البعد المادي للتاريخ " ماركس " أ‌- المادية التاريخية. ترجع الجذور الأولى للمادية التاريخية الديالكتيكية إلى أفكار الفلاسفة اليونانيين الأوائل الذين اعتبروا المادة أصل الطبيعة والحياة. التي شيد عليها الفيلسوف الألماني كارل ماركس(1818-1883) تفسيره للتاريخ البشري، فقد اعتبر كل من كارل ماركس وانجلز جدل هيغل واقفا على رأسه بدلا من قدميه لنزعته المثالية، ثم طبقاه على الظواهر الإنسانية والطبيعية(1)، لكنه وجدها مثالية تتحدث عن صراع الأفكار، فلئن عارضت الماركسية هيغل في المذهب المثالي، فإنها تبنت منهجه الجدلي في تأسيس المذهب المادي، وأقامت منهجه على قدميه بعد أن كان واقفا على رأسه كما صرح بذلك مؤسسا النظرية، ”إن طريقتي الديالكتيكية لا تختلف عن الطريقة الهيغيلية من حيث الأساس فحسب بل هي ضدها تماما”(6)، فقد اعتبر كارل ماركس “أن الديالكتيك عند هيغل يسير على رأسه، فماركس حسب انجلز جرد الطريقة الديالكتيكية من زينتها المثالية(8)، ومن الصراع الفكري إلى الصراع الطبقي(9)، فإذا كان هيغل قد أصر على أن كل ما يحصل من تغيير في العالم المادي الحقيقي إنما هو انعكاس لا إرادي لتقدم وتطور روح العالم، نجد ماركس يبين أن المثل الأعلى أو الأفكار عند بني الإنسان إنما هي نتاج البيئة الاقتصادية المادية (10). إذ أعلنت أن صراع المتناقضات لا يحصل في عالم الأفكار كما ادعى هيغل، أو الجدل الهيغيلي (تطور الفكر من قضية thesis إلى نقيضها anti-thesis إلى قضية تركيبية من النقيضين لكنها مخالفة لهما synthesis)، التي أضحت الأساس(13)، وليس المادة من إنتاج العقل، ب‌- التفسير المادي للتاريخ. وبشرت بسقوطه وحتمية انهياره، والذي تتحقق فيه السعادة الكاملة للجميع. فتاريخ كل ما يوجد على الأرض حتى الآن- من مجتمعات-إنما هو تاريخ كفاحات طبقية، ووسائل الإنتاج هي الحكم الفصل الحقيقي الذي كان يقرر مصير هذه المجتمعات(17)، فالإنتاج وما يصحبه من تبادل المجتمعات هو أساس كل نظام اجتماعي واقتصادي، وفي كل مجتمع ظهر في التاريخ نجد أن توزيع المنتجات وما يلزمه من تقسيم المجتمع إلى طبقات، يعينه الإنتاج وطريقة وكيفية تبادله، فحسب هذه النظرية نرى أن الأسباب النهائية لكافة التغيرات الاجتماعية والثورات السياسية والاقتصادية يجب البحث عنها في التغيرات التي تطرأ على أسلوب الإنتاج والتبادل(18). وتجعل صراع الطبقات سبيل هذا التطور(19)، فالمجتمع البشري مجتمع متطور، والعامل المسير المحتم لهذا التطور هو التغيير الذي يحدث في وسائل الإنتاج, والذي يعين نوع العلاقات الاقتصادية في كل مرحلة من المراحل، وهذه العلاقات الاقتصادية تحتم بدورها نوعا من الأوضاع الاجتماعية والعقائد الدينية والمذاهب الأخلاقية(20) . فالمؤرخون الماركسيون يعتمدون في تفسيراتهم على العامل الاقتصادي وحده “فالوضع الاقتصادي لشعب ما هو الذي يحدد بدوره وضعه السياسي”(21)، بمعنى أن الاقتصاد السياسي الأكثر إنتاجية في وقت معين ينتصر على الأنماط الأخرى لتنظيم الإنتاج, وهذا التفوق التقني أو الإنتاجي يتغير عبر الزمن(22)، وتقرر تطوره من نظام إلى آخر، 23). ج- فلسفة التاريخ عند كارل