هدفت الحركة الصهيونية إلى استيطان اليهود أرض فلسطين، ولم يكن لهم تأثير بعد في الدوائر السياسية داخل أوروبا. مثل وعد نابليون بونابرت بإعادتهم إلى فلسطين إذا لبوا دعوته وانضموا تحت لوائه، إلى أن حدثت الاضطهادات الدينية في روسيا القيصرية، فتألفت منذ ذلك الحين جمعيات عشاق صهيون (*) التي كانت رسالتها تقوم على استنهاض الهمم والعزيمة في سبيل استيطان اليهود أرض فلسطين. ثم نعرض لموقف العرب من تطور القضية الفلسطينية بعد انتهاء الحرب العالمية الأولى وحتى المواجهة العسكرية عام ١٩٤٨م. عرفت الموسوعة الدولية للعلوم الاجتماعية الصهيونية‏ بأنها حركة يهودية تهدف إلى حل المشكلة اليهودية، وأنها أدت في آخر الأمر إلى قيام دولة إسرائيل، وإنشاء وطن قومي محدد والعمل على تنميته والارتقاء به وتحقيق سيادة الدولة القومية. انقاذ اليهود الذين يعانون التفرقة والاضطهاد باتاحة فرصة الحياة اللائقة ذات المعنى لهم في وطن خاص بهم. فهو ضمان بقاء الشعب اليهودي حياً في مواجهة التهديد بالتفتت والذوبان في تلك البلاد من العالم التي يتمتع فيها اليهود بالمساواة التامة في الحقوق. قام بها متطرفوا اليهود في القرن التاسع عشر، بهدف جمع شتات اليهود من شتى أرجاء العالم حول قومية منتحلة هي القومية اليهودية، وقد عارض هؤلاء المتطرفون اندماج اليهود في المجتمعات التي يعيشون فيها، كحل لما أسمته بالمشكلة اليهودية، بكل ما فيه من شعائر وطقوس وتعاليم وغيبيات وأساطير، ولا تربط يهود الشتات بتلك الأرض سوى روابط عاطفية يعملون على إيقاظها بشتى الطرق والوسائل، وهو ما لا تتوافر عند الصهيونية. ومن ثم فقد كان أحد أهداف الصهيونية لسد هذه الثغرة نقل كل اليهود من مختلف الدول والمجتمعات التي يعيشون فيها بالفعل، أى في موطنهم الأصلي القديم كما يزعمون ذلك. ولقد كان هناك أسباب أخرى هامة ساعدت على قيام الصهيونية، وهي أسباب وعوامل تتعلق بالظروف الاجتماعية التي عاش فيها اليهود في الشتات، واتخذ شكل الظاهرة العامة التي تعرف باسم "اللاسامية" أو معاداة السامية، ومع التسليم بوجود التفرقة في المعاملة وبتعرض اليهود للأذى والاضطهاد والتعذيب والقتل، وحقيقة الأمر أن اليهود الذين نزحوا إلى أوروبا قد تعرضوا للاضطهاد منذ أيام الإمبراطورية الرومانية، بسبب رفض الجماعات المتدينة الإندماج في المجتمع الروماني. وبعد انتشار المسيحية في أوروبا لم يتوقف اضطهاد اليهود، إذ اعتبر هؤلاء مسئولين عن دم السيد المسيح عليه السلام. وما ترتب على ذلك من تأكيد حقوق الإنسان. وقد هيأ هذا المناخ الفكري الذي ساد أوروبا فرصة لتحرير اليهود وإنطلاقهم من حياة العزلة والإنطواء إلى التحرر والإندماج مع المجتمعات التي كانوا يعيشون بينها، بعد أن خفت حدة الاضطهادات الموجهة لهم في غرب أوروبا، لما التجمعات اليهودية في شرق أوروبا، والذي حملت السلطات الروسية اليهود مسئوليته، هو الشرارة التي أشعلت جذوة الأعمال المعادية لليهود، حتى فتحت أبواب الجحيم على مصراعيها لتبتلع اليهود، وانتشرت حركة اضطهاد لليهود من روسيا إلى بولندا ورومانيا، مما