عالم الغيب وعالم الشهادة، وبعبارة أخرى عالم المادة وعالم الروح. ويخالق جميع العوالم وفي هذه الحلقة أضيف إلى ما تقدم مباحث أخرى ونتائجها مما تقر به عين المؤمن المخلص، وتسخن به عين المكابر المتعسف. قال الأستاذ فريد وجدي : من بين الدافعين صدر الإلحاد في أوربا والطاعنين كبده العلامة الفلكي الطبيعي الشهير كامل غلامريون، ويردها إلى القوانين والنواميس المعروفة، موجودة وجود كائن مستقل عن للجسم. 3- يمكن الروح أن تؤثر أو تثأثر من بعد بدون إعانة الحواس. 4- المستقبل مقدر من قبل وقوعه ومحدد بأسباب ستحدثه فيما بعد. وكل كما لا يعمله وما لا يستطيع أن يفهمه، فإنا نعتبر هذا خرافة محضة مع أننا قد شاهدنا بأنفسنا من مدة ليست ببعيدة مولودا ولد كيتا، فلنكتنف بقولنا : أن المشاهدات التي نقلناها هنا مطابقة للأسلوب التجريبي نفسه تمام المطابقة. نقول هذا كله يدل على أن في الوجود حركة اعتقادية مهمة جدا ستؤدي إلى نتيجة غير منتظرة تحقيقا لوعد الله (كتب الله لأغلبن أنا، إن هؤلاء الرجالات العظام الذين نقلنا أقاويلهم في مكالمة الأرواح، لو قبل لأحدهم قبل ردح من الزمن قصير، ولأبي أن يحاوره في هذه المسألة إلا بالنكثة اللطيفة تمضية للوقت، ثم ينبري للطعن فيما كان يقول به بالأمس طعن المنتصر لحق على الباطل، ونقيمه على نهج السبيل ووضح المحجة. تخيل قوما رأوا ما وقع فيه الأقدمون من الخيالات وما حملوه عواتقهم من الأوهام وما استلزم ذلك من بعدهم عن الحقيقة التي هي ضالة الإنسانية، وما استدعاه من عشوتهم عن تنور الظواهر الجلية لما ران على ألبابهم من تلك القواعد الاعتقادية، قلنا تخيل قوما رأوا ذلك بأعينهم ثم انظر كيف يكون مبلغ كراهتهم لبنات الأفكار التي لا يؤيدها من الواقع دليل ولا يعززها من الحس برهان. وقد ثبت أن مدارك العقل كثيرا ما تحيد عن الجادة وتلقي بالإنسان إلى متائه من الأضاليل لا يميز فيها بين الحقائق والأباطيل، ما الذي أوقع الأقدمين في أوهاق الخرافات فحرموا بذلك أنفسهم أنوار العرفان ؟ ما الذي دهورهم في تيهور المدركات السالفة، وما يتقاسمه من الأعراض التي تجعله في واد والحقيقة في واد. فلا سبيل إلى معرفة الحقيقة الصحيحة إلا إذا سندها من الحس دعامة ركينة، وكان لها من الواقع شهادة قوية. فهم إذن لا يسلمون بغير امتحان، ولا يخضعون لغير المحسوسات وينبدون كل بحث يتعلق بمنشأ الوجود ومصير الإنسان كما نقلنا ذلك في الفصل السابق عن أحد زعمائهم الأستاذ (ليتريه). ثم ذهبوا إلى أن المعارف تقطع في ارتقائها ثلاثة أدوار مهمة. قل لي بريك إذا كان هؤلاء لا يريدون أن يعتقدوا وجود أصل من الأصول، أن الذي خلق الإنسان على هذه الصورة من الطماح الفكري والجماح الحسي لا يعجزه أن يرده إلى العدل كلما جار، ويلفته إلى الهدى كلما ضل، إن الذي قال في محكم كتابه (كتب الله لأغلبن أنا ورسلي، وبأي وسيلة تلجأ تلك الحياة العالية إلى السجود والإخبات أمام عظمته وجبروته. سبحان ربنا الذي أعطى كل شيء خلقه ثم هدى الذي حلق كل شيء فقدره تقديرا) الذي أمهل هؤلاء الطغاة حتى ملأوا الكون صياحا، واستنفدوا كل وسعهم وجهودهم في الحملة على العقائد الفطرية حتى