ماركس . التاريخ البشري عند كارل ماركس ليس في النهاية سوى صراع طبقات، فكل شيء في نظر ماركس يتضمن نقيضه، بحيث كل شيء يهدم نفسه، وهذا هو التصور العام لمبدأ النقيض، لأنها تضمنت عنصر النقيض، وهي الاشتراكية ذات الطبقة الواحدة(25). وبتطبيق هذا الأسلوب في البحث نرى أن التاريخ عند الماركسيين قد مر بعدة تطورات ومراحل، ابتدءا من الشيوعية البدائية الجماعية إلى نظام الطبقات، متمثلا في انقسام المجتمع إلى سادة وعبيد في العصور القديمة، والى سادة إقطاعيين وأقنان في العصر الإقطاعي، وان هذا التطور يتجه بفعل القوانين التي تتحكم فيه إلى نظام جديد تزول فيه المصالح الاقتصادية المتضاربة(26). والمرحلة الثانية : هي مرحلة الرق، فبعد أن اخترع الإنسان بعض الأدوات انتقل من الشيوعية الأولى إلى عهد الرق، والتوسع فيها, فانقسم المجتمع إلى رجال إقطاع وعبيد الأرض, فالإقطاعي يملك الأرض ومن عليها من إنسان وحيوان ونبات, ثم بفعل اكتشاف وسائل إنتاج جديدة(31), فدخلت بذلك المرحلة الرابعة، وسينتهي بانتصار العمال، وعندها سيتحول المجتمع نحو المرحلة الأخيرة، وسينتقل إلى الشيوعية حيث تنعدم الطبقات, لأن عهد الاستغلال قد ولى وانتهى(33), لكن هذا في المنطق السليم أمر مستحيل، ففي غياب الدولة تبقى الفرص سانحة لعودة البرجوازية، وفي رؤية ماركس هذه يتسم المجتمع الشيوعي لا بغياب السلطة فقط, ولكن أيضا كما تشير كلمة شيوعي إلى الإحساس المشترك والقوي بالمشاعية(34) . لقد قصد ماركس بالشيوعية أن تكون هناك حياة بلا تمايز, أن يقتنص في الصباح, في هذا المجتمع المستقبلي الموعود لن يكون لأي كائن بشري السلطة في أن يحدد لغيره ماذا يفعله(35). حيث ستنهار الرأسمالية أخيرا وتتحول إلى النقيض وهي الاشتراكية ذات الطبقة الواحدة, حيث ستسود المشاعية كصيغة للتنظيم الاجتماعي في المستقبل كما سادت في الماضي السحيق، وأصبح العمال الأوربيون أنفسهم إحدى ركائز هذا النظام وجزءا أساسيا منه، فبعد وفاة كارل ماركس عرفت أوربا تقدما متتاليا في التعليم والتكنولوجيا والعلوم الإنسانية، وتغيرت أشكال اللعبة تماما. حتى ان الصراع الطبقي بالمفهوم الماركسي لن يعود له ظهور مجدد في المستقبل الأوروبي، كما أن الأحزاب التي تبنت شعارات الماركسية والمساواة عندما كانت خارج الحكم، والشيوعية السلطوية التي جربها السوفيات وشعوب أخرى. يؤخذ على أفكار هذه المدرسة وأصحابها (. التفسير التعسفي للمادة التاريخية(. ، فعلى الرغم مما تناولته المادية التاريخية عند كارل ماركس من قضايا، إلا أن نظريته في تفسير التاريخ جاءت بعيدة عن علمية التاريخ، حيث أهملت العوامل القومية والعقائدية والمذهبية والنفسية والروحية وغيرها(39). ليس الاقتصاد إلا عاملا واحدا منها, فهناك أشياء كثيرة في التاريخ غير العامل الاقتصادي, فالإنسان لا يقصر حياته على أن يحبو على بطنه, 40) لقد بالغت الماركسية في إعطاء الاقتصاد الدور المسيطر في حركة التاريخ(. ، وتجاهلت التأثيرات الروحية الكبرى في الانتفاضات الاجتماعية، ايج . إذ يقول في كتابه” معنى الماركسية” لقد أظهرت بحوث علم الإنسان (الانتربولوجية)أشكالا حضارية