المصدر الثاني: السنة النبوية. السنة النبوية هي المصدر الثاني من مصادر التشريع الإسلامي، وسنجعل الكلام حول هذا المصدر من خلال أربعة مباحث. كلمة السنة في اللغة تطلق على السيرة والطريقة. 1 وفي الاصطلاح الشرعي: كل ما صدر عن النبي صلى الله عليه وسلم من قول أو فعل أو تقرير. من خلال تعريف السنة يتبين لنا أنها تنقسم إلى عدة أقسام، وهي: أ – السنة القولية: وهي الأحاديث التي نطق بها الرسول صلى الله عليه وسلم في مختلف الأحوال ونقلت إلينا بلفظها، مثل قوله صلى الله عليه وسلم:" إنما الأعمال بالنيات . ".3 ب – السنة الفعلية : وهي كل ما صدر عن النبي صلى الله عليه وسلم من أفعال، أو سكت عن إنكاره بعد أن صدر أمامه، أو ظهر منه ما يدل على استحسانه والرضا به، إقراره صلى الله عليه وسلم خالد بن الوليد رضي الله عنه حينما أكل الضب أمامه ولم ينكر عليه، 3 أخرجه البخاري في صحيحه، لقد اكتسبت السنة النبوية حجيتها من القرآن الكريم ذاته الذي هو حجة الله على عباده، ويتبين لنا كونها حجة من خلال عدة أوجه مذكورة في القرآن، وإليك بيان شيء منها: الوجه الأول: إخبار القرآن بأن النبي صلى الله عليه وسلم لا ينطق في أمور التشريع إلا بالوحي. قالاللهعزوجل:{َوَماَيْنطق َعناْلَهَوىإْنهَوإالاَوْحٌييوَحى َعلاَمه َشديداْلقَوى ذو م ارة فَا ْستَ َوى َوه َو با ْلأفق ا ْلأَ ْعلَى} [النجم: 3- 4] فالله سبحانه وتعالى يخبر أن كلمانطقبهنبيهصلىاللهعليهوسلم–فيأمورالتشريع–هووح ٌيمنه سبحانه إليه، قال ابن حزم رحمه الله:" لما بينا أن القرآن هو الأصل المرجوع إليه في الشرائع؛ نظرنا فيه - أي في القرآن - فوجدنا فيه إيجا َب طاعة ما أ َم َرنا به رسول الله صلى الله عليه وسلم ووجدناه عز وجل يقول فيه واصفا لرسوله صلى الله عليه وسلم {وما ينطقعنالهوى*إنهوإلاوحييوحى}فص احلنابذلكأ انالوحيينقسممنالله عز وجل إلى رسوله صلى الله عليه وسلم على قسمين: أحدهما: وح ٌي متلو مؤلاف تأليفا معجز النظام - أي معجزا في ألفاظه - وهو القرآن، والثاني: وح ٌي مروي منقو ٌل غير مؤلاف ولا معجز النظام ولا متلو لكنه مقروء، وهو المبين عن الله عز وجل مراده منا، الرسول وأولي الأمر منكم فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر ذلك خير وأحسن تأويلا} "5 وهناك أمو ٌر نطق بها الرسول صلى الله عليه وسلم اجتهادا منه، وهذا الاجتهاد قد أذن الله به لرسوله صلى الله عليه وسلم، وهو ح ٌق أيضا إذا أق اره الله سبحانه على هذا الاجتهاد، قال ابن عثيمين رحمه الله:" {وما ينطق عن الهوى} أي: لا يتكلم بشيء صادر عن الهوى بأي حال من الأحوال، فما حكم بشيء من أجل الهوى، وما اجتهد به صلى الله عليه وسلم اجتهاداً يريد به المصلحة، الثاني: أن ينطق بالسنة الموحاة إليه التي أقرها الله تعالى على