الليلة الثالثة والثلاثون أعلمت - جعلت فداك - أن الأوائل كانت تقول : من سمع الغناء [على] حقيقته مات؟ فقال: اللهم لا تُسْمِعناه على الحقيقة إذن فنموت فاستظرفته في هذه اللفظة، وقدموا إليه الطعام فشغل عن ذم الغناء. قال سعيد بن أبي عروة نزل الحجاج في طريق مكة فقال لحاجبه: انظر أعرابيا يتغدى معي وأسأله عن بعض الأمر. فنظر الحاجب إلى أعرابي بين شَمْلَتَين فقال: أجب الأمير. فأتاه فقال له الحجاج: إذن فتغد معي. فقال: إنه دعاني من هو أولى منك فأجبته. قال: أفي هذا اليوم الحار ؟ قال: نعم، قال: فأفطر وصم غدًا. قال: إن ضمنت لي البقاء قال: إنك لم تطيبه ولا الخباز، ولم يفطر، وخرج من عنده. مَحْسَنةٌ للجسم. قال أبو حاتم : حدثنا الأصمعي قال : قال أبو طفيلة الحِرْمَازِي : ٧٤ قال أعرابي : ضِفْتُ رجلا فأتانا بخبز من بر كأنه مناقير النغران ، وقال آخر، لعب أخي الشطرنج بالشاه قال ابن الأعرابي: كان المحسن الضبي شَرهًا على الطعام، وكان دميمًا، فقال له زياد ذات يوم كم عيالك ؟ قال : تسع بنات قال: فأين من منك؟ فقال: أنا أحسن الإمتاع والمؤانسة وهن أكل مني. فضحك. فقال:] إذا كنت مرتاد الرجال لنفعهم يُحِبُّكَ امْرو يعطي على الحمد ماله فناد ۹ زيادًا أو أخا لزياد إذا ضن بالمعروف كل جواد ثُمَّةَ أَطْعِمُ زادي غير مدخر وقال السفاح بن بكر: كأنها أعضاد حوض بقاع لا يخرج الأضياف من بيته أورد أعرابي إبله فأبى أهل الماء أن يجيزوه، وقالوا: إبلك كثيرة، فإن أوردت فشرط أن تقف بعيدًا عن الماء وتسقي ما جاءك منها، رب طبيخ مِرْجَلٍ مُلهُوجٍ يَسْلُتُه القومُ ولَمَّا يَنْضَج فانقضت الإبل كلها على الماء فشربت. شرب النبيذ على الطعام قليله ٨٤ فيه الشفاء وصحة الأبدان وإذا شربت كثيره فكثيره مزج عليك ركائب الشيطان أي طعامًا كطعام الوليمة، وهي فارسية. وإنما أراد النبي ﷺ أن سلمان اتَّخذ لنا خندقا يوم الأحزاب، وقال جُعَيْفِران الموسوس في وصف عصيدة إذا أبصرتها ماء الخلوق تزل عن اللَّهَاةِ تمر سهلاً وتجري في العظام وفي العروق ومال بلا بذل، وعشق بلا وصل. فقال حميد بقي عليه مائدة بلا نقل، وقيل لآخر : ما حد الشبع ؟ قال: أكل حتى يقع على السبات فأنام على وجهي، وتتجافى أطرافي عن الأرض. ويقال: مَغَسَني بطني، وهو المغس، ورجل مَمْغُوس. وقُراضِب، وقِرْضَاب : إذا كان أكولا، وكذلك السيف واللص، قال ومر ابن عامر على عامر بن عبد القيس وهو يأكل بقلا بملح، فقال: لقد رضيت باليسير. ولا تشربن إلا مصا، ولا تركبن إلا نصا، ٩٠ ولا تعقدن إلا وصا. ويقال: ماء قراح، وخبز قفار: لا أدم معه، وسويق جافٌ، الليلة الرابعة والثلاثون ومكتوم شأننا، لحاهم الله ما لهم لا يقبلون على شئونهم المهمة، ومعايشهم النافعة، وإني لأعجب من لهجهم وشغفهم بهذا الخُلُق حتى كأنه من الفرائض المحتومة، وقد تكرر منا الزجر، ولقد تعالى علي هذا الأمر وأغلق دوني بابه، والله المستعان. عندي في هذا جوابان: أحدهما ما سمعت من شيخنا أبي سليمان وهو من تفوق في الفضل والحكمة والتجربة ومحبة هذه الدولة والشفقة عليها من كل الإمتاع والمؤانسة هبة ودبة، والآخر مما سمعته من شيخ صوفي، وفي الجوابين فائدتان عظيمتان. والحق