-أولاً - شكلت مصر للرومان عقدة نفسية منذ عهد كليوباترا السابعة التي كادت ان أن تسيطر على روما عن طريق السيطرة على زعمائها وبخاصة يوليوس قيصر وماركوس أنطونيوس ، وهو ما ينعكس في الفرح الشديد بضم مصر للإمبراطورية الرومانية . وكان من أسباب تسمية السناتو للشهر السادس من شهور السنة الرومانية باسم أغسطس ، هو أنه قام في هذا الشهر بضم مصر إلى ممتلكات الشعب الروماني ، وهو ما تم التعبير عنه بقمة الفرح بصورة لم يسبق لها مثيل لدى الرومان .ثانياً - موقع مصر الاستراتيجي في منتصف الإمبراطورية الرومانية ، وكانت حلقة الوصل بين طرق التجارة العالمية بين الشرق والغرب عبر البحرين الأحمر والمتوسط وكانت حدود مصر الجنوبية تشكل الحد الجنوبي للإمبراطورية الرومانية . فضلا عن أن مصر بلد يسهل الدفاع عنه إذا ما تم احكام تأمين مداخله عبر بوابة بلزيوم في الشرق و عبر بوابة برايتونيوم في الغربثالثاً - كثرة السكان في مصر الذين بلغ تعدادهم حوالي سبعة ملايين ونصف المليون نسمة ، وكان سكانها وبخاصة في الإسكندرية على استعداد للثورة لأتفه الأسباب.رابعاً - كثرة خيرات مصر ورغبة الرومان في الفوز بأكبر قدر من ثرواتتها لسد احتياجات الرومان . ذلك أنه منذ أن ضم أغسطس مصر إلى الإمبراطورية الرومانية كان الدور الرئيس لمصر على مدى ثلاثة قرون هو توفير الجانب الأكبر من احتياجات الرومان إلى القمح ، وكانت كمية القمح التي تقدمها مصر إلى روما سنويا في عهد أغسطس تقدر بمليون موديوس وتحقق الاكتفاء التام من القمح لسكان روما لمدة ثلاثة شهور كل عام. وبالتالي كان الإمبراطور الجالس على عرش روما يضمن بالقمح المصري حب العامة وولائهم ويصون ملكه . ومن الأدلة على ذلك وثيقة بردية من عام (139) (م) حيث كتب استراتيجوس ققط إلى والي مصر يقول فيها أن أهم شئ وأهم واجباتي الأساسية وغاية اهتماماتي هي جمع المستحقات الخاصة بالخزانة العامة ].هذا بالإضافة إلى الضرائب النقدية الضخمة التي كانت روما تقوم بجمعها من ولاية مصر سنويا ، وبصفة خاصة ضريبة الرأس التي كانت تفرض على جميع الذكور من سن (14) سنة إلى سن (60) فيما عدا بعض الفئات المعفية من تلك الضريبة . وكانت تلك الضريبة تدر دخلا كبيرا على الخزانة الرومانية . ويقول الكاتب الروماني بلينيوس | لنعرف أن مصر لا تمدنا بالطعام بل تؤدي لنا الجزية ، ولتعلم أنها لا تمت للشعب الروماني بصلة ومع هذا فهي مسخرة في خدمته .نظرا لأهمية مصر بالنسبة إلى روما فقد وضع أغسطس مجموعة من النظم التي جعلت لها وضع خاص فريد في الإمبراطورية الرومانية يختلف عن باقي ولاياتها . وقد ثار جدل بين المؤرخين حول هذا الوضع ، وانقسموا إلى ثلاثة فرق على النحو التالي :الفريق الأول يرى أن مصر لم تكن ولاية PROVINCIA بأدق معنى الكلمة ، ويستندون في ذلك إلى ما يلي :أ - أن أغسطس لا يصفها في سجل أعماله بأنها ولاية .ب - أن السجلات الرسمية للدولة الرومانية لا تذكر اسم مصر مقرونا بكلمة Provincia ولايةج - ان النظم التي وضعها الرومان في مصر كانت تختلف تماما عن النظم التي وضعت لباقي الولايات الأخرى .الفريق الثاني يرى أن مصر كانت ولاية مثل غيرها من ولايات الإمبراطورية الرومانية بدليل : .ب - وصفها أكثر من مؤرخ بأنها ولاية ، ومن هؤلاء سترابو الذي يقول 1 ان مصر الآن ولاية يحكمها ولاة في منزلة الملوك .