بأنّه كائن حرّ لا يدين بقدرته على التفكير بنفسه ومن ثمّ على إعطاء قيمة خلقيّة لأفعاله أو لمصيره الخاص، إلى أيّة جهة كانت مهما علت أو بسطت هيبتها على عقولنا. وذلك تقديراً منه بأنّ "ما لا يصدر عن ذات نفسه وحريته، لا تحتاج أبدا فيا يتعلق بذاتها إلى الدين. فما الذي دفع فيلسوف الأخلاق الأكبر إذن إلى تقديم "نظرية فلسفية في الدين " ؟ هل توجد حاجة لا يحقّ للأخلاق أن تدّعيها لنفسها رغم اكتفائها بنفسها ؟ إنّ الإنسان غالبا ما يعرف "كيف" يفعل في حياته لكنّه لا يعرف "لأجل ماذا" يجب عليه أن يفعل . تكون هي غاية الغايات التي يجعلها نصب عينيه في كلّ وجود له على الأرض، "تلبّي حاجتنا الطبيعية لأن نفكّر بالنسبة إلى كلّ نشاطاتنا برمّتها في أيّة غاية يمكن أن يتمّ تبريرها من طرف العقل" . إلاّ أنّها "ناتجة عن تلك الواجبات ذاتها" . في إرادته تكمن تلك الغاية النهائية (لخلق العالم)" . تليق بعقولهم، أي بقدرتهم على إعطاء قيمة أو معنى لسيرتهم الخاصة في تدبير أنفسهم. بل الأمر بعين الضد: إنّه لا يصبح متديّنا إلاّ لأنّه متخلّق، إنّ حاجة الإنسان إلى "احترام أعظم" من كلّ أنواع الاحترام الأخرى هو الذي يجعله يفكّر من نفسه في جعل شيء ما "موضوعا للعبادة" . حتى أكثر الأشياء جلالة، متى ما أخذوا يطبّقون فكرته في استعمالاتهم" العادية. التي لا تجد في نفسها لا القوة ولا أيضا الجدّ الكافي للدفاع عن نفسها ضدّ هجمات خطيرة، فتحوّل كلّ ما حولها إلى صحراء، هو سوف ينتهي بالضرورة إلى مصادرة كل تجارب الذهن الإنساني" . وحده دين العبيد يحتاج إلى صحراء داخله أو في أفقه حتى يفرض نفسه على النفس البشرية. إنّ الفلسفة هي تفكير في معنى الدين "داخل حدود العقل بمجرده" وليس "بإرادة إحداث تغيير في العقائد الإيمانية" . أن نبقى في حدود العقل بمجرده يعني أن نرفض أيّ وصاية على طرق تفكيرنا، سوف لن يتمكن مع طول المدة من الصمود أمامه" . بل هو دين الطبيعة البشرية أو الدين الذي يليق ليس فقط بالجنس البشري بل بالكائنات العاقلة بعامة. أحدهما عقلي والآخر طقوسي. أنّه يوجد فينا صراع يقوده مبدأ الخير ضدّ مبدأ الشر من أجل السيادة على الإنسان. وعلينا أن نأمل في أن يؤدي إلى إقامة مملكة الرب على الأرض. على حدّ عبارة كانط، علينا ألاّ نفهم هنا من لفظة "الطبيعة الإنسانية" في الإنسان سوى "الأساس الذاتي لاستعمال حريته بعامة" . "وذلك على نحو كلي، ولأنّ الحرية قدرة كامنة في صلب الطبيعة البشرية فإنّ البحث في دلالة الشر أو الخير هو "بحث انثروبولوجي" بحيث أنّه "لا يوجد سبب لاستثناء أيّ إنسان من ذلك"، لكنّ الإنسان هو أقلّ وأكثر من ذلك في نفس الوقت. إنّه مطالب دوما بأن يكون "أفضل". إنّ الضمان الوحيد للحرية هو الاستعداد الخلقي في أنفسنا، من حيث هو كائن واجب الوجود، وبين دين خلقيّ، كريم ومتواضع بشكل رائع، بل ماذا يجب علينا أن نفعل من أجل أن نكون "أهلا" لعونه