مر، قال: فاذكر الجوابين وإن كانا غليظين، قلت: أما أبو سليمان فإنه قال في هذه الأيام ليس ينبغي لمن كان الله عز وجل جعله سائس الناس، عامتهم وخاصتهم، وضعيفهم وقويهم، منها: أن عقله فوق عقولهم، وحلمه أفضل من حُلُومهم، كذلك الرعية الشبيهة بالولد وكذلك الملك الشبيه بالوالد. أن الملك لا يكون ملكًا إلا بالرعية، كما أن الرعية لا تكون رعية إلا بالملك، وهذا من الأحوال المتضايفة، والأسماء المتناصفة، والوصلة الوشيجة، ما لهجت العامة بتعرف حال سائسها، حتى تكون على بيان من رفاهة عيشها، وطيب حياتها، ودُرُور مواردها بالأمن الفاشي بينها، والخير المجلوب إليها، وهذا أمر جار على نظام الطبيعة، ومندوب إليه أيضًا في أحكام الشريعة. ومصالحنا متعلقة بك، ورفاهيتنا حاصلة بحسن نظرك الليلة الرابعة والثلاثون وجميل اعتقادك، وشائع رحمتك، وأعنت المعنت. قال: ولو قالت الرعية أيضًا: ولم لا تبحث عن أمرك؟ ولم لا تسمع كل غن وسمين منا، وقد ملكت نواصينا، وسكنت ديارنا وصادرتنا على أموالنا، وحلت بيننا وبين ضياعنا، وقاسمتنا مواريثنا، وأنسيتنا رَفَاغَة العيش، وطمأنينة القلب، ونعمنا مسلوبة، وحَرِيمُنا مستباح، وخراجنا مضاعف، ومعاملتنا سيئة، ومساجدنا خربة، ومارستاناتنا خاوية، وأعداؤنا مستكلبة وعيوننا سخينة، وخوفًا على أنفسها من سطوتك وصولتك ؟ ويخوضون في الفضول والأراجيف وفنون من الأحاديث، وقد تفاقم فسادهم وإفسادهم. فلما عرف الخليفة ذلك ضاق ذرعًا، وخرج صدرًا، وامتلأ غيظًا، وقال: انظر فيها وتفهمها. قال: فما الدواء؟ قال: تتقدم بأخذهم وصلب بعضهم، وإحراق بعضهم، وتغريق بعضهم، فإن العقوبة إذا اختلفت كان الهول أشد، والهيبة أفشى، والزجر أنجع، فقال المعتضد وكان أعقل من الوزير: والله لقد بردت لهيب غضبي ١٤ بفَوْرَتِك هذه، الإمتاع والمؤانسة وما علمت أنك تستجيز هذا في دينك وهديك ومروءتك. ولو أمرتك ببعض ما رأيت بعقلك وحزمك، لكان من حسن المؤازرة، والنظر للرعية الضعيفة الجاهلة؛ وبما تُقابل به هذه الجرائر، وبما يكون كُفْتًا للذنوب. ولقد عصيت الله بهذا الرأي، ودللت على قسوة القلب، وقلة الرحمة، ويُبس الطينة، ورقة الديانة، أما تعلم أن الرعية وديعة الله عند سلطانها، وأن الله يسائله عنها : كيف سستها؟ ولعله لا يسألها عنه، ألا تدري أن أحدًا من الرعية لا يقول ما يقول إلا لظلم لحقه أو لحق جاره ، ١٦ وداهية نالته أو نالت صاحبًا له؟ وكيف نقول لهم: كونوا صالحين أتقياء مقبلين على معايشكم، غير خائضين في حديثنا، وأكل خُضْرتنا»، أتظن أن العمل بالجهل ينفع والعُذْرَ به يسع؟ لا والله ما الرأي ما رأيت، وجه صاحبك وليكن ذا خبرة ورفق، ومعروفًا بخير وصدق، ومن كان سيئ الحال فصله من بيت المال بما يعيد نَضْرَةَ حاله، ويُفيده طمأنينة باله. وانصحه، ولاطفه، وقل له: إن لفظك مسموع، وكلامك مرفوع، وتحمد عليها عند إخوانك، الليلة الرابعة والثلاثون وقمت على سواء السياسة، ونجوت من الحوب والمأثم في العاقبة. قال: وفارق الوزير حضرة الخليفة)، فعادت الحال ترف بالسلامة العامة، وما ظننت أن الخطب في مثل هذا يبلغ هذا القدر، وإن فيما مر لكفاية وما يزيد على الكفاية، والزيادة من العمل جالبة الانتفاع بالعلم، وبأحدهما تاجرا وبالآخر رابحًا. وقد اشتعلت خراسان بالفتنة، وعدة عميمة، وهيئة باهرة وغلا السعر، وأخيفت السبل، وكثر الإرجاف، وساءت الظنون وضجت العامة، والتبس الرأي، ونَبَح كلب كلب من كل زاوية، وزار كل أسد من كل أَجَمَة، فتارة نقرأ، ولا قدرة لنا على السياحة لانسداد الطرق، وتَخَطَّفِ الناس للناس، وغلبة الرعب. وخبثت أذني لدى الباب الأسمع قرعة أو أعرف حادثة؟ فهاتوا ما معكم وما عندكم، ودعوا التورية والكناية، واذكروا الغث والسمين، ولولا العظم ما طاب اللحم، ولولا القشر لم يوجد الب. وخاطفناه الحديث، وودعناه وخرجنا، وتلددنا وتبلدنا وقلنا: يا أصحابنا، انطلقوا إلى أبي الحسن الضرير وإن كان مَضْربه ٢٦ بعيدًا فإنا لا نجد سكوننا إلا معه، وورعه، وجلسنا حواليه في مسجده، ولما سمع بنا أقبل على كل واحد منا يلمسه بيده، ويرحب به، فلما انتهى أقبل علينا [ وقال : ] أمن السماء نزلتم علي ؟ والله لكأني قد وجدت بكم مأمولي، قولوا لي غير محتشمين ما عندكم من أحاديث الناس؟ وما عزم [عليه] هذا الوارد ؟ وما يقال في أمر ذلك الهارب إلى قايين؟ وما الشائع من الأخبار ؟ وما الذي يتهامس به ناس دون ناس؟ وما يقع في هواجسكم ويستبق إلى نفوسكم ؟ فإنكم برد الآفاق، وجوالة الأرض، ولقاطة الكلام، ويتساقط إليكم من الأقطار ما يتعذر على عظماء الملوك وكبراء الناس. فورد علينا من هذا الإنسان ما أنسى الأول والثاني، ومما زاد في عجبنا أنا كنا نعده في طبقة فوق طبقات جميع الناس، فخففنا الحديث معه، وودعناه، وخنسنا من عنده، وطفقنا نتلاوم على زيارتنا لهؤلاء القوم لما رأينا منهم، وظهر لنا من حالهم، وازدريناهم وانقلبنا متوجهين إلى دويرتنا التي غدونا منها مُسْتَطْرِقين كالين، وكان من الجوالين الذين نقبوا في البلاد واطلعوا على أسرار الله في العباد؛ فقال لنا من أين درجتم ؟ ومن قصدتم ؟ فأجلسناه في مسجد، وعَصَبْنا حوله، فقال لنا في طي هذه الحال الطارئة الإمتاع والمؤانسة وسر لا تهتدون إليه، ومن الخاصة خاصة الخاصة لأنهم بالله يلوذون، وإياه يعبدون، وعليه يتوكلون، وإليه يرجعون، ومن أجله يتهالكون وبه يتمالكون. وتعرفنا منه ما وهب الله لك من هذا الغيب لنكون شاكرين، وتكون من المشكورين. فقال: نعم، أما العامة فإنها تلهج بحديث كبرائها وساستها لما ترجو من رخاء العيش وطيب الحياة، ودُرُور المنافع واتصال الجلب ونَفَاق السوق، وتضاعف الربح. فأما هذه الطائفة العارفة بالله العاملة الله، والجبابرة العظماء، لتقف على تصاريف قدرة الله فيهم، وجريان أحكامه عليهم، ونفوذ مشيئته في محابهم ومكارههم في حال النعمة ۲۸ عليهم، والانتقام منهم، ألا ترونه قال جل ثناؤه: ﴿ حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ؟ وبهذا الاعتبار يستنبطون خَوَافِي حكمته، ويطلعون على تتابع نعمته وغرائب نقمته، واللياذ بالله، والخشوع لله والتوكل على الله، وينبعثون به من حران الإباء إلى انقياد الإجابة، ويتنبهون من رقدة الغفلة، ويكتحلون باليقظة من سنة السهو والبطالة، واكتساب الزاد إلى المعاد، الذي لم يفلح فيه أحد إلا بعد أن هدمه وتلمه، ساكنه خالد، وقد يتشابه الرجلان في فعل وأحدهما مذموم والآخر محمود، وقد رأينا مصليًا إلى القبلة وقلبه معلق بإخلاص العبادة، وآخر إلى جانبه أيضًا يصلي إلى القبلة وقلبه في طَرِّ ٢٩ ما في كم الآخر. فإن الباطن إذا واطأ الظاهر كان توحدًا، وإذا خالفه إلى الحق كان وَحْدَةً، وإذا خالفه إلى الباطل كان ضلالة، وهذه المقامات مرتبة لأصحابها، وموقوفة على أربابها، والزيادة في أيدينا. فلما سمع الوزير هذا عجب وقال: لا أدري أكلام أبي سليمان في ذلك الاحتجاج أبلغ أم الحكاية عن المعتضد أشْفَى، وهذه الحجة الجلية. وكنت أرى أن الصوفية لا يرجعون إلى ركن من العلم، ونصيب من الحكمة، وأن بناء أمرهم على اللعب واللهو والمجون فقلت: لو جمع كلام أئمتهم وأعلامهم لزاد على عشرة آلاف ورقة عمن نقف ٣١ عليه في هذه البقاع المتقاربة، سوى ما عند قوم آخرين لا نسمع بهم ولا يبلغنا خبرهم. قال: فاذكر لي جماعة منهم. والحارث بن أسد المحاسبي، ورُوَيْم، وعمرو بن عثمان المكي، وأبو يزيد البسطامي والفتح الموصلي، أما أن للحبيب أن يلقى حبيبه ؟ فمات بعد جمعة. ظني، وكم من شيء حقير يُطلع منه على أمر كبير! وقال: أنشدني شيئًا. فأنشدته قول الشاعر: رجعت على السفيه بفضل حلمي وظَنَّ بِي السَّفَاهَ فلم يجدني وكان تَحَلُّمي عنه لِجَاما أسافهه وقلت له سلاما الإمتاع والمؤانسة فقام يجر رجليه ذليلا وفضل الحلم أبلغ في سفيه وقد كسب المذلة والملاما وأخرى أن ينال به انتقاما والصبر والكظم مرة، وتَحُثُ بعد ذلك على الانتصاف وأخذ الثأر، أعني أنها ربما حضت على القناعة والصبر والرضا بالميسور، وربما خالفت هذا فأخذت تذكر أن ذلك فَسَالةٌ ونقصان هِمَّةٍ ولين عريكة ومهانة نفس. وربما عَدَلتْ ٣٤ إلى أضداد هذه الأخلاق والسجايا والضرائب والأحوال، ويُعذر صاحبها في بعضها ويلام في بعضها، والغرائز ٣٥ متعادية، وهذا يحمد " الاقتصاد في جملة الاحتياط، وهذا يذم الشجاعة في عرض طلب السلامة وليس في جميع الأخلاق شيء يحسن في كل زمان وفي كل مكان ومع كل إنسان، قال: ولعمري إن القيام بحقائق هذه الأشياء وحدودها صعب، لأنها لا توجد إلا متلابسة ومتداخلة، وتخليص كل واحد منها بحده وحقيقته ووزنه مما يفوت ذرع الإنسان الضعيف المنة، المنتثر الطينة. قال: ومنه أن الحكيم قال للإسكندر: «أيها الملك، أرد حياتك لرجالك، ولا ترد رجالك لحياتك. » ولو قلب عليه قالب فقال: لا، ولكن أرد رجالك لحياتك، وكان يُحكى عن أعرابي حديث مضحك: قيل لأعرابي: أتريد أن تصلب في مصلحة الأمة ؟ فقال: لا، قال: وليس يجوز أن يكون الناس مختلفين في ظاهرهم بالصور والحلي حتى يُعرف بها زيد من عمرو، وبكر من خالد، وليس يجوز في الحكمة أن يكثروا ولا يختلفوا، ۳۸ وليس يجوز أيضًا أن يُضَمَّ الجنس والنوع ولا يأتلفوا. وهذا العز الغالب، وهذا السر الخافي، وهذه العلانية وهذا النعت المستعظم فإذا ملكنا السمحالجواد جادت علينا السماء والأرض، وإذا ملكنا البخيل بخلت علينا السماء والأرض. قال أبو سليمان هذا إذا صح فهو شاهد الفيض الإلهي المتصل بالملك السمحونضوبه عن الملك البخيل لأن الملك إله بشري. وقال مَرَّةً: ما التمني - وقد كان جرى ما اقتضى السؤال عنه؟ فقلت: أحفظ نصا لبعض الحكماء: إن التمني فضل حركة النفس.