ذلك ما يقال في المقامات البديعية من حيث مضمونها. أما القول فيها من حيث الشكل الفني، فانه أيسر وأظهر من ان ينحرف به الباحث الى تلك المقالة الشائعة التي تزعم ان بديع الزمان انما كتب المقامات بدافع لغوي انشائي منعزل عن ظواهر الفن النثري في عصره . لقد كان فن النثر العربي في حركة تطور جارفة عارمة ترافق حركة الحياة الحضارية في العصر الزاهر. فمنذ عبد الحميد الكاتب وابن المقفع، اخذ النثر العربي يتنقل في مراحل من الترسل الى الصناعة والزخرف وكتابة الرسائل والدواوين الى تناول الشؤون العامة من حياة المجتمع بمختلف جوانبها. حتى اذا جاء عصر بديع الزمان كان النثر قد بلغ ذروة هذا التطور، وصار احتفاله بالصناعة والزخرف البديعي والبياني يوازي احتفاله بالمواضيع الاجتماعية والسياسية والعلمية والفلسفية بوجه شامل . حين وما ندري، حين نقرأ مثل هذه المقامة» أيصح ان نقول فيها انها مجرد كلام لغوي وصيغ انشائية للحفظ والتعليم أم نقول ان هذه الحياة المتناقضة في مجتمع الهمذاني قد ألحت عليه، حتى المقامة الصيمرية التي اخذها البعض مأخذ التعليم والعظة، ترسم صورة حية ساخرة لفئة معينة، من مجتمع الكاتب هي فئة «أهل البيوتات والكتاب والتجار، ليس في هذه الصورة جفاف الوعظ والتعليم، بل هي حافلة بالسخر وحلاوة الفكاهة والصور الكاريكاتورية المرسومة باتقان وابداع . كانت عنايتهم منصبة على السرد التاريخي ، من سيرة الأديب وعلاقاته بالطبقة الحاكمة على الأكثر، وقلما نجدهم يبذلون هذه العناية بالعلاقة بين النتاج الأدبي نفسه وأوضاع الحياة السائدة عصره . ففي عصر بديع الزمان، كان لا بد للنثر العربي، الصناعي» - اذا صح التعبير ، كفئة المكدين وأمثالها، كان التمهيد لهذا التطور الجديد او هذه الصيغ الجديدة، سواء من حيث الشكل أم من حيث المضمون، وكذلك كان الجاحظ قد مهد لبديع الزمان العناية بفئة المكدين حين كانت هذه الفئة في بدء نموها وتكاثرها، من قلب هذه الحركة التطورية شكلاً ومضموناً، انبثق فن المقامات وكان بديع الزمان أول من صاغ هذا الفن استجابة لكل تلك العوامل الفنية والاجتماعية. وليس لنا ان نطالب بديع الزمان بان تكون استجابته صادرة عن وعي وتصميم، كما أشرنا من قبل ، فقضية التطور في كل زمان ومكان وفي كل مسألة فنية أو اجتماعية، انما هي قضية موضوعية مستقلة عن ارادة الناس، بفطنة من يفطن لها ويعيها . وانضج فانضج . والخلاصة ان نشوء فن المقامات على يد بديع الزمان الهمذاني في الثلث الأخير من القرن الرابع الهجري،