في اللَّيْلِ الموحِشِ العَتِمِ كانوا يَتمترسونَ خَلْفَ الأَكْياسِ الرَّمْلِيَّةِ على الشّاطِئِ، وَوَنيسُهُمُ الوَحيدُ موسيقا تَبْعَـثُـها الرِّياحُ الخَريفِيَّةُ عَبْرَ أَمْواجِ البَحْرِ. وَهُناكَ بَعيدًا بَعيدًا تَنْتَصِبُ عَلى الرِّمالِ البُيوتُ السَّعَفِيَّةُ وَالطّينِيَّةُ -وَآخِرُ أَطْلالِها هذا الجِدارُ- تَخْتَزِنُ صَدى البُكاءِ وَالعَويلِ عَلى القَتْلى وَالجَرْحى بِتِلْكَ النّيرانِ، يَرْميها ذلِكَ الشَّيْءُ المُخيفُ الرّابِضُ في كَبِدِ البَحْرِ. الحَرائِقُ في كُلِّ مَكانٍ وَمَعَ النّيرانِ كانَ الوَحْشُ يُرْسِلُ جَراثيمَهُ بَيْنَ الحينِ وَالآخَرِ، عَبْرَ قَوارِبَ تَجْديفٍ تَتَسَلَّلُ إِلى الشّاطِئِ، وَفي تِلْكَ اللَّحْظَةِ وَصَلْتُ لأهنَأَ بِالرّاحَةِ بَعْدَ سَهَرِ اللَّيالي في الحُفَرِ الرَّطْبَةِ. أبدتِ الكِلابُ اسْتِياءها لِلأَعْمالِ القَذِرَةِ، وَهِيَ تَجْري عَبْرَ الأَزِقَّـةِ بِاتِّجاهِ ذلِكَ الوَحْشِ. أَحْسَسْتُ بِالدَّمِ يَتَصاعَدُ في عُروقي. خَطَوْتُ بِسُرْعَةٍ في الزُّقاقِ الرَّطْبِ المُؤَدّي إِلى المَنْزِلِ السَّعفِيِّ ذي الحُضْنِ الدّافِئِ، أَسْرَعْتُ إذْ مَرَّ أَحَدُ القَوْمِ وَهُوَ يُرَدِّدُ (لاحَوْلَ وَلا قُوَّةَ إِلّا بِاللّهِ). وَعِنْدَما وَصَلْتُ إِلى نِهايَةِ الزُّقاقِ. وَقَفْتُ عِنْدَئِذٍ وَلَمْ أَجْرُؤْ عَلى السُّؤالِ فَقَدْ كانَ الجَوابُ ماثِلًا أَمامي. تَسابَقَتْ أَيْدي القَوْمِ تُرَبِّتُ عَلى كَتِفَيَّ وَتُواسيني (أَحْسَنَ اللّهُ عَزاكَ يابو عَبْدَ اللّه)، أَمْسَكْتُ أَحَدَ الرِّجالِ بِكِلْتا يَدَيَّ وَهَزَزْتُهُ بِعُنْفٍ: لَزِمَ الرَّجُلُ الصَّمْتَ مُرْتَمِيًا عَلى صَدْري. اِنْفَجَرَ باكِيًا وَهُوَ يُرَدِّدُ (أَحْسَنَ اللّهُ عَزاكَ فيهِم). اِغْرَوْرَقَتْ عَيْنايَ وَاحْتَضَنْتُهُ بِكُلِّ قُوَّتِي وَضَغَطْتُ بِجِسْمِهِ عَلى صَدْري. وَإذا بِنا نُشاهِدُ تَصاعُدَ اللَّهَبِ قَريبًا مِنْ دارِكَ. وَإِذا بِالنّارِ قَدْ أَتَتْ عَلى الخَيْمَةِ الَّتي كانَ فيها الأَوْلادُ، اِقْتَرَبْتُ مِنَ الجُثَثِ المُلْقاةِ عَلى بَقايا السَّعفِ الَّذي تَمَّ إِنْقاذُهُ، نَهَضْتُ واقِفًا عَلى قَدَميَّ المُرْتَجِفَتَيْنِ خَطَوْتُ نَحْوَ الرُّكامِ. تَناوَلْتُ بِيَدَيَّ حَفْنَةً مِنَ الرَّمادِ السّاخِنِ. إِنَّهُ. وَالذِّكْرَياتُ الَّتي أُحْرِقَتْ، وَأَغاني