قوى العولمة والقلق الإنساني المشروع على الرغم من كل المخاوف، فهناك جوانب إيجابية لا يمكن إغفالها للعولمة يمكننا تبينها في قوى العولمة الجديدة. التي تكتسح العالم منذ بداية التسعينيات. وهي القوة الأساسية، وليست بالضرورة الوحيدة المسئولة عن بروز العولمة أخيرا . [1] لقد أصبحت العولمة ممكنة بسبب معطيات هـذه الثورة التي أسست لعالم التسعينيات، وهي التي جعلت التحولات سريعة ومذهلة في سرعتها، وهي التي ساهمت في انتقال المفاهيم [ ص: 145 ] والقناعات والمفردات والأذواق فيما بين الثقافات والحضارات، وهي التي جعلت الولايات المتحدة القوة الاقتصادية الأولى والدولة المهيمنة والمستفردة سياسيا ودبلوماسيا بالشأن العالمي، وهي أيضا جعلت العولمة الاقتصادية والثقافية والسياسية ممكنة، وهي التي نقلت العالم من مرحلة الحداثة إلى ما بعد الحداثة، وبالتالي دخوله إلى عصر العولمة، وربما لاحقا إلى عصر ما بعد العولمة، كل ذلك أصبح ممكنا خلال عقد التسعينيات بسبب المتسجدات التكنولوجية والتطورات المعلوماتية . [2] إن الثورة العلمية وتكنولوجيا المعلومات والاتصالات هـي الطاقة المولدة والمحركة للعولمة، [ ص: 146 ] وبـالـتـالي إلـغـاء فـكـرة المكـان ومفهوم الزمان. والعولمة كالثورة العلمية والمعلوماتية هـي التي تقدم السلع والمعلومات والخدمات بأقل الأسعار، وذلك كما هـو الحال بالنسبة للكم الهائل من المعلومات والخدمات والتسهيلات المجانية التي تقدم عبر شبكة الإنترنت ، التي تطورت خلال التسعينيات، ويجعل التواصل بين الأفـراد يتـم بالصـوت والصـورة وبـسـرعة الزمن الحقيقي. [ ص: 147 ] وإلى أسلوب التعامل مع بعضهم بعضا، كل هـذه التغيرات التي تحدث لأول مرة في التاريخ مرتبطة ببروز العولمة، إن العولمة، وكما هـي الحال بالنسبة إلى هـذ الثورة، ومن هـنا نجد الباحث عبد الخالق عبد الله د. وربما أكثر من أي وقت آخر، وكل النجاحات والإنجازات التي تحققت للبشرية، وربما كل التقدم المادي والمعنوي الذي تحقق خلال المائة سنة الأخيرة، وبالذات خلال العقد الأخير من هـذا القرن، فالعلم الذي نقل البشرية من [ ص: 148 ] طور إلى آخر هـو الذي يقوم حاليا بخلق عالم جديد ولحظة حضارية مختلفة كل الاختلاف عن كل ما هـو قائم حتى الآن. لقد تحول العلم والثورات العلمية إلى قوة من القوى الكاسحة التي تصنع الأحداث وتشكل المستقبل وتعيد ترتيب أولويات الدول والمجتمعات والأفراد. فمن يمتلك هـذه القوة ويحسن توظيف نتائجها الباهرة يمتلك أساسا مصيره، لكن كل المعطيـات تشـير إلى أن العلـم يـزدهر يـوما بعد يوم، والمعرفة العلمية تتضاعف كما ونـوعـا، ليست هـناك نهاية للاختراعات العلمية أو الإضافـات التكنـولوجـية التي تتـم حـاليـا بـمـعدل اخـتـراع أو اكتشاف جديد في كل دقيقتين من دقائق الساعة الواحدة على مدار السنة ومن دون توقف . لكن رغم كل هـذه المستجدات العلمية والتكنولوجية المتلاحقة فإن العلم هـو في الغالب الأعم في بدايات الاكتشافات العلمية، فإن البشرية ما زالت في البدايات ولا وسيلة لمعرفة النهايات. إن حقائق عصر العولمة تشير إلى أنه لا يوجد شعب يحترم نفسه ويـود أن يكون له مـوقـع متـقـدم بـين الأمـم الحية والفاعلة، إلا وهو يـدرك أن عـليـه أولا وقبـل كل شـيء الاقـتـراب من العـلم، هـي الثورة العلمية الثالثة، [ ص: 150 ] والتي سبقت إليها الولايات المتحدة الأمريكية التي