وَالقَبِيلَةُ لَا تُدَمُّ، فَهِيَ قَدَرٌ كَوْنِي، فَاللَّهُ تَعَالَى هَكَذَا خَلَقَ عِبَادَهِ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ كَمَا قَالَ اللهُ تَعَالَى: ﴿ يَأَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَكُم مِّن ذَكَرٍ وَأَتَى وَجَعَلْنَكُمْ شُعُوا وَقَابَلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَنَكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ ) الحجراب ١٣. وَيَقُولُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي إِحْدَى خُطَبِهِ: " يَا أَيُّهَا النَّاسُ، أَلَا إِنَّ رَبَّكُمْ وَاحِدٌ، وَأَنَّ أَبَاكُمْ وَاحِدٌ، أَلَا لَا فَضْلَ لِعَرَبِي عَلَى أَعْجَمِيٌّ، وَلَا لعَجَمِيٌّ عَلَى عَرَبِي، وَلا لِأَحْمَرَ عَلَى أَسْوَدَ، وَلَا أَسْوَدَ عَلَى أَحْمَر الا بالتقوى " أخرجه أحمد. القَبِيلَةُ تَصْنَعُ فِي كَثِيرٍ مِنَ الأَحْيَانِ نَوْعًا مِنَ الوُحْدَةِ بَيْنَ أَبْنَائِهَا، فَإِذَا ارْتَقَى هَذَا الفَهْمُ الوَحْدَوِيُّ القَبْلِيُّ إِلَى وحْدَةِ الْأُمَّةِ الإِسْلَامِيَّةِ كَانَ ذَلِكَ تَهِينَا لِوُحْدَةِ الْمُسْلِمِينَ وَهِيَ غَايَةٌ مَنْشُودَةٌ. وَمِنَ الضَّرُورِي أَنْ تَكُونَ هَذِهِ الوُحْدَةُ القَبِيلَةُ دَائِرَةً فِي فَلَكِ الوُحْدَةِ الإِسْلَامِيَّةِ الكُبْرَى وَمُغَذِّيَةً لَهَا، وَعِنْدَ أَيْ تَعَارُضِ بَيْنَ الوُحْدَتَيْنِ تُقَدَّمُ الوُحْدَةُ الكُبْرَى ( وَهِيَ وُحْدَةُ الأُمَّةِ الإِسْلَامِيَّة) وَمَصَالِحِهَا عَلَى الوُحْدَةِ الصُّغْرَى وَهِيَ وُحْدَةُ القَبِيلَةِ). وَيَنْبَغِي أَنْ نَعْلَمَ يَقِينَا أَنَّ هُنَاكَ فَرْقًا كَبِيرًا بَيْنَ الانْتِسَابِ إِلَى الْقَبِيلَةِ وَبَيْنَ التَّعَصُّبِ لَهَا. فَالْإِسْلَامُ يَبْغَضُ العَصَبِيَّةَ القَبَلِيَّةَ وَيُحَارِبُ جُذُورَهَا، بَلْ يَنْصَحُ الناس أَنْ يَرْجِعُوا فِي تمايزهم إِلَى مَعَابِيرِ التَّقْوَى وَالعَمَلِ الصَّالِحِ فهُمَا أَصْلُ الكَرَامَةِ وَسَبَبُ الارْتِفَاعِ، وَبوسُعِ الإِنْسَانِ أَنْ يَتَخَيَّلَ مَوْقِف النَّبِيُّ - صَلَّي اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَهُوَ يَتَّجِهُ مُهْرُولًا إِلَى نَفَرٍ مِنْ أَصْحَابِهِ تَشَاجَرُوا فِيمَا بَيْنَهُمْ؛ لِيَقُولهَا بهُمْ عَالِيَةٌ مُدْوِيَّةً: " مَا بَالُ دَعْوَى الْجَاهِلِيَّةِ؟ دَعُوهَا فَإِنَّهَا مُتْنَةٌ " مُتَّفِقَ عَلَيْهِ. إنها المُسَارعَةُ الحثيثة إِلَى وَادِ رُوحِ العَصَبِيَّةِ فِي مَهْدِهَا وَصَرْخَتِهَا الْأُولَى، وَهَكَذَا في كُلِّ مَرَّةٍ تُحَاوِلُ هَذِهِ الظَّاهِرَةُ الْمُرْضِيَّةُ الخَطِيرَةُ أَنْ تُطِلُّ بِرَأْسِهَا، وَمِنْ دَعْوَى الجاهلية أن تقيم من العصبية للقبيلة ميزانا تُوَالِي وَتُخَاصِمَ عَلَيْهِ، وَتَحْتَقِرَ وَتُرَكِّي عَلَيْهِ، وَتُقَاتِلَ وَتُصَالِحَ عَلَيْهِ، وما أنا الا من عُزَيَّةَ إِنْ غَوَتْ    غَوَيْتُ وَانْ تَرْشُدُ غُزَيَّةَ أَرْشُدُ وَمِنْ أَخْطَرِ السَّلْيَّاتِ الَّتِي تَتَوَلَّدُ مِنَ العَصَبِيَّةِ القَبَلِيَّةِ أَيْضًا تَقْدِيمُ الوَلاءِ والتناصر القائم عَلَى أَسَاسِ القَبِيلَةِ عَلَى الوَلاءِ القَائِمِ عَلَى الدِّينِ، وَلَقَدْ حَارَبَ الصَّحَابَةُ آبَاءَهُمُ الْمُشْرِكِينَ مَعَ إِخْوَانِهِمُ الْمُؤْمِنِينَ، فَإِخَاهُ الدِّينِ مُقَدَّمُ عَلَى إِحَاءِ النسب، فَمَتَى مَا انْتَفَتْ هَذِهِ السَّابِيَّاتُ عَنِ القَبْلِيَّةِ أَثْمَرَتْ خَيْرًا عَلَى الْمُجْتَمَعِ، فَزَادَتْ بِهَا وُحْدَتَهُ وَقَوِيَتْ بِهَا شَوْكَتَهُ، وَصَلَّحَ بِهَا أَمْرَهُ، وَمَتَى اقْتَرَنَتْ بِهَا تِلْكَ الْآفَاتُ كَانَتْ آثَارُهَا عَلَى الْمُجْتَمَعِ مُدَمَّرَةً سَيِّئَةً، وَعَلَى كُلِّ فَإِنَّ مُصْطَلَحَ العَصَبِيَّةِ القَبْلِيَّةِ هُوَ مُصْطَلَحٌ يَدُلُّ عَلَى الْمُوَالَاةِ بِشَكْلٍ تَامُ لِلقَبِيلَةِ أَوِ العَائِلَةِ أَوِ العَشِيرَةِ وَالْقِيَامِ بِمُنَاصَرَتِهَا سَوَاء أَكَانَتْ ظَالِمَةً أَوْ مَظْلُومَةً، وَتُعْتَبَرُ العَصَبِيَّةُ القَبَلِيَّةُ هِيَ أَحَدُ أَنْوَاعِ الْعَصَبِيَّاتِ وَالَّتِي تَنْدَرِجُ تَحْتَ السُّلُوكِ الْإِنْسَانِي وَعَادَةً مَا يَتِمُّ اطْلَاقُ هَذَا الْمُصْطَلَحِ عَلَى العَصَبِيَّةِ الْمُذْهَبِيَّةِ، أَوِ العَصَبِيَّةِ الْمُنْطِقِيَّةِ أَوِ العَصَبِيَّةِ الطَّائِفِيَّةِ، وَلَا يُمْكِنُنَا انْكَارُ التَّأْثِيرَاتِ السَّلْبِيَّةِ عَلَى الفَرْدِ وَالْمُجْتَمَعِ جَرَّاءَ انْتِشَارِ الْأَنْوَاعِ الْمُخْتَلِفَةِ مِنَ العَصَبِيَّةِ وَخَاصَّةُ العَصَبِيَّةَ القَبَلِيَّةَ.