مختلفة جدا لا يمكن أن تفسر قط تفسيرا اقتصاديا محضا (. ان الأساس الاقتصادي للمجتمع عامل واحد فقط من عوامل تصوير الشكل العام للحضارة(42) لذلك لا يجب تفسير التاريخ على أساس مبدأ واحد(. وإنما على أساس عدد من العوامل المعقدة المتشابكة التي تتداخل معا(43) . كما يؤخذ على المادية التاريخية أنها تعتبر الإنتاج وحده هو الذي يحدد شكل العلاقات بين الأفراد, وان قوانين الصراع الطبقي ونمو التشكيلات الاجتماعية والاقتصادية هي فقط القوانين الحقيقية التي تحكم مسيرة التاريخ(44), يعد ماركس مثالا للقائلين بالحتمية التاريخية, واخذ بعلة واحدة في تفسير التاريخ هي النمط الاقتصادي السائد في المجتمع, حيث ركزوا على التاريخ الأوربي. إن السبب الرئيسي لهذا التغير الجذري سببه اقتصادي، لكن ما هو مسجل عندنا أن شعوبا عديدة كانت تمتهن الزراعة لم تحترم نساءها (. قدامى الألمان والرومان مثلا وغيرهم(47). وكان في ذهنه هدف واحد (. وهو أن يبرهن بطريقة ما على أن أسلوب الإنتاج في الحياة المادية هو الذي يعين الطابع العام لطرق الحياة الاجتماعية والسياسية والروحية(48)، وعلى هذا الأساس فان التاريخ الإنساني هو تاريخ الصراع الناشب بين الطبقات الاجتماعية (. وان الحالة الاقتصادية هي التي تحدد بصفة قاطعة النظم الأخلاقية والدينية والاجتماعية والسياسية(49). هي عوامل أساسية في التاريخ الإنساني, إلا أن التصور بان جميع وجوهها محددا في النهاية بهذه الاحتياجات، وطرق إرضائها قد حورب ويمكن أن يحارب على أساس من وقائع التاريخ نفسه(50), وان العقل الإنساني يتحرك دائما متقدما نحو الأمام ليصل إلى العلم المطلق قد بلغت القمة في التجريد (. فان الماديين الذين انتقدوا مذهبه (. ذهبوا في تفسيرهم مذهبا خالصا, ووقعوا في مبالغات كثيرة غير منطقية(51), فقد اخطأ المحاولة وجعل الرجل المسكين يمشي على بطنه! أي على معدته !!(52). هـ - العامل الديني في التفسير المادي للتاريخ . التفكير المادي لا يؤمن إلا بالمحسوس، ولا يسلم أصلا بوجودها(53) يقول انجلز” إن العالم المادي الذي ندركه بحواسنا والذي نحن جزء منه هو الحقيقة الوحيدة”(54) . ولقد ظهر المنهج المادي كرد فعل للمنهج الروحي المستمد من المسيحية والذي يحط من قيمة المادة ويعلل الحوادث والأسباب بالمشيئة الإلهية وحدها(55)، فتاريخ ارتقاء المجتمعات (. هو قبل كل شيء ارتقاء الإنتاج، فالمادية تهتم بتفسير الأحداث تفسيرا ماديا ينكر الدين(56)، بل تعتبر الدين في التاريخ وسيلة تبنتها الأقلية لتستغل الأغلبية وذلك بتحويلهم إلى ما في الحياة الآخرة من سعادة وجزاء حسن(57) . فما الدين والإيمان (. إلا وهما شكل على مر التاريخ وسيلة تبنتها أقلية الناس لاستغلال الأكثرية(58)، لأنه يمنيها بالثواب والسعادة العلوية الأبدية في حياة الخلد الدائمة، ومن واجب الشيوعيين أن ينبذوه ويتحللوا من قيوده ويبرؤون من كل آثاره(59)، لأنه يحول بين الناس وبين نضالهم لنيل حقوقهم، وهو يخفي وراءه قشرة أيديولوجية الاستغلال الطبقي لصالح الفئة الحاكمة(60)، ويتحقق الفردوس الأرضي، فلا مكان للروح في مثل هذا المجتمع، وإنما هي وسيلة لحفظ المجتمع(61). أي أن القوى الأرضية تتخذ شكل قوى فوق أرضية(. وأصبح المخلوق الآلهة تتحكم بمصائر الخالقين(65)، كما يقول لينين نفسه في فصل عن الدين والاشتراكية ما يلي” الدين يعلم هؤلاء الذين يكدحون طول حياتهم في الفقر والاستسلام والصبر في هذه الدنيا ويغريهم بالأمل في المثوبة بالعالم الآخر”(67) . إن الفرد الفاشل الذي لا يستطيع حل مشاكله المتعاقبة قد يلجا إلى الخمرة أو المخدرات أو الانتحار أوالى التصوف(70) . فيقولون “إن الإنسان الفطري في العهد البدائي كان يقف عاجزا أمام الظواهر الطبيعية كالرعد والفيضانات وغيرها”(71)، فالطبيعة متقلبة بين خيرها وشرها والإنسان ضعيف(. في الجسم والعقل ولا يقدر دائما على قهر القوى الطبيعية الجبارة ولا حتى على فهمها، أي بقوة الله(73)، لأنها مضطرة إلي التبرير إلى إقناع الآخرين بما هي نفسها غير مقتنعة به، ومن شان الطبقة البرجوازية أن تؤيد الروح الدينية لتضمن سيطرتها على الطبقة العاملة(75)، وتتلاعب بوعي الجماهير، ويبقى السؤال الذي طرحه العديدون هو انه إذا كان الدين مجرد انعكاس للظروف المادية التي يعيش فيها الناس كما تقول الماركسية، فلا مجال لأكثر من دين واحد في وقت واحد، ولكننا نجد أن الإسلام والمسيحية و الهند وكية وعشرات الأديان الأخرى تسيطر على عقول ناس يعيشون في نفس الظروف الاقتصادية(76)، كما انه ألا يمكن اعتبار الماركسية نفسها فكرة دينية باعتبار أن الفكرة الدينية قد تتدخل بطريقة مباشرة وإما بطريقة غير مباشرة بواسطة بديلاتها اللادينية نفسها، فإذا كانت الماركسية قد رفضت الدين كوحي الهي مقدس، فإنها صاغت بالمقابل دينا ارضيا يخضع للهوى البشري على المستويين النظري والتطبيقي، ولاشك أن الفلسفة الماركسية تمثل هنا الدين الأرضي، حيث تحول إنجيل يسوع المسيح إلى إنجيل كارل ماركس، الذي لم يتحقق إلى حد الآن. ألم تدفع فكرة كارل ماركس المؤمنين بها إلى التضحية في سبيلها، وبالتالي فان قانون الفكرة الدينية ينطبق عليها، وتسمى “بالديانات البديلة” (78). فإنها لم تعد خلاصا روحيا لأولئك الفقراء أصحاب الطبقة العاملة، فاتجهوا لاعتناق الماركسية باعتبارها سلوانا تمنيهم بمستقبل أفضل وبفردوس ارضي يتساوى فيه الجميع، وبذلك تكون الماركسية قد حلت محل الدين لكن بصفة مغايرة وبديلة . ص 168، نقلا عن محمود احمد صبحي في كتابه فلسفة التاريخ. ص40. ص م. ص 22 ص 22/23. 9- السامراني (نهاية التاريخ من هيغل إلى فوكوياما ) مجلة الفيصل، لبنان، س. 14- د. 15- د. 1975، س. عالم المعرفة، 22- محمد فتحي عثمان (التاريخ الإسلامي والمذهب المادي في التفسير…) م. ص 34- د. س، عماد الدين خليل(التفسير الإسلامي للتاريخ) م. ص45. 30- محمد بن صامل السلمي (منهج كتابة التاريخ الإسلامي وتدريسه)م. بروكسيل، س. 34- نفسه، س. البوزيدي(مكانة كتابة التاريخ في العالم-المادية التاريخية-) م، 39- د. 99. عماد الدين خليل(التفسير الإسلامي للتاريخ) م. 43- عبد العليم عبد الرحمان خضر (المسلمون وكتابة التاريخ ) م. 44- عفت الشرقاوي (في فلسفة الحضارة الإسلامية) مرجع سابق، ص151. دار الثقافة للنشر والتوزيع، ص262. ص262. 1977،