هـي اليوم مصدر أكبر عدد من الاختراعات والاكتشافات في مجالات تكنولوجيا المعلومات، والتكنولوجيا الحيوية، وتقنيات الهندسة الوراثية، وتكنولوجيا هـندسة الذرات والجزئيات، والصدارة الواضحة التي تتمتع بها الولايات المتحدة في كل مجال من هـذه المجالات العلمية والتكنولوجية الدقيقة، هـي التي جعلتها الدولة العظمى الوحيدة في العالم المعاصر، والقادرة على بسط هـيمنتها السياسية على الشأن العالمي، إضافة إلى التطورات المثيرة في تكنولوجيا المعلومات وتخزينها واسترجاعها بمعدلات وسرعات تتضاعف بشكل أسي. كما تمت الآن، ولجميع الشرائح، وبجميـع اللغـات، بما في ذلك الإطلاع على كل الموجودات في كل مكتبات وجامعات ومراكز البحوث العالمية. كل ذلك أصبح بالإمكان الحصول عليه بسرعة الضـوء، مقدمة حلولا سريعة لمشكلات العمل والحياة العويصة. كما تتيح تكنولوجيا المعلومات فرصة للأفراد والدول والمجتمعات للارتباط بعدد لا يحصى من الوسائل التي تتراوح بين الكبلات الضوئية والفاكسات ومحطات الإذاعة والقنوات [ ص: 152 ] التلفزيونية الأرضية والفضائية، التي تبث برامجها المختلفة عبر حوالي ألفي مركبة فضائية، بالإضافة إلى أجهزة الكمبيوتر والبريد الإلكتروني وشبكات الإنترنت، لقد ساهم كل ذلك في تحويل البيانات والمعلومات والمعارف الى سلع وخدمات مرغوبة، تدر أرباحا تفوق أرباح القطاعات الإنتاجية الأخرى. لقد تحولت تكنولوجيا المعلومات إلى أهم مصدر من مصادر الثروة، وبالتالي محاولة الدخول إلى عالم محاولة الخلق الصناعي والمختبري لجميع الكائنات النباتية والحيوانية بما ذلك الإنسان. والتي تحمل كل الخصائص الوراثية، بل والقدرة على تـحسين السلالات بـما فيها البشرية أيضا . آفاقا معرفية لا نهائية لفهم أدق تفاصيل الكون والحياة والمادة، وفهم مكوناتها وتفاصيلها الدقيقة والغارقة في الدقة، وبروز الحياة على الكرة الأرضية، والقوى التي تعتمل وراءها، إلا أن العولمة ونتيجة لارتباطها بالثورة العلمية والمعلوماتية ستفتح للبشرية آفاقا معرفية وثقافية لا متناهية. كذلك فإنه إذا كانت العولمة تعني التدفق الحر للسلع والخدمات عبر الاقتصادات المفتوحة على بعضها بعضا، فإن بإمكان كل الدول والمجتمعات الاستفادة من [ ص: 154 ] مثل هـذا التدفق لزيادة فرص النمو والرفاهية في كل أرجاء المعمورة، كما أن بإمكان كل الثقافات في العالم أن تستفيد من اقترابها من بعضها بعضا، وأن تسخر التدفق الحر للبيانات والمعلومات والأفكار والمفاهيم لكي تتعرف على اختلافاتها، وتحترم خصوصياتها، وتعزز من التنوع الثقافي العالمي. أما إذا كانت العولمة تعني بروز نظام عالمي جديد أكثر اهتماما بقضايا البيئة وحقوق الإنسان ، ويجد الحلول للاختلالات الاجتماعية الأخرى، فإن هـذه هـي العولمة ذات الوجه الإنساني، والتي ستجد الترحيب كله من قبل جميع الدول والمجتمعات. ويضعون كثيرا من علامات الاستفهام أمام ظاهرة العولمة، حيث إنها ظاهر ة مليئة أيضا بكل الاحتمالات المقلقة. فالعولمة مقلقة إذا كانت [ ص: 155 ] تعني المزيد من التطورات في الهندسة الوراثية وهندسة الجينات ، وتوظيف كل ذلك تجاريا وعنصريا وعسكريا، كذلك تبدو العولمة مقلقة إذا كانت تعني زيادة توظيف الشركات الاحتكارية لقدراتها المالية والتنظيمية من أجل استغلال ثروات الشعوب وزيادة تغلغلها في اقتصاديات الدول النامية، التي عانت ما فيه الكفاية من الاستغلال