ظنوا ملكوا زمام مشاعر البشر بما شنوه من الشنه والشكوك، وأنهم توصلوا إلى إطفاء نور العقائد من القلوب، فقلبت كل ما أقاموه رأسا على عقب، فأبوا إلى عقولهم وحشو أهابهم الندم والحسرة على ما غلوا فيه من قبل، وإن للإنسان روحا ستخرج من الجسد إلى عالم ينتظرها فيه عذاب أليم أو نعيم مقيم. وأي إحساس بشري لا يتضلع يقينا وثباتا حينما يرى بعينيه أن أستذة الماديين قاموا يجأرون إلى الله منيبين إليه ملتجئين إلى جنابه مقرين بسابق غلطاتهم، وأسمى نفسا من أن يأسرها لدين من الأديان. ونده العلامة (داروين) في تأسيس مذهبه الذي كفر الملايين من العالم. قلنا من كان يصدق أن مثل هذا الأستاذ الكبير يرجع بعد تلك الكبرياء فيقول : لقد كنت دهريا صريا مقتنعا بمذهبي تمام الاقتناع، ولم يكن في دهني أدنى محل للتصديق بحياة روحية، ولا بوجود عامل في هذا الكون كله غير المادة وقوتها، فإنها قد قهرتني وأجبرتني على اعتبارها أشياء محسوسة قبل أن أعتقد روحانيتها بمدة مستطيلة، ولقد مر بك من مثل هذه الشهادات ما لا يمكن الزيادة عليه في مثل هذا المختصر وكل تلك الشهادات منسوبة لكبار أساطين العلم ورجال المعارف، فانظر رحمك الله كيف يداوي الله تعالى أمراض القلوب ويعالج جراح العواطف. وقالوا ما دام عليم الغيب مستورا عنا، وأعطاهم القوة على تحقيقه الحس والمشاهدة (لكيلا يكون للناس على الله حجة) كل ذلك رحمة منه تعالى بهذا النوع الإنساني الذي جعله قمة إبداعه وغاية اختراعه. كنت وعدت القراء فيما مضى أن أذكر لهم شيا وتبعهم كثير من الباحثين في البلاد العربية، جاء في دوائر المعارف ما نصه : (اسبرتزم) هو فن استحضار أرواح الموتى، يقول أشياعه : أن الحد الفاصل بين الأحياء والأموات ليس على ما يظنه الناس من الخطارة، فإن الموت ليس في ذاته إلا انتقالا من حال مادي جسدي إلى حال مادي آخر، فإنهم يعتقدون أن للروح جسما ماديا شفافا لطيفا ألطف من هذه المادة بكثير، ولذلك لا تسري عليه قوانينها. ويقلون : إن الموتى بعد الموت مباشرة يكونون في عالمنا بين أيدينا وعن أيماننا وشمائلنا، ولا يزالون كلك مدة تختلف باختلاف درجتهم الروحية، ثم ينتقلون إلى حال لرقى من هذا، فإن العوالم في نظرهم اختلاف حالات ومقامات لا اختلاف جهات وأمكنة. وهي في حالها الأول بعد خروجها من الجسد يمكن مكالمتها، بل ورؤيتها مجسمة بواسطة شخص يكون فيه الاستعداد لأن يقع في خدر عام عند إرادته تحضير الروح، فتستفيد الروح من استعداده فتكلم الناس بفمه بلغات يجهلها كل الجهل، وقد تستولي على يده فتكتب وعيناه مغمضتان صحفا ورسائل. على حين يكون الواسطة ملقى أمام المجربين مكتوفا على كرسيه، والواسطة مربوطا على كرسيه بأربطة متينة مسمرة أطرافها بالأرض. وأوصل بيده سلكا كهربائيا متصلا بجلوانومتر ليسجل عليه كل حركة وكل نفس، تبتدئ أولا بشكل سحابة منيرة ثم تأخذ في التشكل شيئا فشيئا حتى تصير على شكل إنسان منير، فتقف أمامهم وتطوف حولهم عالية بقدميها عن الأرض قليلا، لابسة هيئة عربية بدوية لدرجة أن الإنسان لو ضغط يدها بين أصبعيه تنبعج يدها بينهما حتى يتلاقيا كأنهما عجين ذو قوام متماسك، فلما ذهبت الروح عاد إليها. هذه الأمور جريت في كل عاصمة وتولى شأنها العلماء الأعلام من كل قبيل فلم تزد على مر الأيام إلا انتشارا وثبوتا، وقد بلغ عدد أشياعها كما روته مجلة المجلات الفرنسية نقلا عن الأستاذ (روسل ولاس) أكبر الفيزيولوجيين الإنكليز إلى عشرين مليونا. 