ه. كتب الحقائق وكتب الأوهام: رسم «محمد عمر» في كتابه «حاضر المصريين أو سر تأخرهم» الذي صدر القرن العشرين في مصر ، والفكاهية والأشـعـار الغـيـر المستظرفـة (كذا) وكتب النوادر والمجون المفسدة للأخلاق والطباع والخيال» . وقد استاء من انحطاط الكتاب المصري حينما قارنه بالكتب الصادرة في الشام ، فرجح الكتب الشامية ؛ ومطبوعة بصورة جيدة ، فيما الكتب المصرية سيئة موضوعات وطباعة ، «كتب السخافة والهذيان التي أفسدت علينا أخلاقنا ، وغيرت محاسننا ، أصبحنا نخاف أن يكثر أولادنا من قراءتها وأقاربنا وجيراننا أيضا ، عقولهم وأخلاقهم التأثير السيئ الذي ينغص الهيئة الاجتماعية (المجتمع) ومن أجل دعم وجهة نظره فقد قدم «محمد عمر» مسردا طويلاً بالكتب التي صدرت خلال السنوات الخمس قبل طبع كتابه ، أساسية من ذلك المسرد ، تمثلها القصص والروايات وكتب المجون ، وهي الكتب الطاغية ، معرفية أخرى يزيد عددها على خمسة عشر فرعا ، والعلوم ثلاثة وثمانين كـتـابا ، المفاسد ، فقد استأثرت الكتب الضارة والمفسدة باهتمام الجميع ، المعارف الأخرى لم تحظ إلا باهتمام أقل منها ، «سيف بن ذي يزن» وكـتـاب «عـودة الشيخ إلى صـبـاه» ، طبعات الليالي العربية بلغ عـشـرين طبعة في وقت قصير . انحطاط كبير فينا وخذلان ليس له مثيل ، لم يكتف مؤلف «حـاضـر المصريين أو سـر تأخـرهم» – الذي يريد بكتـابه محاكاة تحريضية لكتاب «سـر تقـدم الإنكليز السكسونيين» لـ«ريمون ديمولان» الذي ترجمه «أحمد فتحي زغلول»- بكل ما أوردناه ، بعنوان «الكتب والمؤلفون في مصر» ، بحسب مؤلفيها إلى نوعين : نوع من المؤلفين الذين يريدون نشر أفكارهم العلمية خدمة للعلم والوطن والدين والآداب ، ولا يفكرون بالشهرة والمال ، عرضا كـتـقـدير لتلك الخدمة الجليلة ، وهذا نوع نادر الوجود لا يحس به ، متوارون عن الأنظار ، لأنه «لا يوجد في القوم من يقدر كتابتهم حق قدرها» . ونوع آخـر غـايـتـهم الشـهـرة والمال ، وهؤلاء هم المستأثرون بالجاه والمال ، يصوغون وعي العامة صوغا سيئا مخالفا للقيم الكبرى ثم انتهى إلى أن أغلب ما تدفع به المطابع «عبارة عن ترجمة بعض روايات إفرنكية قد لا تنطبق على المطلوب في هذه البلاد ، في الغالب قوة اللهجة ولذة العبارة ، غاية لهم منها غير مجرد الفائدة المادية ، رائجة ، تروج فيها بضائعهم ، عوائد البلاد ، ونقائص أحكامها ونظامها واستبداد حكامها ؛ الأمة ، وتقويم المعوج ، ولاحظ غياب كتب التاريخ والآداب والفلسفة ، وهي كتب لا محل لها ؛ لخلق البلاد من عناية صحيحة بها ، العوام من أن كل بحث عقلي يناقض الاعتقاد الديني» . إلى ما اصطلح عليه بـ«كتب الفقراء» ، منها السفاهة ، ويعلمون منها ما طرأ على قلة الأدب والرذيلة من الطوارئ ، الكتب يؤلفها السفهاء والحشاشون ، وهي مملوءة بصور هزيلة قبيحة يقطر منها القبح ، المفسدة للأخلاق فيهم على فسادها ، والمجون مع كثرته بين الفقراء ، ويصدر منها كل يوم شيء جديد كثير ، الأدب والسفاهة والبعد عن المبادئ القويمة »(1) ومن تلك الكتب الرائجة التي حرص «محمد عمر» على ذكرها «رجوع الشيخ إلى صـبـاه» و «الإيضاح في علم النكاح» و«منغظ العنين ومغني عن العلم» و«علي الزيبق» ، شهرمان» و«العمدة اللي أتجوز ستة» ، القبيحة» . وهذه كتب رائجة تتكرر طباعتها بين شهر وآخر ، «بدع بطة» طبع في شـهـر واحـد ست مرات ، الفقراء متربية على حب التوغل في الرذيلة والقبح من الصغر»(۲) . وخلص إلى نتيجة تطابق ما كان قد خلص إليه قبله «محمد عبده» ، حق على العاقل المطالبة بإبادة هذه الكتب لما تحتويه من الغش والخداع خدمة للفضائل والآداب الإنسانية ، ومن حق الحكومة أن تعاقب أصحابها وطابعيها ، ولا يعز عليها ذلك ما دام أصحابها والذين يطبعونها يكتبون أسماءهم عليها ، وهي لو اهتمت بالأمر لوقفت على ما هنالك ، في الدين ، والخـداع في الآداب ، السفه ، ويولد بينهم مكروه الفساد ، و(161)عقوبات واضحة لكل من «انتهك حرمة الآداب ، وحسن الأخلاق ، بإشهار رسم أو نقش أو تصوير أو رمز وتمثيل»(۱) . ولم يقتصر الأمر على الكتب التخيلية