ولد أوغسطين في ( طاجسطا ) في منتصف القرن الرابع الميلادي بالجزائر ، ودرس بمدرسة مدينته أولاً ، ثم انتقل منها إلى بعض المدن الأخرى مثل قرطاجنة ، وكان أبوه رجلاً ونثياً ،نشأته أمه على حب المسيحية منذ صغره ، وتضلع في اللاتينية حتى افتتح في قرطاجنة ، وفي ذلك الوقت قدم كتاباً لشيشرون اسمه ( هورطانسيوس ، وكان أوغسطين متشعباً بالأدب اللاتيني ، وكان متعلقاً بالدنيا ومتاعها ، ودفعه طموحه صوب روما ، فأنشأ فيها مدرسة للبيان ، وفيهما هو في ذلك عرض المسابقة منصب أستاذ للبيان في ميلانو ، قصد إلى مقره الجديد ، وأخذ يذهب إلى الكنيسة الكاثوليكية ويستمع إلى عظات أسقف المدينة ، والقديس ( امبرواز » ، وكانت تدور حول شرح الكتاب المقدس ،ولقد كان أوغسطين رجلا مرهف الحس يجمع في داخله بين مجموعة من الصفات المتناقضة : فكثيراً ما كان يحلق بنظره في الكون ، وكثيراً أيضاً ما كان يعود إلى نفسه مهتماً ببدنه وبإشباع ميوله الحسية . ولقد كان يتمتع مع هذا بعقل وثاب ، الأمر الذي جعل نفسه ميداناً لصراع عنيف لم يستطع التخلص منه إلا عام ٣٨٦ م ، حيث كرس نفسه ابتداء من هذه اللحظة في خدمة المسيح والمسيحية . ولقد شرع أوغسطين في تفهم المسيحية على ضوء ما اهتدى إليه من فلسفة ، وكان يؤوّل هذه الفلسفة على ضوء المسيحية، ولقد ذهب بعض الباحثين إلى أن الأفلاطونية هي التي قادته إلى المسيحية ، والحقيقة أنه كان قد آمن بالمسيحية بناء على علامات وأدلة ، وأن رسائل أفلوطين أفادته في حل مشكلات عقلية كانت تحول بينه وبينفهم المسيحية كما يجب أن تفهم . وقبل أن يكرس أوغسطين نفسه للمسيحية مر بمجموعة منالتيارات الثقافية المتباينة ، وكلها لم ترق له ولم تروي نفسه الظمأنة إلى اليقين والنور ، بقراءة محاورة لشيشرون هي L'Hortenius حيث أحيت في أعماقه حب الحكمة كما يقول ، ثم اتصل بعد ذلك بالمذهب المانوي، لكنه سرعان ما ابتعد عنه بعد أن مال إليه من قبل ، رغم أنه يقوم على العقل متشبثاً بالبرهنة العقلية على صحة ما يقول ، إلا أنه سرعان ما بدأ يشكك أوغسطين هذا إلى جانب أن العقل و المانوي » لم يستطع أن يحل كل المشاكل التي كانت تدور بخاطر أوغسطين .ثم توجه بعد ذلك إلى روما ( ۳۸۳ م ) حيث تعلم الخطابة هناك ، الأمر الذي أهله للحصول على كرسي الأستاذية لها في وكان لقاؤه هناك مع « أمبروزيوس Ambroise ) حيث فتحهذا الواعظ عيني أوغسطين وقلبه على ما في المسيحية من حقائق روحية بدأت تلفت نظره وتسترعي انتباهه وكان أوغسطين قد قصد الريف مع بعض الأصدقاء بغية النظر في أمر أنفسهم في عزلة وهدوء ، وقضوا بضعة أشهر يفكرون ويتباحثون ، استأنف مطالعته للكتاب المقدس فوجد فيه هذه المرة ما لم يجده في المرة الأولى وما لم يجده عند الأفلاطونيين ، وجد المسيح المخلص والنعمة الإلهية التي تعيننا على فعل الخير والتغلب على الشر ، وعاش وإياهم عيشة الرهبنة ثلاث سنين ، وبعد موت أسقف أبيونا - من أعمال نوميديا ( حيث الجزائر الآن ) اقترح الشعب على أوغسطين أن يرعاه ، فتوفر على نشر الإيمان والدفاع عنه باللسان والقلم خمسا وثلاثين سنة ، وكانت أيامه الأخيرة مفعمة بالحزن والأسى ، فقد أغار البرابرة على أفريقيا وتقدموا إلى مدينته وحاضروها ، وفاضت روحه قبل أن يدخلوا المدينة وينهبوها (١) .وكان أوغسطين قد عرف المسيحية من خلال « أمبروزيوس » على أنها أولاً مذهب في الخطيئة والحب واللطف ، وعرفها ثانياً على أنها فكرة كلية هي فكرة الكنيسة الأبدية التي ابتدأت بآدم وستنتهي بملكوت الله ، وظهرت له ثالثاً بحسبانها طريقاً صاعداً ينبغي للمرء تجاوزه حتى يصل إلى سدرة المنتهى حيث يوجد الإنسان في ملكوت الله (۲) .ولقد دعم هذا الاتجاه نحو المسيحية وأصله في أعماقه ،الدراسات الأفلوطينية التي طالعها في التساعيات حيث عزم في الحال على الاهتمام بهذه النواحي الميتافيزيقية ، لما وجده من تعارض بين ما تعلمه في الرياضيات والهندسة وعلم الفلك من حقائق علمية دقيقة مستندة إلى البرهان الواضح الملزم ، وبين ما امتلأت به المانوية من خرافات التنجيم والاعتقاد بأن الأفلاك والكواكب لها تأثير في حياة الإنسان ، ودفعه هذا التردد إلى اعتناق مذهب الشك الذي كان يقول به أتباع الأكاديمية الجديدة ، بعد أن أعجب بحججهم المختلفة ضد المعرفة العقلية اليقينية . ذلك كله يعني أن أوغسطين وقف على الاتجاهات الفلسفية وغير الفلسفية التي كانت سائدة في عصره ، عرف الاتجاه الضارب في أعماقه نحو المادة كما عرف الاتجاه الذي يصعد بالإنسان إلى عالم الملكوت .لقد عرف الفناء وعرف أيضاً الخلود ، عرف الشر ومارسه وعرف الخير واتجه إليه ، وقد وجد - بالعقل - تفسيراً لهذا وذاك ، لقد عرف الوسائل التي يمكن أن يلجأ إليها في إدراك الأمر المادي منها وغير المادي ، ووجد أن هذه الوسائل تنحصر في الحس والعقل والمشاهدة أو المعاينة القلبية ( الحدس ) ، فلقد أخذ من ماني اهتمامه بالحس والعقل ، وأخذ من الأفلوطينية والمسيحية اهتمامهما بالعقل والحدس والبصيرةوكان أوغسطين محباً للفلسفة والتأمل ، تواقاً إلى معرفة الحقيقةوالطريق الموصل إلى الحياة السعيدة ، ولقد صار أوغسطين من أساطين المذهب الكاثوليكي والثقات فيه ، حتى إن أدائه في المسائل كانت كافية في الاستدلال على صحتها . ولكن لم يكن منهم من فاقه في تح القلوب وإلهاب حميتها للدين ،