لسانه. الثالث: أن ينطق باجتهاد لا يريد به إلا المصلحة. فالنبي صلى الله عليه وسلم لا يمكن أن يتكلم عن هوى، قال تعالى:} َ و أ َ ْ ن َ ز َ ل ا اللَّ َ ع ل َ ْ ي َ ك ا ْ ل ك ت َ ا َ ب َ و ا ْ ل ح ْ ك َ م ة َ َ و َ ع ل ا َ م َ ك َ م ا ل َ ْ م ت َ ك ْ ن ت َ ْ ع ل َ ْ م َ و َ ك ا َ ن ف َ ْض ل ا اللَّ َ ع ل َ ْ ي َ ك َ ع ظ ي ً م ا }[النساء: 113] - وذكر سبحانه وتعالى أنه بعث رسوله صلى الله عليه وسلم لكي يتل َو على الناس آيات القرآن الكريم، قال تعالى: {لَقَ ْد َم ان االلَّ َعلَى ا ْلم ْؤمني َن إ ْذ َب َع َث فيه ْم َرسو ًلا م ْن أَ ْنفسه ْم َيتْلو َعلَ ْيه ْم آ َياته َوي َزكيه ْم َوي َعلمهم ا ْلكتَا َب َوا ْلح ْك َمةَ َوإ ْن َكانوا م ْن قَ ْبل لَفي َض َلال مبين} [آل عمران: 164] 5 انظر: الإحكام في أصول الأحكام لابن حزم الأندلسي، ولاحظ الفرق بين تلاوة القرآن، فالتعليم قد ٌر زائد على مجرد التلاوة، وبيان كيفية التطبيق لهذا القرآن الكريم، فهي إذن شي ٌء آخر غير القرآن وليس هناك وح ٌي آخر إلا السنة التي كان ينطق بها ويفعلها صلى الله عليه وسلم. قال ابن كثير رحمه الله:" َوقَ ْوله تَ َعالَى: { َوي َعلمهم ا ْلكتَا َب} َي ْعني: ا ْلق ْرآ َن { َوا ْلح ْك َمةَ} َي ْعني: السناةَ، قَالَه الحسن َوقَتَا َدة، َومقَاتل ْبن َح ايا َن، َوأَبو َمالك َو َغ ْيره ْم. َوقي َل: ا ْلفَ ْهم في الدين. 7 يقصد رحمه الله: أنه لا منافاة بين القولين، لأنه بالسنة يكون الفهم الصحيح والتطبيق السليم للدين. - وقال سبحانه مخاطبا أمهات المؤمنين رضي الله عنهن وأرضاهن: { َوا ْذك ْر َن َما يتْلَى في بيوتك ان م ْن آ َيات االلَّ َوا ْلح ْك َمة إ ان االلََّ َكا َن لَطيفًا َخبي ًرا} [الأحزاب: 34] قال ابن جرير الطبري رحمه الله في تفسير الآية الكريمة:" َوا ْذك ْر َن َما ي ْق َرأ في بيوتك ان م ْن آ َيات كتَاب االلَّ َوا ْلح ْك َمة؛ َو َي ْعني با ْلح ْك َمة: َما أوح َي إلَى َرسول االلَّ َصلاى الله َعلَْيهَوَسلاَممْنأَْحَكامَدْين االلَّ، فسمعت َم ْن أ ْرضى من أهل العلم بالق َرآن يقول: الحكمة سنة رسول الله، لأن الق َرآن ذكر وأتْب َعتْه الحكمة، وذك َر الله َمناه على َخ ْلقه بتعليمهم الكتاب والحكمة، وحتام على الناس اتباع أمره، فلا يجوز أن يقال لقول وذلك أ ان الله َج َع َل الإيمان برسوله صلى الله عليه وسلم مقروناً بالإيمان به سبحانه وتعالى". الوجه الثالث: الآيات الكثيرة في كتاب الله عز وج َل والتي فيها الأمر بطاعته صلى والتحذير من مخالفة أمره. أولا: قوله تعالى: { َيا أَي َها الاذي َن آ َمنوا أَطيعوا االلَّ َوأَطيعوا ال ارسو َل َوأولي ا ْلأَ ْمر م ْنك ْم َ فَإْنتَنَاَزْعتْمفي َشْيءفَردوهإلَى االلََّوالارسولإْنكْنتْمتْؤمنوَنبااللََّواْلَيْوماْلآخر