الشعبية والروائية ، المسرح الذي قوبل بجفاء كبير ، خليل القباني» (۱۸۳۳-۱۹۰۲) من رفض قادته المؤسسة الدينية ، مفتي دمشق الشيخ سعيد الغبراء إلى السلطان «عبد الحميد، بـ«الكفر المبين» وطلب من «مليك الزمان ، وصاحب العرش والصولجان ، بلاد الشام ، فهتكت الأعراض ، وماتت الفضيلة ، ووئد الشرف ، والجنون» ، لذا صدر الأمر السامي العثماني بإغلاق المسرح ، وصفت بعض المصادر الطريقة التي تمكن بهـا مـفـتي دمشق من تأجيج غضب السلطان العثماني ضد القباني ، إذ سعى لمقابلته ، لكنه لم يفلح ، الشيخ حضور السلطان إلى المسجد للصلاة ، جموع المصلين : «يا مليك الزمان وصاحب العرش والصولجان ، الشريفين وإمام القبلتين ، يا أمير المؤمنين وخليفة سيد المرسلين : أن الشام ، أحبتك ، وذابت أكـبـادها تحنانا إلى ظليل عرشك . .تسـتـعـديك على عدوك ، وعدو الله هذا القباني الأفاق المستعبد الذي أحدث خروقا في الدين بترقيصه الفتيان المرد على المسارح ، وتهريجه وتمثيله ، تما لم تطق الشام على مثله صبرا ، يحدث في عصر أنت فيه الإمام الأوحد والركن المشيد ، أبدا» . وجاءت ردة فعل السلطان فورية إذ أصدر أمرا بإغلاق مسرح القباني ، «بمعـارضـة دينية ، أدت بالسلطات العـثـمـانيـة ، في نهاية الأمر ، وضعت التخيلات التمثيلية في تعارض مع «الحقائق» الدينية ، ترسيخ اليقين في النفوس ، والتمثيل ، ووجود القباني في أرض الشام سيحول دون عبادة الله ، الثقة به ، كما رأى المفتي ، فوجب نفيه عنها ليستقر اليقين في نفوس أهلها . وثمن الاسـتـقـرار هو النفي . إقصاء الثاني لكي ينصرف أهل البلاد إلى العبادة الصحيحة ، يشوش على المؤمنين العبادة ، ويحول دون استغراقهم الكامل في اليقين الديني . وكنا رأينا في الكتاب الأول من هذه الموسوعة(٢) الكيفية التي انفصل بها القص عن شـؤون الدين في القرون الأولى ، القصص ، مـما أفضى إلى وضع القص في مرتبة دونية ، شوارع بغداد ، وإباحة ضرب من يرتاد مجالسهم ، والتنكيل بهم ، هذه القضية بكاملها إلى الرواية والمسرح في القرن التاسع عـشـر ، «القباني» بمنأى عن ذلك . ظل التوجس قائما تجاه الأدب التخيلي- التمثيلي الذي خفضت قيمته يمارسون كتابة الرواية ، ويحذرون في الوقت نفسه من أضرارها ، وهو ما وجدنا مثالاً عليه عند «صروف» الذي ركز على البعد الأخلاقي للرواية ، أية قيمة ؛ سوى القيمة التعليمية الخاصة بتنمية الأسلوب الإنشائي . تعلق الأمر بالموقف المناهض للرواية ، والمتشكك في أهمـيـتـهـا ودورها ، «محمد يوسف نجم» أن كتابهـا كانوا معرضين للاحتقار ، الاجتماعية ، وكانوا يعدون «فئة متخلفة من ذوي المواهب الهزيلة »(١) ، الرواية العربية الحديثة بالمرويات السردية من ناحية الوظيفة التمثيلية ، ترث ولفترة طويلة ، ثم فحص «لويس شيخوه المطبوعات الشائعة في مطلع القرن العشرين ، فاستأثرت بأحكامه الروايات «التي يعربونها عن اللغات الأوربية ، ضـرره أكـبـر من نفعه لما يغلب عليه من وصف الحوادث الغـرامـيـة ، عن كتاب الغرب ، بينه الغث والسمين ، اللازم ، إذ ليس كل أحوال أوربا تصلح لأهل الشرق»(٢) . شيئا إلا ووظفه من أجل اجتثاث الظاهرة التخيلية رواية ومسرحا ، لما جمعت الآثار المسرحية لـ«مارون النقاش» (١٨۱۷-١٨٥٥) الذي «عرب عدة روایات (مسرحيات) وسعى بتشخيصها (تمثيلها) ، لهذا الصنف من الملاهي في هذه البلاد ، الشهير قسما من رواياته في كتاب سماه «أرزة لبنان» ، والمغفل والحسود ، وحذا فيها مارون حذو الراوية ( المسرحي) موليار الفرنسي ، وأودعها كثيرا من العادات الشرقية ، ابن أخيه خليل فراجت بذلك سـوق الروايات ، ويا لـيـتـهـا كـسدت مع كثرة مضارها ، حينما بدأت الرواية تجتذب الاهتمام ، منافسا للكتب الدينية والتاريخية ، لترجمة كتاب «سر تقدم الإنكليز السكسونيين» الذي صدر في عام 1899 ، إلى ابتـعـاد الـقـراء عن الكتب الجـادة بسبب التخلف الذي أمـات حب والـتـهـافت على اقتناء التـافـه من المؤلفات ، والروايات»(٢) . وذلك أمر ينبغي توقع حدوثه ، سياق ثقافي مختلف تدفع إلى الوراء بتلك التي تضفي على السياق القديم