أوجد ما عرف بـ "المشكلة اليهودية" ويقصد بها إمكانية بقاء اليهود دون اضطهاد في المجتمعات التي يعيشون فيها. رأى بعض المفكرين اندماج اليهود في المجتمعات التي يعيشون بينها، فعلى سبيل المثال، نادى المفكر الألماني اليهودي موسى هنداسون (۱۷۸-۱۷۲۹) بأن اليهودية عقيدة دينية فحسب، وبذلك يرد عن نفسه الاضطهاد. فقد رأى كالبشر في كتابه البحث عن صهيون أن حل المشكلة اليهودية يكون عن طريق استيطان اليهود لفلسطين بمساعدة دولية، لأن معاداة السامية - على حد قوله - لا يمكن أن يزول طالما أن اليهود لا يملكون وطناً قومياً خاصا بهم، موضحاً أن خلاص اليهود لن يتم على يد مسيح منتظر" بل عن طريق جهودهم الذاتية، وحث أغنياء اليهود على تأسيس جمعية تتولى استعمار فلسطين وتشجيع الهجرة اليهودية إليها وبناء المستعمرات الزراعية فيها. ورأى أن إندماج اليهود في المجتمعات الأوروبية لا ‏ يشكل حلاً عملياً للمشكلة اليهودية، وإنما يكمن الحل الحقيقي لهذه المشكلة في الاقتناع بوجود قومية يهودية، وأن الدين اليهودى هو القومية اليهودية ، وذهب ليوبنسكر في كتابه بعنوان التحرير الذاتي الذي صدر عام ۱۸۸۲ ، إلى ضرورة اعتماد اليهود على أنفسهم للخلاص من ظروف ‏ حياتهم المهينة، وأضاف بأن المشكلة اليهودية العالمية يجب أن تجد حلاً قومياً. وبالرغم أن ليوبنسكر لم يحدد فلسطين بالذات لتكون وطناً قومياً لليهود، إلا أنه في ذات الوقت لم يغلق الباب تماماً أمام عودة اليهود إليها. وصولا إلى بن جوريون، كانوا يعتقدون أنه لا يمكن لليهود تحقيق إمكاناتهم وقدراتهم، وأنه إذا كان يتعين على اليهود أن يعيشوا كامة، وهي تلك المناطق السكنية المغلقة التي استوطن فيها اليهود بأوروبا، ومن هنا كان رفض اليهود الاقتراحات التي قدمت لهم بإقامة وطن قومي لهم في مناطق أخرى من العالم غير فلسطين، فقد لاحظ جمال حمدان في كتابه استراتيجية الاستعمار، لاحظ حقيقة هامة كانت تمثل حلا المشكلة اليهودية، أن الاستعمار كله ما تم إلا على يد أوروبا وما تم إلا خارجها، وفي نهاية الأمر وقعت فلسطين لتكون الضحية الفعلية نظراً لبعض العوامل الخاصة بالاستعمار الصهيوني. فنشأت الحركات اليهودية المختلفة المنادية بوطن خاص لليهود، وانتقل مع أسرته إلى فيينا، ثم عمل مراسلاً لإحدى الصحف النمساوية في باريس عام ۱۸۹۱ . نشر كتابه المشهور دولة اليهود"، كما يعد هرتزل نفسه أبو الصهيونية والمسئول الأول عن تحويل نشاطات اليهود إلى حركة منظمة تعرف ب الصهيونية السياسية. ولم يكتف هرتزل بأن يقيم الدليل في كتابه على أن اليهود يمثلون أمة متميزة، وأن المشكلة اليهودية مشكلة قومية لا مناص من أن تأخذ طريقها إلى الحل كبقية القوميات المضطهدة، بل خطط أيضاً لمشروع إقامة دولة اليهود" عملياً. ثم تقام بعد ذلك دولة اليهود، عقب انتهاء المفاوضات الدبلوماسية وسائر الخطوات التمهيدية، ولم يكتف هرتزل بوضع كتابه دولة اليهود الذي دعا فيه إلى إنشاء تلك الدولة وخطط لقيامها، بل رأى من الضرورى أن تنتقل المسألة من مرحلة الدعوة والتخطيط إلى مرحلة عملية تبدأ باجتماع المؤمنين بالحركة الصهيونية في مؤتمر يتدارسون فيه قيام دولة اليهود، وفيه تم تحديد هدف الصهيونية بأنه تأسيس وطن للشعب اليهودي في فلسطين يؤمنه القانون العام. رأى المؤتمر العمل على تشجيع استعمار فلسطين بالطرق الملائمة على أيدى عمال زراعيين وصناعيين من اليهود، بدعم وتأييد من شخصيات وجمعيات خيرية يهودية. وفي عهد السلطان العثماني عبد الحميد الثاني (1876-1909)، حاولت الصهيونية العالمية بالطرق الدبلوماسية الحصول على موافقته بالتنازل عن فلسطين لليهود، أو مساومة السلطان العثماني بهدف الحصول على قرارات ذات صبغة قانونية يسمح من خلالها بالاستيطان اليهودى الجماعي في فلسطين، مقابل تسديد الديون المتراكمة على الدولة العثمانية، كما أصدرت الدولة العثمانية عدة مراسيم تحظر بشدة شراء الأراضي الفلسطينية في مدينة القدس. فاتجه هرتزل إلى ألمانيا التي كانت أقرب حلفاء العثمانيين في أوروبا لدفعها للضغط على السلطان العثماني. وعندما صدر قرار للمؤتمر الصهيوني في عام ۱۹۰۵ يدعو إلى المزيد من الاستعمار الاستيطاني، حظرت الدولة العثمانية كل نقل الملكية الأرض إلى اليهود في سنجق القدس وولاية بيروت. وبعد حركة الانقلاب التي قامت بها تركيا الفتاة عام ۱۹۰۹، ويصور الاجتماع الذي عقد بين العرب الفلسطينيين وهؤلاء الصهاينة في ربيع عام ۱۹۱٤ ، وفى تعلم العربية والإندماج أو التكامل مع السكان المحليين ، وباندلاع الحرب العالمية الأولى (أغسطس (۱۹۱٤)، وهناك كرس جهوده من أجل تحقيق مطامع الصهيونية السياسية. وقد نجح وايزمان في إيجاد نصيرين قويين للصهيونية خارج الدوائر اليهودية، وهما أرثر جيمس بلفور النائب في مجلس العموم عن مدينة مانشستر ووزير الخارجية البريطانية فيما بعد في وزارة لويد جورج، وبه تعهدت بريطانيا لزعماء الحركة الصهيونية إنشاء وطن قومي لليهود في فلسطين، عندما أرسل بلفور وزير الخارجية آنذاك إلى اللورد روتشيلد خطاباً يفيد ذلك. أولهما كان ينص على أن حكومة صاحبة الجلالة ترى الأذن بإقامة وطن قومي للشعب اليهودي في فلسطين، أما القسم الثاني من الإعلان فقد تضمن تعهد الفلسطينيين جاء فيه أنه من المفهوم تماماً عدم عمل أي شئ يكون من شأنه الإضرار بالحقوق الدينية والمدنية للطوائف الموجودة في فلسطين من غير اليهود". كان اليهود يمثلون نحو 7% من عدد السكان في فلسطين وكان العرب يمثلون نحو 93% ، مع اقتراح من الحكومتين الفرنسية والروسية بأن توضع فلسطين تحت الإدارة الدولية، وتضمنت المراسلات بين الشريف حسين والسير هنرى مكماهون في عامي ١٩١٥، والتي قامت على أساسها الثورة العربية الكبرى ضد الدولة العثمانية ما يفيد أن فلسطين ستوضع في نطاق الاستقلال العربي، وفي ذات الوقت جاء وعد بلفور ليشجع استعمار اليهود لفلسطين تحـــت الحماية البريطانية، فقد قيل أسباب عديدة حول الدوافع التي حدت ببريطانيا الإصدار تصريح بلفور المشتوم منها، وفي ذات الوقت استغلال النفوذ المالي والسياسي لليهود في جر الولايات المتحدة لدخول الحرب إلى جانب الحلفاء، والخلاصة أن تصريح بلفور كان وليد ظروف الحرب،