ذَل َك َخ ْي ٌر َوأَ ْح َسن تَأْوي ًلا} [النساء: 59] أ / ففي هذه الآية يأمر الله تعالى جميع المؤمنين - سواء من كان منهم في زمان رسول الله صلى الله عليه وسلم أو من يأتي بعد زمانه - بطاعة الله عز وجل وطاعة الرسول عليه الصلاة والسلام، واتباع سنته والرجوع إليها بعد وفاته، وقد نقل ابن جرير الطبري في تفسيره عن عطاء بن أبي رباح تلميذ ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال في تفسير قوله تعالى:{أَطيعوا االلَّ وأَطيعوا ال ارسو َل} النساء:59]قَاَل:" َطاَعةالارسول:اتَباعاْلكتَابَوالسناة"10 10 انظر: جامع البيان للطبري ( 7 / 175 ) 11 انظر: تفسير ابن كثير ( 2 / 345 ) قال ابن القيم رحمه الله:" فَأَ َم َر تَ َعالَى ب َطا َعته َو َطا َعة َرسوله، لَ ْم َيك ْن فيه، 12 ب / وفي هذه الآية أيضا يأمرنا الله أن نر اد الأمور عند التنازع والاختلاف فيها إلى الله ورسوله، قال تعالى:} فَإ ْن تَنَا َز ْعت ْم في َش ْيء فَردوه إلَى االلَّ َوال ارسول { والرد إلى الله عز وجل هو الرد إلى كتابه، عليه وسلم، قال ميمون بن مهران رحمه الله:" " ال ارد إلَى االلَّ: ال ارد إلَى كتَابه, َوال ارد إلَى َرسوله إ ْن َكا َن َح ًّيا, فَإ ْن قَ َب َضه االلَّ إلَ ْيه فَال ارد إلَى السناة "13 قالابنالقيمرحمهالله:"َوأَْجَمَعاْلمْسلموَن َعلَىأَانالارادإلَى االلَّ-سْبَحانَه-هَوالارد إلَىكتَابه، َوالارادإلَىالارسول- َصلاى االلَّ َعلَْيهَوَسلاَم-هَوالاردإلَْيهفيحضوره َو َح َياته، 14 ج / وتدل هذه الآية الكريمة أيضا على ضرورة أن تكون السنة محفوظة، إذ كيف يأمرنا الله عز وجل بالرجوع إلى رسوله صلى الله عليه وسلم بعد وفاته وسنته غير محفوظة ؟! فلا سبيل إلى امتثال ما أمرنا الله به من الرد إلى رسوله صلى الله عليه وسلم إلا بالرجوع إلى الأخبار والروايات الواردة عنه صلى الله عليه وسلم والتي قيض الله لها من أئمة الحديث من يدونها ويجمعها، وفق منهج علمي جاد ودقيق، 13 انظر: جامع البيان للطبري ( 7 / 186 ) 14 انظر: إعلام الموقعين لابن القيم ( 1 / 174 ) إنما هو إلى كلام الله تعالى وهو القرآن، ثانيا:ومنهذهالآياتأيضاقولهتعالى:} َوَماآتَاكمالارسولفَخذوه َوَمانََهاكْم َعْنه فَا ْنتَهوا واتاقوا االلَّ إ ان االلَّ َشديد ا ْلعقَاب} [الحشر: 7] والمقصود بالإيتاء هنا الأمر والتشريع، قال القرطبي رحمه الله:" قَ ْوله تَ َعالَى:} َوما آتاكم ال ارسول فَخذوه { َوإ ْن َجا َء بلَ ْفظ ا ْلإيتَاء َوه َو ا ْلمنَا َولَة فَإ ان َم ْعنَاه ا ْلأَ ْمر، 16 لأَناهقَاَبلَهبقوله}َوَمانهاكم َعنه فَا ْنتَهوا{17 وهذه الأوامر والنواهي هي ما جاء في السنة النبوية، ولما أمرنا الله عز وجل أن نأتمر بما أمرنا به الرسول صلى الله عليه وسلم وأن ننته َي عما نهانا عنه؛ دل هذا على حجية السنة النبوية. َوكل َش ْيء أَتَانَا به م َن ال اش ْرع فَقَ ْد أَ ْع َطانَا إ اياه َوأَ ْو َصلَه إلَ ْينَا، َََ وإليك هذا المثال الذي يوضح هذا الوجه من أوجه حجية السنة، فَقَالَ ْت: أ ْنبئْت أَنا َك تَ ْن َهى َعن ا ْل َواصلَة؟ قَا َل:نَ َعْم، أَْم َسم ْعتَهم ْن َرسولالله َصلاىالله َعلَْيه َو َسلا َم؟ فَقَا َل: أَجده في كتَاب الله، َو َع ْن َرسول الله، فَقَالَ ْت: َوالله لَقَ ْد تَ َصفا ْحت َما َب ْي َن َدفاتَي ا ْلم ْص َحف19، قَا َل: فَ َه ْل َو َج ْدت فيه: { َما آتَاكم ال ارسول فَخذوه َو َما نَ َهاك ْم َع ْنه فَا ْنتَهوا} [الحشر: 7] ، قَا َل: فَإني َسم ْعت َرسوَلالله َصلاىالله َعلَْيه َو َسلاَم"نََهى َعْنالناام َصة َواْلَواشَرة َواْلَواصلَة َواْلَواشَمة إ الا م ْن َداء ". 20 فهنا يستدل الصحابي الجليل عبدالله بن مسعود رضي الله عنه بهذه الآية على حجية السنة النبوية، ثم يستدل بعد ذلك بالسنة على حرمة هذه الأمور المذكورة في الحديث. لقَد نزل هذا القرآن الكريم على نبينا محمد صلى الله عليه وسلم خلال ثلاث وعشرين سنة، ولا شك أن تصرفات النبي صلى الله عليه وسلم وأقواله وأفعاله وأحواله هي البيان الأمثل للقرآن الكريم، لأنه أعلم الناس بكتاب الله وبمراد الله عز وجل، فلا سبيل إلى الفهم الصحيح لتوجيهات القرآن وأحكامه وهداياته إلا بالرجوع إلى السنة النبوية. 20 أخرجه الإمام أحمد في المسند ( 7 / 57 ) برقم (3945 ) تحقيق شعيب الأرناؤوط وآخرون، طبعة: مؤسسة الرسالة. َو َغْيرذَل َكمامالَْميفَصْله". 22 فبينت السنة النبوية المرا َد من تلك الآيات، ألا وهي عبادة الصلاة التي أمرنا الله عز وجل في كتابه بإقامتها، ولنطرح بعض الأسئلة: كم عدد الصلوات المفروضة في اليوم والليلة؟ وكم عدد ركعات كل صلاة؟ وما هي صفة الصلاة؟ وما الذي يقوله المصلي في قيامه وركوعه ورفعه من الركوع وسجوده وجلوسه وتشهده؟ وما ذا يفعل المصلي إذا سها في صلاته؟ وما هي الصلوات الجهرية والسرية؟ وما هو وقت دخول وخروج كل صلاة؟ وقبل هذا ما هي صفة الأذان والإقامة؟ وما ذا عن الصلوات الأخرى غير المفروضة مثل السنن الرواتب والصلوات التي يشرع لها الجماعة كصلاة العيدين والاستسقاء والكسوف والتراويح ؟ كل هذا لا نجده إلا في السنة، فهل يتصور أحدٌ أنه بإمكانه إقامة الصلاة دون الرجوع إلى السنة؟! وقل مثل ذلك أيضا في إيتاء الزكاة وصوم رمضان وحج بيت الله الحرام، طبعة: دار إحياء التراث العربي – بيروت. 