لنا وأهلا لذلك الخلاص . وهو منها براء؛ التجاسر على محاولة الفعل في الطبيعة وصنع المعجزات واستجلاب آثار الرحمة والنعمة الإلهية للبشر بشكل مباشر . ولذلك فإنّ الطريق الصحيح إلى الإيمان المتفكّر هو العزم على "تغيير المرء لما بنفسه" مرة واحدة، ولأنّ المرء "لا يستطيع أن يُغوي عقله" فإنّه لن يجد أيّ مصدر أصلي لأخلاقه وإيمانه مثل حريته. حيث لا تشترط الكفّارات التي يعوّل عليها أيّ تغيير في وعينا. وحده تغيير وعينا بإمكانه فتح الطريق أمام إيمان استطاع الاستغناء عن أيّ انتظار للمعجزات. ومن يرفض تحرّره بنفسه هو يزاول ضربا مقيتا من "الكفر الأخلاقي" بفكرة الله نفسها التي يحملها في عقله : يكفر بما كُتب في قلبه "بقلم العقل" ويعوّل على ما يُحكى له من الخرافات. ذلك بأنّه لا يمكن لأيّ دين أن يعلّم الناس أكثر ممّا يكون ممكنا "بالنسبة إلينا، ينبغي التمييز بين مشرّع الجماعة الحقوقية ومشرّع الجماعة الأخلاقية: في السياسة يكون الجمهور هو ذاته واضع الدساتير؛ وحين تكون القوانين الحقوقية شرعية فإنّ مراعاتها هو "أمر إلهي". من أجل أنّها تتعلق بتشريع باطني. من أجل ذلك لا ينبغي أن يكون الدين سوى ضرب من الإيمان العقلي الذي لا يحتاج في تصميمه أو قوّته أو صدقيته إلى أيّ ضمان خارجي. النابع من "حاجة العقل" البشري إلى غاية نهائية لمصير البشر على الأرض. ولكن لأنّ العقل البشري واحد، ولأنّ الجنس البشري واحد، وهكذا فإنّ كلّ من يقبل الخضوع إلى "قوانين نظامية لهذا الإله" أو ذاك، مرة واحدة، يجدر بنا أن نسأل أنفسنا: هل نطرح مسائل الدين بحثا عن "إجابة كلية صالحة بالنسبة إلى كل إنسان، هو لن يُعتبَر بالتالي ملزما للناس بعامة " . كلّ معتقد يستمدّ صلاحيته من سنّة أو وقائع أو أحداث سردية بعينها هو ينتهي إلى التحوّل إلى قرية روحية لا ترقى إلى طموحات الجنس البشري في التوفّر على كرامة كونية أمام نفسه. بل فقط عليه أن يقبل الترجمة الرمزية في لغتها بوصفها هي السقف الأخلاقي لدلالتها بالنسبة إلينا. وحده الاعتماد على العقل البشري بمجرده يمكن ويحق له أن يحثّ بني البشر أجمعين على الخروج من "إيمان الكنائس" الذي لا يتميّز عن الجماعة السياسية إلى "إيمان الدين المحض" الذي لا يمكن أن يأخذ إلاّ شكل الجماعة الأخلاقية. عندئذ "علينا نحن أنفسنا أن نحقّق الفكرة العقلية لهذا النوع من الجماعة" الأخلاقية بعيدا عن أيّ "قوانين نظامية" تقدّم نفسها على أنّها إلهية، والحال أنّ "هذه القيود الرهبانية هي في أساسها أفعال لا تبالي بما هي خلقيّ" بل لا تهدف غالبا إلاّ إلى اغتصاب هيبة ما وسلطة ما على تلك الجموع. ينبغي تعليم الإنسانية أنّه "لا يوجد إلاّ دين (حق) واحد؛ بل فقط أن نكتفي بالإشارة إلى المعتقد : إنّ الإنسان إمّا يهودي أو مسلم أو مسيحي لكنّه في صميمه لا يعتنق الدين بحدّ ذاته. وذلك أنّهم لا يعرفون أيّ دين ولا تهفو أنفسهم لأيّ دين؛ إنّ الإيمان الكنسي النظامي هو كل ما يفهمونه تحت هذه اللفظة" . وكل معتقد نظامي يقود في آخر المطاف إلى تصنيف الناس إلى كفار ومؤمنين. لن تكون العقائد النظامية غير مجرد "تمثيل رمزي" لها. بل على العكس من ذلك هو يقصد إلى العمل الدءوب على تقريب كل دين شعبي من "نظرية خلقية مفهومة للناس كافة" هي وحدها تكون "ذات جدوى". ولذلك نجد أنّ كانط يثني على جميع الأديان التي نعرفها بقدر ما تتأوّل العقائد الإيمانية "من أجل غايات حسنة وضرورية بالنسبة إلى كل الناس" . وفي هذا الصدد بالذات يأتي كلام جميل لكانط عن الإسلام، المرسوم بكل شهوة حسية، معنى روحيّاً جدّا حقّا" . حسب كانط، لا يعني تأويل الكتاب المقدس بشكل خلقيّ العثور على المعنى الوحيد المقصود من قبله، وهذا الأمر لا يتمّ بشكل تاريخي، قد يقوم بها أيّ إنسان من دون أيّ جهد أخلاقي يُذكر . إنّ معرفة الكتاب المقدّس ضرورية جدّا من أجل تأويله بشكل صحيح؛ لكنّ الدين العقلي المحض هو الطرف الوحيد الذي يمكن أن يقدّم تأويلا مناسبا للطبيعة البشرية بعامة، ومن ثمّ هو يصلح بشكل حقيقي للناس كافة. من أجل ذلك يفترض كانط أنّ كلّ خطوة يخطوها الناس من الإيمان الكنسي والدين النظامي إلى الإيمان العقلي المحض هي ليست حيادا عن الدين الحقّ بقدر ما هي خطوة تقرّب النفوس أكثر فأكثر من ملكوت الله في الأرض ، ولا يمكن أن يُنظر إليه بوصفه إيماناً مخلّصا، ومن ثمّ يضيع الفرق بين "الخدمة" و"العبادة" على نحو مخجل ( der Dienst مصطلح يعني لدى كانط "الخدمة" و"العبادة" في نفس الوقت )، وإنّ أبرز تعبير عن حرية الإيمان كونه لا يتمّ من أجل أيّ غاية أخرى غير ذاته. لأنّه لا يمكن التكفير عن الذنب بأيّ نوع من الطقوس. إلاّ في أنفسهم. وليس إلى معتقد بعينه. وكلّ من يواصل اختزال الدين في إقامة الشعائر ينبغي أن يعلم الأصل السياسي لكل ضرب من الطاعة في مسائل الآخرة. ما وقع هو نقل مصدر الديون من الأرض إلى السماء. ولذلك يعتبر كانط أنّ الإيمان الحرفي بأنّ الله يفعل بنا ما يشاء هي بمثابة "القفزة المميتة للعقل البشري" . ماذا يبقى من العقل، بما هو القوة التي تمكّن البشر من معرفة الله نفسه، إذا نحن ألحقناه بسلطة غريبة عن طبيعتنا تعاملنا كمجرد وسائل لنعمة لا نفقه كنهها ؟ إنّ الله يشرّع فينا، ولكن بما فينا من قوة عقلية على التشريع لأنفسنا. ’’حيث يكون الله كل شيء في كل شيء’’" . ومن ثمّ أكثر الأفكار العقلية حرية بالنسبة إلينا. يختارها الأحرار طواعية بوصفها الشكل الأقصى من مطابقة حياتهم لواجبهم بناءً على قوانين الحرية، هو يؤجّل كلّ تنوير حقيقي من أجل الانتقال نحو عصور الحرية. بذلك فإنّ الإيمان الحر لا يهدف إلى إبطال دين الشعائر أو دين المعتقدات، إلاّ أنّ هذا موقف جليل، و"لا ينبغي انتظاره من ثورة خارجية، تأتي بشكل عاصف وعنيف. سوف يتمّ الإبقاء عليه مع الأسف قرونا طويلة، إنّ الإيمان الحرّ موقف