المَراجيحِ وَضَحَكاتُ العاشِقينَ وَالسّمارِ في اللَّيالي الجَميلَةِ، بِصَمْتٍ بكَوا، اِنْشَغَلْنا في إِعْدادِ الجُثَثِ لِدَفْنِها في الصَّباحِ الباكِرِ بَعْدَ صَلاةِ الغائِبِ، اِنْفَرَدْتُ بَعْدَها عَلى كَوْمَةٍ مِنَ الرِّمالِ عَلى بُعْدِ خُطُواتٍ مِنَ الشّاطِئِ. تَداعَتْ في مُخَيِّلَتي صورَةُ الأُمِّ وَالأَوْلادِ وَالحِكاياتُ الحُلْوَةُ عَلى (المَنامَةِ) المَزْروعَةِ وَسَطَ ذلِكَ المَنْزِلِ. جَرَفَني بُكاءٌ حادٌّ. زَرَعْتُ وَجْهي في حُضْنِ الرِّمالِ. ثُمَّ اِسْتَلْقَيْتُ وَعَيْنايَ مَشْدودَتانِ تجاهَ ذلِكَ الوَحْشِ، أَجَلْ الشّاحوفُ. اِنْدَفَعْتُ بقُوَّةٍ نَحْوَ الخورِ، حَيْثُ يَرْسو شاحوفُ مُبارَكٍ الَّذي اِتَّخَذَ مِنْهُ مَسْكَنًا وَوَسيلَــةً لِرِزْقِهِ. وَالظُّلْمَـةُ تَشْتَدُّوَصَلْتُ الشّاطِئَ. لَفَحَتْني نَسَماتُ الخَريفِ الآتِيَةُ مِنَ البَراري وَأَنا أَنْزَلِقُ إِلى الماءِ لأجْذِبَ الشّاحوفَ، مَنْ هُناكَ؟ وَثَبْتُ عَلى (الفَنَّـة) وَنَزَلْتُ في (الخنْ)، السِّكينُ هُناكَ في السَّلَّـةِ، تَراجَعَ إِلى الخَلْفِ خائِفًا. - أَبو عَبْدُ اللّهِ ماذا جَرَى؟ تَناوَلْتُ طَرَفَ القُماشِ الَّذي كانَ يَلْتَحِفُ بِهِ مُبارَك، سَيَرْحَلُ اللَّيْلَـةَ. سَكَتَ مُبارَكٌ وَلَمْ يَرُدَّ بِكَلِمَـةٍ واحِدَةٍ، وكأنَّهُ شَعَرَ أَنَّ الأَمْرَ لا يَعْدو أَنْ يَكونَ دُعابَةً عابِرَةً. - وَكَيْفَ يا بو عَبْد اللّهِ وَهُوَ يُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ، سَحَبْتُ المِرْساةَ، ثَبَّتُ المَجاديفَ. وَدَفَعْتُ بِالشّاحوفِ إِلى أَعْماقِ الْبَحْرِ. - وَلكِنْ يا بو عَبْد اللّهِ. - أَرْجوكَ يا مُبارَك. اِسْتَمِرَّ في التَّجْديفِ وَالزَمِ الصَّمْتَ حَتى نَصِلَ. بَدَأْنا نَضْرِبُ تِلْكَ المَجاديفَ بِخِفَّـةٍ وَتَناسُقٍ وَالشّاحوفُ يَمْخُرُ عُبابَ المِياهِ بِانْسِيابٍ خَرَجْنا إِلى عرْضِ البَحْرِ، حَيْثُ الأَمْواجُ سَريعِةُ الاِنْكِسارِ، وَاسْتَمَرَّ الشّاحوفُ بِالانْزِلاقِ وَسَطَ الصَّمْتِ حَتّى اقْتربْنا. حَدِّثْني عَنْ أَيِّ شَيْءٍ. لَمْ تُخْبِرْني يا بو عَبْد اللّهِ عَمّا أَنْتَ مُقْدِمٌ عَلَيْهِ؟ - اِسْمَعْ يا مُبارَكُ بَعْدَ أَنْ يَناموا سَأَسْبَحُ حَتّى ذلِكَ الوَحْشِ. وَمُكْتَمِلو البِنْيَةِ، لا تَنْتَظِر يا مُبارَكُ. - تَدينُ لي بِهِ. وَهَلْ تَسْتَكْثِرُ عَلَيَّ هذا العَمَلَ وَالرِّجالُ يقَدِّمونَ أَرْواحَهُمْ؟ وَلا تُخْبِرْ أَحَدًا، الانْتِظارُ لا يُطاقُ. خَلَعْتُ الفانيلَةَ وَ(الوَزارَ). لَبِسْتُ سُرْوالَ مُبارَكٍ الّذي يَسْتَخْدِمُهُ في الغَوْصِ، تَعَلَّقْتُ بِهِ. لكِن سُرْعانَ ما اسْتَدْرَكْتُ إِحْساسي أَنَّ (مُبارَك) يُراقِبُني. بَعْدَ أَنِ اِقْتَنَصْتُ فُرْصَةَ نَوْمِهِمْ جَميعًا. تَسَلَّقْتُ بِواسِطَـةِ حَبْلِ المِرْساةِ، وَضَرَباتُ قَلْبي تَزْدادُ قُوَّةً، فَحَصْتُ كُلَّ شَيْءٍ. تَسَلَّلْتُ إِلَيْهِ بِحَذَرٍ، وَسَقَطَ مُتَّكِئًا عَلى ذِراعي. تَدَفَّقَ الدَّمُ في رَأْسي. صُوَرُ المَآسي وَالحَرائِقِ وَالأَطْفالِ اليَتامى والمَراجيحِ الَّتي شُنِقَتْ عَلَيْها الأَغاني. وَحَبَسْتُ أَنْفاسَهُ بِمَخَدَّةٍ قُطْنِيَّـةٍ مَنْعًا لِلضَّوْضاءِ وَالصُّراخِ. شَعَرَ الحارِسُ بِالأَمْرِ وَشاهَدْتُهُ يَقْتَرِبُ مِنْ خِلالِ الأُفُقِ البَعيدِ. أَسْرَعْتُ بِاتِّجاهِ البابِ مُتَعَثِّـرًا بِأَكْوامِ الحِبالِ. قَفَزْتُ إِلى البَحْرِ غائِصًا في الأَعْماقِ، وَهَواجِسُ الخَوْفِ وَالارْتِباكِ تَمْلُكُ مِنّي النّواصي. أُصِبْتُ في ذِراعي اليُسْرى. وَأَلَمَ الجُرْحِ حَتّى اِرْتَطَمْتُ بِالشّاطِئِ. اِخْتَلَطَ فيها البُكاءُ بِالضَّحِكِ. حَمْلَقْتُ بِالوُجوهِ المُحيطَةِ. وَإِذا بِمُبارَكٍ واقِفٌ وَالابْتِسامَةُ تَمْلأُ ثغْرَهُ، وَدُموعُـهُ السّاخِنَةُ تَنْثالُ عَلى وَجْهِهِ. اِمْتَدَّتْ أَيْدي القَوْمِ وَعِباراتُ الأَسى تَعْلو الأَفْواهَ المَكْلومَةَ، حَمَلوني إِلى الحَيِّ الحَزينِ وَالجُرْحُ يَنْزِفُ بِغَزارَةٍوكَأَنَّي بِالكَلِماتِ المَحْفورَةِ عَلى الجِدارِ القَديمِ تَتَحَرَّكُ، وَتَنْطِقُ لِكُلِّ الأَجْيالِ أَنَّ هذا الجِدارَ يَعْرِفُ حِكايَةَ أَبي عَبْد اللّهِ. وَتَحْتَهُ تَمَّ غَسْلُ جُثَّـةِ أَبي عبدِ اللّهِ. وَتَحْتَهُ أَيْضًا قالَ أَبو عَبْد اللّهِ لِلرِّجالِ (أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنَّ الوَحْشَ لا بُدَّ أَنْ يَرْحَلَ). وَتَحْتَ هذا الجِدارِ اِحْتَضَنْتُ أَبا عَبْدِ اللّهِ، وَبَكَيْتُ عَلى صَدْرِهِ كَثيرًا عِنْدَما شاهَدْتُ الوَحْشَ يَرْحَلُ. تَحْتَ هذا الجِدارِ. وَالقَوْمُ اليَوْمَ يَسْخَرونَ مِنّي وَيُطْلِقونَ عَلَيَّ مُبارَكاً عاشِقَ الجِدارِ لا يُدْرِكونَ أنَّهُ عَلى هذا الجِدارِ.