ج - كما تم احتلال مصر بجيش روماني ،الفريق الثالث يرى أن مصر كانت ولاية ، ولكنها كانت من طراز فريد في الإمبراطورية بسبب أهميتها الاقتصادية والاستراتيجية للإمبراطورية ، لذلك حرص أغسطس على وضع تنظيمات خاصة بها تختلف عن تنظيمات باقي ولايات الإمبراطورية ليضمن بقائها على الدوام تحت سيطرة الإمبراطور المباشرةوتتلخص تلك التنظيمات فيما يلي أولاً - وضع حامية عسكرية ضخمة في مصرتتألف من ثلاث فرق أصليةlegions عدد جنودها (18) ألف جندي ، من أصل (28) قرقة تمثل إجمالي عدد الفرق العسكرية في الإمبراطورية الرومانية التي كانت موزعة على روما وايطاليا وباقي ولايات الإمبراطورية وهذه الفرق هي فرقة ديو طاروس الثانية والعشرين ورابطت في ضاحية نيقوبوليس بالقرب من الإسكندرية لقمع أية ثورة للسكندريين سكان عاصمة دولة البطالمة التي قضي عليها الرومان وقضوا معها على استقلالها ومجدها. وكان من المعروف عن السكندريين ميلهم للشغب والثورة لأتفه الأسباب. وفرقة قوريني الثالثة ومقرها أسوان لحماية حدود مصر الجنوبية ، ولاسيما ضد اعتداءات النوبيين من الخارج وثورات المصريين بزعامة كهنة آمون رع في طيبة من الداخل. وفرقة ثالثة لا نعرف أسمها كانت تعسكر في منف عاصمة مصر القديمة في مصر الوسطي . وعزز هذه الفرق بتسعة كتائب مساعدة Auxilia وعدة لواءات فرسان Alae ، رابطت عند المناطق الحدودية والأقاليم المهمة اقتصاديا مثل مؤاني البحر الأحمر ومحطات الرسوم الجمركية وتأمين مناطق المناجم والمحاجر والطرق التجارية بين وادي النيل والبحر الأحمر واصحراء الشرقية والغربيةثانياً - كان الإمبراطور يختار لحكم مصر ، رجال من طبقة الفرسان التي يثق في ولائها له ، ذلك أن أغسطس نفسه كان ينتمي للطبقة نفسها ، فضلا عن تمتع أفراد هذه الطبقة بخبرة إدارية ومالية وعسكرية قبل قدومهم إلى مصر ، بالأضافة إلى عدم طموحهم على عكس باقي الولايات التي الأخري التي كان حكامها من طبقة السناتو الطموحة التي كان يخشي من طموحهم ونفوذهم أن يستقلوا بولاية مصر . وقد حدد أغسطس مدة حكم هؤلاء الولاة بفترات زمنية قصيرة حتى لا يزداد نفوذهم في مصر على النحو الذي يشكل خطر على سلطة الإمبراطور فيها ، وكان الإمبراطور يستطيع في اي وقت عزل الوالي إذا ما شعر منه بأية بوادر للطمع في الولاية .ومن الأمثلة على ذلك أن أغسطس في أثناء وجوده في مصر عهد إلى صديقه الوفي " جايوس كورنيللوس جاللوس " بحكم ولاية مصر . وعقب رحيل أغسطس إلى روما نشبت ثورة في طيبة عما 29 ق.م) بسبب تشدد الموظفين الرومان في جباية الضرائب من المصريين . فقام الوالي "جاللوس" بقمع هذه الثورة في فترة وجيزة باخضاع الثوار في طيبة وأجبر حلفائهم من ملوك النوبة على الخضوع للحماية الرومانية . وقد خلد " جاللوس " انتصاراته في نقش ضخم في معبد فيلة كتبه باللغة اليونانية واللاتينية والهيروغليفية . وأخذ يزهو بنفسه ويشيد التماثيل لنفسه في كل مكان ونقش على الاهرامات قائمة بانجازاته وبدا باللغو حول شخصية الإمبراطور أغسطس . وعندما شعر أغسطس بغرور هذا الوالي توجس خيفة من أطماعه فعزله من منصبه وقام باستدعائه إلى روما وقدمه للمحاكمة التي أتهمته بالخيانة العظمي ، ومصادرة ممتلكاته ونفيه خارج روما ، فقرر " جاللوس " أن يتخلص بنفسه من حياته فأنتحر. وهذه الحادثة أكبر دليل علي مدي حذر الإمبراطور من والي مصر الذي قد تغريه انتصاراته على تجاوز الحد المرسوم له والتفكير في التمرد عليه والاستقلال بالولاية الغنية مستغلا سهولة الدفاع عنهاثالثا - كما أن الإمبراطور أغسطس أستن قاعدة أساسية لحكم مصر وهي عدم السماح لأعضاء مجلس السناتو الروماني بل وأيضا الفرسان البارزين بدخول مصر إلا بأذن خاص من الإمبراطور ، وذلك خوفا من قيام أحد من الرومان ذوي الطموح بالاستقلال بولاية مصر الغنية عن الإمبراطورية الرومانية مستغلا سهولة الدفاع عنها .