22 انظر: تفسير القرطبي ( 10 / 109 ) التفصيلات والأحكام الهامة لم تعرف إلا من طريق السنة، وكل هذا يدل دلالة قاطعة أنه لا يمكن إقامة الدين إلا من خلال سنة رسول رب العالمين عليه أفضل الصلاة وأتم التسليم. خذوا َعناافَإناكْم, مْنأَْيَنكْنَتتَْعلَمأَان َصَلاةَالظْهرعادتَهاَكذَا, َوحي َن َو ْقت َها َكذَا, - َ و َ و َض َ ع ي َ َ د ه َ ع ل َ ى َ م ْ ف ص ل ا ْ ل َ ك ف َ و َ و َض َ ع َ ي َ د ه ع ْ ن َ د ا ْ ل م ْ ر ف َ ق َ و َ و َض َ ع َ ي َ د ه ع ْ ن َ د ا ْ ل َ م ْ ن ك ب - اتابعوا َحديثَنَا َما َحادثْنَاكْم, 23 والزعم بأنه يكفي الرجوع للقرآن دون السنة؛ َهذَا َو َحدثْنَا م َن ا ْلق ْرآن, فَا ْعلَ ْم أَناه َضال مضل ". ولا ويثيرون الشبهات حول حجيتها، ويزعمون الاكتفاء بالقرآن عنها، المؤ ايد بالوحي صلى الله عليه وسلم، فَعناْلمْقَدامْبنَمْعديَكرَب َعْنَرسول االلَّ َصلاىالله َعلَْيهَوَسلاَمأَناهقَاَل:"أََلا إني أوتيت ا ْلكتَا َب، أَ َلا يوشك َرج ٌل َش ْب َعان َعلَى أَري َكته َيقول َعلَ ْيك ْم ب َهذَا اْلقْرآنفََماَوَجْدتْمفيهمْن َحَلالفَأَحلوه، َوَماَوَجْدتْمفيهمْن َحَرامفََحرموه"25وفي رواية أنه قال في آخره:" أَ الا َوإ ان َما َح ار َم َرسول االلَّ َصلاى الله َعلَ ْيه َو َسلا َم مثْل َما َحارَم االلَّ". وعن أبي رافع مولى النبي صلى الله عليه وسلم َعن النابي صلى الله عليه وسلم أنه قَاَل:" َلاأْلفَيانأََحَدكْممتاكئًا َعلَىأَريَكته، َما َو َج ْدنَا في كتَاب االلَّ اتا َب ْعنَاه "27 ومعنى: لا ألفين، للسنة النبوية مع القرآن الكريم أحوال ثلاثة، وهي: أولا: سنة مؤكدة لما جاء في القرآن الكريم. مثاله: التأكيد على وجوب إقامة الصلوات وإيتاء الزكاة وصوم رمضان والحج. والتأكيد على تحريم الزنا وقتل النفس بغير حق وعقوق الوالدين. حديث رقم (4605 ) وجاءت كذلك بتفصيل أحكام الزكاة من حيث الأموال التي تزكى، الخ. وهي تشمل من أطراف الأصابع إلى مفصل الكتف، د – توضيح المشكل: قد ترد بعض الآيات من القرآن الكريم، ومن أمثلة ذلك أنه لما نزل قوله تعالى: {الاذي َن آ َمنوا َولَ ْم َي ْلبسوا إي َمانَه ْم بظ ْلم أولَئ َك لَهم ا ْلأَ ْمن َوه ْم م ْهتَدو َن} [الأنعام: 82] َش اق ذَل َك َعلَى أَ ْص َحاب النابي َصلاى الله َعلَ ْيه 28 انظر: السنن الكبرى للبيهقي ( 8 / 470 ) طبعة: دار الكتب العلمية. أبواب الفرائض، َو َسلا َم، أَلاَتَْسَمعوَنإلَىقَْوللْقَماَن:{إانالشْرَكلَظْلٌم َعظيٌم{". وحصل عليها الإجماع؛ الأخذ بالسنة التي تأتي بأحكام لم تذكر في القرآن، ولهذا أمثلة كثيرة جدا في التشريع، وتحريم الجمع بين المرأة وعمتها أو خالتها في النكاح، وتحريم أكل ذوات الأنياب من السباع وذوات المخالب من الطيور، والتحريم بالرضاع ما يحرم من النسب، المبحث الرابع: معايير وشروط الحديث الصحيح. يأتي السؤال المهم: ما هو المعيار الذي نثبت من خلاله صحة الحديث حتى يكو َن مقبولا ؟ وللإجابة على هذا السؤال نقدم بمقدمة فنقول: إن علماء الحديث رحمهم الله أدركوا في أوقات مبكرة ضرورةَ التمييز بين المرويات، ومعرفة المقبول من المردود، 31 109، ولقد كان هذا التوجيه النبوي ونحوه من التوجيهات هو الداف َع لهم على تدوين السنة النبوية وكتابتها وجمعها ومعرفة أحوال رواتها ووضع قواعد هذا العلم الشريف، علم مصطلح الحديث. َو َيقول: قَا َل َرسول الله صلى الله عليه وسلم ، قَا َل َرسول الله صلى الله عليه وسلم، فَقَا َل: َيا اْبَن َعاباس، َوأَ ْصغَ ْينَا إلَ ْيه بآذَاننَا، لَ ْم نَأْخ ْذ م َن النااس إ الا َما نَ ْعرف ". فنلاحظ في هذه الرواية احتياط الصحابي الجليل عبدالله بن عباس رضي الله عنهما في قبول الخبر، وعدم قبول الخبر إلا بعد معرفة ناقله. وروى مسلم أيضا في مقدمة صحيحه أخبارا أخرى تدل على هذا المعنى الذي ذكرناه، ومن ذلك: فَاْنظروا َعامْنتَأْخذوَن دينَك ْم ". وقال أيضا:" لَ ْم َيكونوا َي ْسأَلو َن َعن ا ْلإ ْسنَاد، فَلَ اما َوقَ َعت ا ْلفتْنَة، قَالوا: َسموا لَنَا ر َجالَك ْم، فَيْن َظر إلَى أَ ْهل السناة فَي ْؤ َخذ َحديثه ْم، وهو مع هذا يقول هذا الكلام وينقل لنا أنهم كانوا لا يقبلون الرواية إلا بعد معرفة إسنادها والتأكد من عدالة ناقليها. - وعن عبدالله بن المبارك رحمه الله أنه قال:" ا ْلإ ْسنَاد م َن الدين، وعن نشأة وأطوار التدوين فيها، طوي ٌل جدا، والمراد بالعدالة: استقامة سلوك الإنسان في الظاهر، وبعده عن أسباب الفسق، بعيدا عما يصير به فاسقا؛ حكم له بالعدالة، والدليل على اشتراط عدالة الراوي قوله تعالى:{ َيا أَي َها الاذي َن آ َمنوا إ ْن َجا َءك ْم فَاس ٌق بنَ َبأ} [الحجرات: 6] فدلت هذه الآية على التثبت والتبين وعدم قبول خبر الفاسق. واشترط الله في الشهود أن يكونوا عدولا، الشرط الثاني: ضبط الراوي. 32 انظر: مقدمة صحيح مسلم ( 1 / 12 – 15 ) 33 يوصى الطالب بالرجوع إلى كتاب تدوين السنة النبوية نشأته وتطوره، للدكتور محمد مطر الزهراني رحمه الله. ويمكن للطالب مراجعة كتاب نزهة النظر في شرح نخبة الفكر للحافظ ابن حجر رحمه الله. بل لا بد أن يكون الراوي من أهل الضبط والحفظ والإتقان، ومع هذا قيل فيه: إنه ضعيف الحديث ! وهذا يدل على احتياط العلماء في باب الرواية عن رسول الله صلى الله عليه وسلم. والضبط نوعان: أ- ضبط صدر: بأن يكون الراوي ضابطا لما سمعه، أو كثرة الغلط؛ فإن حديثه في حكم المردود. كيف يعرف علماء الحديث ضبط الراوي وإتقانه؟ يدرك العلماء ذلك من خلال اختبار الراوي، وأيضا من خلال عرض روايات هذا الراوي ومقارنتها برواية الثقات الحفاظ الأثبات، وفي بيان ذلك يقول ابن الصلاح رحمه الله في كتابه علوم الحديث:" ي ْع َرف َك ْون ال اراوي َضاب ًطا بأَ ْن نَ ْعتَب َر ر َوا َياته بر َوا َيات الثقَات ا ْل َم ْعروفي َن بال اض ْبط َوا ْلإتْقَان، فَإ ْن َو َج ْدنَا ر َوا َياته م َوافقَةً - َولَ ْو م ْن َح ْيث ا ْل َم ْعنَى - لر َوا َياته ْم، َوإ ْن َو َج ْدنَاه َكثي َر ا ْلم َخالَفَة لَه ْم؛ 35 الشرط الثالث: اتصال السند. 