موت أُمٍّ هي زوجة صديق طحطحتها١ الأمراض ففرَّقتها بين عِلَل الموت، وكان قلبها يحييها فأخذ يُهلكها، حتى إذا دنا أن يقضي عليها رحمها الله فقضى فيها قضاءه، ‎كانت المسكينة في الخامسة والعشرين من سِنِّها، لم تتعلَّم ولكن علمها التقوى والفضيلة، وأكمل النساء عندي ليست هي التي ملأتْ عينيها من الكتب فهي تنظر إلى الحياة نظرات تحلُّ مشاكل وتخلق مشاكل، فتؤمن بأحزانها وأفراحها معًا، ومعناها التكملة الإلهية لصغارها وزوجها ونفسها. ‎ومهما تبلغ المرأة من العِلْم فالرجل أعظم منها بأنه رجل، أي: زيادة في سروره ونقصًا من آلامه. ••• ‎ومشيتُ من البيت الذي ألبسَتْه الميتةُ معنى القبر، ولكن مع الموتى، لأنني في صحبة ميت، وتصبح للأرض في رأيي جغرافية أخرى عَمِيَ الناس عنها لشدة وضوحها، كالألوهية خَفِيَتْ من شدة ما ظهرتْ. ‎يقولون: إن ثلاثة أرباع الأرض يغمرها البحر، ‎يقولون: إن الحياة هي … هي ماذا؟ ويحكم! أيها المغرورون؛ ‎لَعَمْرِي، ما في ذلك شك، ولكنه في الطريق لا يعمل إلا عمل مَن قد فرَّ مِن ربه …؟ ‎هبت الريح في السَّحَر على رَوْضة غَنَّاء فطابت لها، فعقدتْ عقدتها أن تتخذ لها بيتًا في ذلك المكان الطيب لتقيم فيه … يا لها حكمة من التدبير! تزعم الريحُ الإقامة على حين كل وجودها هو لحظة مرورها، ‎يا لها حكمة سامية، ••• ‎همَد الحيُّ وانطفأتْ عيناه، وأصبح ينظر بعينٍ من عمله إمَّا مبصرة أو كالعمياء، وما أعجب أن يجلس أهل المأتم في المأتم ليضحكوا ويلعبوا! ‎ولو نطق الموتى لقالوا: أيها الأحياء، إن هذا الحاضر الذي يمر فيكون ماضيكم في الدنيا، لا تزيدون فيه ولا تُنقِصون. وإن الدنيا تبدأ عندكم من الأعلى إلى الأدنى، ولكنها تنقلب في الآخرة فتبدأ من الفقراء إلى العظماء؛ وأنتم ترسمونها بخطوط المطامع والحظوظ، ويرسمها الله بخطوط الحرمان والمجاهدة؛ إن التام على الأرض مَن تم بمتاعها ولذَّاتها، ••• ‎يا أسفا! لن يقول الميت للحي شيئًا! ومن يدري؟ لعلنا ونحن نَلْحَد للموتى وننزلهم في قبورهم، وأننا مدفونون في القبر الذي يسمونه «الكرة الأرضية»! وهل الكرة الأرضية من اللانهاية إلا حفرة برجل نملة لتُدْفَن فيها نملة؟! … ‎ورجعنا مع الصديق إلى بيته، وغشيتْها الغشية فماتت وهي تضحك، وكانوا هم عقلها في ساعة الموت! ‎تبارك الذي جعل في قلب الأم دنيا مِن خلقه هو، ودنيا من خلق أولادها! وكأنه ثمانية أرطال من الحياة لا ثمانية أعوام من العمر؛ جاء إلينا كما يجيء الفَزَعُ لقلوب مطمئِنَّة؛ إذ كان في عينيه الباكيتين معنى فَقْدِ الأم! ‎وطغتْ عليه الدموع فتناول منديلَه ومسحها بيده الصغيرة، ولكن روحه اليتيمة تأبى إلا أن ترسم بهذه الدموع على وجهه معاني يُتْمها! وجلس مستسلِما تترجِم هيئتُه معانيَ هذه الكلمة: «رفقًا بي!» ‎ثم تطير من عينيه نظرات في الهواء، كأنما يحس أن أمه حوله في الجو ولكنه لا يراها! كأنما يرجو أن يرى أمَّه في طَوِيَّته، ‎ولا يصدق أنها ماتت! فإن صوتها حيٌّ في أذنيه لا يزال يسمعه من أمس! ويتململ في مجلسه، ‎ولمس خشونة الدنيا منذ الساعة، لأن فيه قلب أمه وروحها. ‎وشعر بالذل ينساب إلى قلبه الصغير؛ ‎ولبسته المسكنة؛ لأنه صار وحده في المكان كما هو وحده في الزمان! ‎وارتسم على وجهه التعجب، فلماذا أنا هنا؟!» ‎ثم تغرغرت٤ عيناه فيخرج منديله ويمسح دمعه بيده الصغيرة، نهض يحمل رجولته التي بدأت منذ الساعة! هذه الأيام السعيدة التي كنت تعرف الغد فيها قبل أن يأتي معرفتك أمس الذي مضى؛ إذ يأتي الغد ومعك أمُّك! ‎وبدأت — أيها الطفل المسكين — أيامك من الزمن،