يخطر في نفسك أمر فتثق بأنه حق أو نافع ، أما الأمر الذي لم تسع له سعيه ولم تضع لبلوغه ځطه فإنما هو التمتي الذي لا يفرق بين المحال والمستطاع . وإذا تحدثنا عن قوة الإرادة وذهبنا في حديثها مذهب خصال الحمد ، فإنما نعني الإرادة المتوجهة إلى ما هو خیر . تنشأ قوة الإرادة من الخبرة الواسعة ، وأما من لم تسبق له تجربة فقد يتخيل الأمر بمكان لا تناله ، الذي يخطر في باله أمر قرأ في سيرة أحد السابقين أنه كان قد هم بمثله وعمل لحصوله فنجح عمله وصلحت عاقبته ، فشأنه أن يعزم على ذلك الخاطر ويجعله عملا نافذا . تتفاوت الإرادة في القوة ، وتفاوتها على قدر قوة شعور الإنسان بما للشيء من حقيقة أو نفع ، وعلى قدر ثقته من تيره وإمكان حصوله ؛ فالذي أتقن علما فأحاط بأصوله ، وابتغي من قومه العمل لها بعزم لا يخالطه فتور فما عليه إلا أن يريهم وجة شرف تلك الغاية ، ويقتحموا كل عقبة تلاقيهم في سبيلها . وقد ترى قوما ينكرون في صبحهم ومسائهم شيئا من معالي الأمور ولا تراهم يسعون له سعيه ، ولا يتقدمون إليه بخطوة فاعلم أن العزم لم يأخذ من قلوبهم مأخذه ؛ وإذا ذكرنا العزم النافذ كخصلة من خصال الشرف فإنما نقصد به الإقدام على الأمر بعد استبانة عاقبته حتى ولو كانت ظنا غالبا ؛ فلا يعد في قلة العزم أن يستبين الإنسان الحق أو المصلحة ويقف دون عزمه مانع ؛ كان يعلم أن عقول الجمهور لا تتسع لقبوله ويخشى الفتنة فيؤجله ريثما يمهد له بما يجعله مقبولا سائغا . كما لا يعد في قلة العزم أن يرى الإنسان رأيا ويعقد النية على إنفاذه ، فيقبل بها على ما يراه صوابا ، ويدبر بها عما يراه فسادا وقوي العزم متى بصر بالأمر ووثق بسداده شحذ كل همته لتحقيقه . أما ضعیف العزم فإنه يترك نفسه مجالا للخواطر ورهبة العواقب ؛ ويقعده عنه حب الراحة وإيثار ما ترغب فيه النفس من اللذات الحاضرة ، فالإحجام الناشئ عن الشهوات والعواطف يفسد سداد الرأي لأنه يؤثر في التفكير السليم كما أنه يوقع في الخسران المبين . القوة الإرادة أثر عظيم في انقلاب حال الأفراد والجماعات ؛ وأقمت موازنة وجدت في أولئك الظاهرين مزية يرجح بها وزنهم غير أنهم هوا بالأمر فعملوا به . فإن ما بيننا وبين التقدم والحياة الآمنة مسافة طويلة المدى ، إن لم نقطعها بالعزم الصارم والعمل المتواصل ظلمنا أنفسنا ، فمن واجبنا نحوهم أن نبني صروا من العز شامخة ؛ فإن لم نستطع هيأنا لهم أسسا ليرفعوا عليها قواعد الشرف والمنعة ،