35 انظر: علوم الحديث لابن الصلاح ، صفحة ( 106 ) تحقيق: نور الدين عتر، طبعة: دار الفكر. غيره. وسمي ال اسنَد سنَداً؛ أي: اْلإْسنَادمَنالدين، َولَْوَلااْلإْسنَادلَقَاَلَمْن َشاَءَما َشاَء". هذا الحديث أنه في حكم المردود. الشرط الرابع: السلامة من الشذوذ. والمقصود بالحديث الشاذ عند العلماء هو: مخالفة الثقة لرواية من هو أوثق وأضبط منه، أو مخالفة الثقة لرواية الثقات. وهذا الشرط في الحقيقة يبين لنا دقة منهج العلماء في قبول الرواية، ومعنى ذلك: أن هذا الراوي شذ عن بقية الرواة وأخطأ في الرواية، طبعة: دار طيبة. 37 انظر: مقدمة صحيح مسلم ( 1 / 15 ) ولكن علماء الرواية بما عندهم من سعة العلم ودقة الفهم والإحاطة بالمرويات ومعرفة الطرق والأسانيد، ويقارنون بينها، وفي ذلك يقول علي بن المديني رحمه الله وهو أحد أكابر العلماء المشتغلين بعلم علل الحديث:" ا ْل َباب - يقصد الحديث - إذَا لَ ْم تَْجَمْعطرقَهلَْمَيتََبايْن َخَطؤه". يتبين لنا أن حكم العلماء على الحديث بأنه مقبول أو مردود ليس حكما عشوائيا أو انتقائيا، كما يخ ايل لبعض الناس - مع الأسف – بل هو حكم مستند إلى معايير وقواعد محكمة يشهد بدقتها وحياديتها وموضوعيتها كل من قرأ هذه القواعد بعين الإنصاف. بأن القواعد والمعايير التي وضعها علماء الحديث هي أدق القواعد وأجود المعايير التي يتم بها فحص الأخبار والحكم على الروايات، فأتحفوا علم التاريخ بقواعد لا تزال في أسسها وجوهرها محت َرمة في الأوساط العلمية حتى يومنا هذا ". 39 41 ولا يقتصر نظر علماء الحديث إلى الأسانيد فقط، بل ينظرون كذلك إلى متون الأحاديث، ويوضحون مشكل معانيها، 42 40 يقصد: القاضي عياض المالكي المتوفى سنة ( 544 هـ) وكتابه هذا هو: الإلماع إلى معرفة أصول الرواية وتقييد السماع. ما الذي يترتب على صحة الحديث؟ إذا صح الحديث فهو حجة في الدين، سواء كان متواترا أو آحادا، وسواء كان في العقائد أو الأحكام، ومما تستدعي الضرورة التنبي َه إليه؛ أ ان القول بالتفريق بين العقائد والأحكام، قو ٌل مبتدع لا يعرف عن أحد من الصحابة والتابعين، وهو مصدر من مصادر التشريع كما بيناه في المبحث الأول وذكرنا الأدلة عليه. وإليك بعضا من كلام أهل العلم في ذلك: قال الشافعي رحمه الله:" أَ ْج َم َع النااس َعلَى أَ ان َم ْن ا ْستَ َبانَ ْت لَه سناةٌ َع ْن َرسول االلَّ - َصلاى االلَّ َعلَْيه َو َسلاَم-لَْم َيكْنلَهأَْن َيَد َعَهالقَْولأََحدمْنالنااس". وقال ابن عبد البر رحمه الله:" َوأَ ْج َم َع أَ ْهل اْلعْلم م ْن أَ ْهل اْلف ْقه َوا ْلأَثَر في َجميع اْلأَْم َصارفيَما َعلْمت؛ َعلَىقَبول َخَبراْلَواحداْلَعْدل،