كانت الأمور تسير وفقا لما اعتاده الإنسان وقتها؛ الملك يحكم باسم الله ليؤمّن للناس دنياهم، بينما يضمن لهم رجال الدين، لكن تلك الطائفة الدينية الجديدة التي أرادت إصلاح فساد المذهب الحاكم أبَت، بعد ما تعرضت له من اضطهاد، إلا أن تقذف حجرا في الماء الراكد. بدأ الأمر بثورة شعبية ضد الحكم الطائفي التقليدي في دولة صغيرة، وسرعان ما انقسمت دول المنطقة بحسب المذهب أحيانا، وبحسب المصالح وإرادات الهيمنة غالبا، إلى معسكرين: أحدهما يدعم ثوّار المذهب الجديد، والآخر يدعم الأنظمة التقليدية. نحن لا نتحدث عن المنطقة العربية في العقد الثاني من الألفية الثالثة! بل عن أوروبا بين القرنين السادس عشر والسابع عشر. إنها حرب الثلاثين عاما التي اعتركت أوروبا المتنازعة على ميراث الإمبراطورية الرومانية المقدسة (معظم أراضي ألمانيا حاليا) بين البروتستانت والكاثوليك، أو بين فرنسا وآل هابسبورغ (حكام بروسيا) إن أردنا الإفصاح عن الوجه السياسي الحقيقي خلف أقنعة الطوائف. انخفض عدد سكان ألمانيا على إثر هذه الحرب بما يقارب 30 %، وانخفض ذكورها تحديدا إلى النصف! سياسيةُ الباطنِ، خريطة جديدة لأوروبا، لا تعرف التقسيمات الدينية، بقدر ما تقر المصالح القومية للدول. من هنا تحوّلت الممالك المقدسة الحاكمة باسم الله وبالتحالف مع الكنيسة إلى دول حديثة قومية، تحارب باسم الوطن وفي سبيل سيادته.صارت الدولة القومية الحديثة مثار الجدل لاحقا في النظرية السياسة وعلوم السياسة، وصارت آمال الإصلاح وإستراتيجات التقدير، حتى هنا في عالمنا العربي بعيدا عن أوروبا التاريخية، تعقد على تطويرها أو تقويضها. وفي هذا الموضوع دائما ما تثار العديد من الأسئلة من قبيل ما هي الدولة؟ وكيف نشأت؟ وما الضرورة إليها؟ ثم تنشأ أسئلة أخرى فرعية من هذه الأسئلة، هل الدولة الحديثة التي نحيا في رحابها الآن كانت التطور “الطبيعي” لشكل نظام الحكم المتعارف عليه من قبل، في مجتمعات أكثر بدائية وأقل تنظيما، وهل عدم وجود دولة بالشكل الحالي كان يعني بالضرورة وجود حالة من الفوضى وعدم التنظيم؟ وهل يمكن إدماج أنظمة حكم مختلفة لتتماشى مع الدولة القومية «الحكم الإسلامي نموذجًا»؟ والهيمنة والسيادة، والميتافيزيقا وغيرها من المصطلحات الهامة في هذا الإطار. ولقد تم تعيين مسمى «الدولة القومية الحديثة» للتأكيد على أن الكيان محل الدراسة هو الدولة الحالية الحديثة التي نعيش فيها الآن ومنذ أكثر من قرنين مضيا.وفي ظل عالم منغمس في دورة وعجلة الحياة اليومية في ظل ورحاب «الدولة الحديثة» بمزاياها وعيوبها، تأتي تلك السلسلة لتضيء للقارئ بعض النقاط الهامة عن ذلك الكيان الذي يحيا فيه ويعيش ويحيي علمه ويموت في أرضه،