1- قول كامل غلا مريون في الروح : وهي متمتعة بخصائص لم تزل للآن مجهولة لدى العلم. يتلقاه المسلم بالترحيب والإجلال والاغتباط، قل الروح من أمر ربي، قال الإمام ابن حزم في كتابه (الملل والنحل) بعد سرد مذاهب شتى : وذهب سائر أهل الإسلام والملز المقرة بالمعاد إلى أن النفس جسم طويل عريض عميق ذات مكان، قال : وبهذا نقول. والنفس والروح اسمان لمسمى واحد، ثم قال : وأما من ذهب إلى أن النفس ليست جسما فقول يبطل بالقرآن والسنة، فأما القرآن فإن الله عز وجل قال : (هنالك تبلو كل نفس ما أسلفت) وقال تعالى : (اليوم تجزى كل نفس ما كسبت لأظلم اليوم) وقال تعالى : (كل امرئ بما كسب رهين) فصح أن النفس هي الفعالة الكاسبة المجزية المخطئة. وقال تعالى : (إن النفس لأمارة بالسوء) وقال تعالى (ولا تقولوا لمن يقتل في سبيل الله أموات، بل أحياء ولكن لا تشعرون) وقال تعالى (ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتا، منها ما يعرض على النار قبل يوم القيامة فيعذب، ويكون مسرورا قبل يوم القيامة. ولا شك أن أجساد آل فرعون وأجساد المقتولين في سبيل الله، فصح أن الأنفس منقولة من مكان إلى مكان، وصح أنها تنتقل في الأماكن قائمة بنفسها، وقوله عليه السلام (إن نفس المؤمن إذا قيضت عرج بها إلى السماء وفعل بها كذا. ونفس الكافر إذا قبضت فعل بها كذا). فصح أنها معذبة ومنعمة ومنقولة في الأماكن، فلا اختلاف بين أحد من أهل الإسلام في أن أنفس العباد منقولة بعد خروجها من الأجساد، إلى نعيم أو إلى صنوف ضيق وعذاب. وهذه صفة الأجسام ثم قال : ومعنى قول الله تعالى : (ويسألونك عن الروح، قل الروح من أمر ربي) إنما هو لأن الجسد مخلوق من تراب، وإنما قال الله تعالى آمرا له بالكون (كن فيكون) فصح أن النفس والروح والنسمة أسماء مترادفة لمعنى واحد، ثم قال ابن حزم أيضا ك صح أن الله عز وجل خلق الأرواح جملة، وقال شيخ الإسلام أحمد بن تيمية في تفسير سورة الإخلاص بعد أن ذكر نزاع المتكلمين المتفلسفة في الملائكة هل هي متحيزة أم لا ؟ وكذلك نزاعهم في روح الإنسان التي تفارقه بالموت، عل قول الجمهور الذين يقولون : هي عين قائمة بنفسها ليست عرضا من أعراض البدن كالحيوان وغيرها. لكن هذا مخالف للكتاب والسنة وإجماع السلف والخلف. ولقول جماهير العقلاء من جميع الأمم. وهذا مما استطال به الفلاسفة على كثير من أهل الكلام. قال أبو المعالي : إن الروح أجسام لطيفة مشابكة للأجسام محسوسة. أن الروح عين قائمة بنفسها تفارق البدن، وأقوال علماء الإسلام وفلاسفته في مباحث الروح كثيرة. وقد ألف فيها الإمام شمس الدين محمد بن قيم الجوزية مجلدا وهو مطبوع. ومعلوماتهم الخاصة التي أفنوا فيها أعمارهم هو عين ما توصل إليه فلاسفة الإسلام بأفكارهم الثاقبة، أولئك آبائي فجئني بمثلهم إذا جمعتنا يا جرير المجامع والقردة المحاكية التي تقلد الإنسان،