والنهب الاستعماري والإمبريالي . [ ص: 156 ] وهي مقلقة إذا كانت تتضمن احتمال صدام الحضارات وصراع المناطق الحضارية، وإذا كانت تعني المزيد من اغتراب الإنسان المعاصر الذي بدأ يفقد السيطرة على التحولات الحياتية والفكرية السريعة حتى بمعايير عصر السرعة، ولعصر مختلف كل الاختلاف عما كان سائدا حتى الآن. إذا كانت العولمة توحي بكل هـذه الإيحاءات المقلقة، والتي ستجد الرفض -كل الرفض- من سائر الشعوب. ويرحب بفرصها المعرفية والاستثمارية الواضحة كل الوضوح، ويدعو بالتالي للانغماس في لحظة العولمة للاستفادة منها ومن معطياتها. ويحاول أن يوفق بين الانغماس من ناحية، وتغريب الإنسان وعزله عن قضاياه، والتشكيك في جميع قناعاته الوطنية والقومية والأيديولوجية [ ص: 158 ] والدينية. وذلك بهدف إخضاعه نهائيا للقوى والنخب المسيطرة على القرية الكونية، وإضعاف روح النقد والمقاومة عنده حتى يستسلم نهائيا إلى واقع الإحباط، فيقبل بالخضوع لهذه القوى أو التصالح . [9] وتجعله إنسانا مستهلكا غير منتج ينتظر ما يجود به الغرب من سلع جاهزة الصنع، فهو القادر على استهلاك ما لا يصنعه، مما يشكل لديه قيما اتكالية، والتواكل والتطـلع إلى اقتـناء السلع الاستهلاكية التي تتغير يوميا، لا في سبيل التطوير فقط، وهو مجال مكمل و«متمفصل» مع أنماط أخرى من التدويل في الإنتاج والمال [ ص: 159 ] والتقنية. وتشكلت مؤسسات لهذا الغرض حتى تضمن الفئات الرأسمالية -مديرة الشئون العالمية- تصريف منتجاتها وتوزيعها عالميا وعلى أوسع نطاق. ولعبت الشركات متعددة الجنسيات دورا مؤثرا في ذلك، واهتمت بإنتاج رموز وبنود ثقافة الاستهلاك لتتكامل مع السلع المادية المنتجة. [10] وهنا يثار سؤال أساس: هـل العولمة عملية غسيل حقيقية للأدمغة، خاصة لدى الشعوب التي عانت من التدخلات الخارجية لفترات تاريخية طويلة، والاختراق الثقافي ليس [ ص: 160 ] أسلوبا حديثا لم تخبره مجتمعات العالم الثالث من قبل إلا في الأساليب العصرية لهذا الاختراق. هـو: هـل باتت الثقافة تنهل أسباب وجودها وشخصيتها من مصادر فوق وطنية أو خارج المجتمع الوطني؟ وهل تصبح الثقافات المحلية موحدة على مستوى العالم؟ هـل يمكن أن تكون هـناك ثقافة كونية أم ستظل الثقافات باستقلاليتها النسبية إزاء النظام العولمي الجديد؟ وهل نحن في ركاب العولمة بإزاء ثقافة كونية مقبولة، أم بإزاء ثقافات يمكن أن تتعايش مع الثقافة المعممة [11] ؟ وثقافة العولمة، اختلف الباحثون: فمنهم من يرى في عولمة الثقافة تجردا من الولاء لثقافة ضيقة ومتعصبة إلى ثقافة عالمية واحدة يتساوى فيها الناس والأمم جميعا، تحرر من كل صور اللاعقلانية [ ص: 161 ] الناتجة عن التحيـز المسبق لأمة أو ديـن أو أيديولوجـيا بعينـها، [12] ويذهب فريق آخر إلى أن عولـمة الثقافة لا تلغي الخصوصية، بل تؤكدها، ومن ثم فلا بد من وجود ثقافات متعددة ومتنوعة تعمل كل منها بصورة تلقائية أو بتدخل إرادي من أهلها على الحفاظ على كيانها ومقوماتها الخاصة . [13] ومهما كان الـموقف من العولـمة إلا أن هـناك حذرا شـديـدا عند التعامل معها. أو ما يسميه «أريك فروم» بـ «طابع الشخصية المجتمعية»، بل وتشكل عولمة الإعلام والاتصال تهديدا للتعددية الثقافية، بالإضافة إلى التمايز الواضح بين ثقافة النخب وثقافة الجماهير. استمرار إعادة متواصلة ومتعاظمة للازدواجية نفسها، ازدواجية التقليدي والعصري، [14]