أخلاقي باطني خاص بتغيير ما بأنفسنا. وحدها الدولة التي تعامل الدين بوصفه مؤسسة رسمية للطاعة، بما هو وحي ربّاني. يحدث باستمرار في البشر كافة، إنّها بالأساس مقاومة مدنية لنمط فاسد من الشرعية لا علاقة لها بأيّ إيمان. معارك الدول كلها معارك تتعلق بالشرعية؛ إنّ معركة التنوير الحقيقي هي تلك التي تناضل من أجل مساعدة الإنسانية على الانتقال المتدرج من "الإيمان النظامي" إلى "الإيمان الحر" تحت هدي فكرة "وحدة دين العقل المحض" بين بني البشر، لكنّ كلّ إيمان تاريخي مطالب بالانفتاح على أفق الإنسانية. ولذلك لا يمكننا أن نقبل من قصة المسيح إلاّ "تاريخه العمومي"، ثورته وموته، نعني تاريخ انبعاثه وصعوده إلى السماء، ولذلك بخاصة تحتاج كل عقيدة تاريخية إلى علماء دين وإلى "جمهور عالم" يفهمها. وينتمون إلى نفس المسيحية ذاتها التي تدّعي الكونية" . إنّ العدوّ الحقيقي ضد فكرة الدين ليس العقل بل "عقيدة كنسية استبدادية" . ولكن أيضا من دون أن نفرض على أيّ بشر الإيمان بذلك بوصفه أمرا مطلوبا للخلاص" . لكنّ هذه الحماية هي مضاعفة: حماية الكتاب المقدس من تحويله إلى جهاز استبدادي، ولذلك على الدولة ألاّ تتدخل في مسائل الضمير، لن يمنعه أيّ مانع، وليست منّة من أحد. وتركها ملكا خاصا للمواطن الحر. من أجل ذلك لا يجب أبدا فرض أيّ ضرب من المعتقد على الناس والطمع في إدخال دين جديد عليهم. كل معتقد هو مجرد "تمثيل رمزي يهدف فقط إلى أكبر إحياء للأمل" في البلوغ يوما ما إلى "ملكوت الرب" . ولكن "من هو الكافر أو غير المؤمن عندئذ" ؟ من يحتاج إلى "ألاعيب تقوية كسولة" وإلى "إيمان مشعوذ" حتى يكون له رجاء في حياة في المستقبل أم من تعلّقت همّته بتمجيد كوني للربّ بمجرّد "دين السيرة الحسنة" فحسب ؟ نعني يُتواصَل ويُتقاسم على نحو كوني" . ووحده ما هو خلقي يمكن أن يساعد ما هو مقدس على البلوغ السردي إلى الناس وذلك بقدر ما يحرره من الخرافة ويحوّله إلى قصة جيدة عن إمكانية التألّه في أنفسنا، تساعد البشر على المرور من إيمان الشعائر إلى إيمان الحرية. لكنّ "المشاعر ليست معارف" . بل قدرة البشر على استعمال الحرية بشكل كوني في ما يتخطى كل معارفهم النظرية عن الطبيعة من حولهم. لأنّ معرفتها يمكن أن يتمّ تواصلها وتقاسمها مع أيّ كان" وبخاصة أنّها "هي وحدها أيضا الشيء الذي يقودنا على نحو لا مرد له إلى الأسرار المقدسة" . ولا يحتاج إلى أيّ معتقد بعينه حتى يصبح من محبّي الله والراغبين في مرضاته. فنحن لا نستطيع أن نفعل فيه ولا من أجله" . ليس مشكل الدين متعلقا بمدى إيماننا بما نظنّ أنّه مقدّس بالنسبة إلينا وحدنا، أي بقدر ما يستطيع التعبير عن نفسه بوصفه "إيمانا حرّا" مفتوحا أمام أيّ كان. يقدّمون أنفسهم على أنّهم "المؤوّلون الوحيدون المخوّلون للكتاب المقدس، حيث يتمّ الاستغناء في آخر المطاف ليس فقط عن "العقل" بل عن "المعرفة بالكتاب المقدس ذاتها" .