم أستطع، ولاحت مني مرة نظرة إلى فتيين أنيقين في مثل سني، وتدل مظاهرهما وأناقتهما على النعمة. فعملت الحيلة للتعرف بهما فإذا هما فتيان قاهريان من أبناء العلماء كأبي، وكنت أتلهف على صداقة فصادقتهما، وعلمت أثناء حديثهما أن لكل منهما خزانته وهي جزء من دولاب في رواق من أروقة الأزهر، ففعلت فعلهما وتأنقت تأنقهما، ولكن كان ذلك من وراء أبي لأنه لا يحب الأناقة ولا البهرجة، كما يفعل المتأنقون ووضعت ساعة في جيبي عن يميني، فتركت من يومها أناقتي ولم أعد أريه أني ابن السيوفي. ورأيتهما يشكوان مما أشكو فلا يفهمان كما أني لا أفهم ولا يستفيدان كما أني لا أستفيد، وأذهب إلى بيتي مدعياً أني قضيت الوقت في الدرس والتحصيل، ولكن تنبه ضميري بعد أشهر وفهمت أن هذه الحال تؤدي إلى سوء المآل،