قلنا إن كتاب دلائل الإعجاز كان الكتاب الأخير وذكرنا أن عبد القاهر اللفظ شغل في دلائل الإعجاز بالرد على القائلين بأن بلاغة الكلام ترجع إلى لفظه. وأقول إن هذه القضية أعنى بيان فساد القول بأن اللفظ هو مرجع البلاغة في كانت حاضرة عند الشيخ وهو يكتب أسرار البلاغة حضوراً لا يقل عن أسرار حضورها في كتاب دلائل الإعجاز ، وإنما الذي يختلف هو أنها في الأسرار البلاغة سيقت لتحرير القول في معرفة تفاضل الأقوال . وكيف يكون هذا التفاضل : قائما على التحري والعدل في قسمة حظوظها من الاستحسان ، وإنما المسألة عنده معرفة طبقات الشعر والبيان ، أعنى نقد أدبى خالص ، فلما انتقل إلى کتاب الدلائل ، وطبقاته من الجهة التي تناولها في الكتاب وهى التشبيه والتمثيل والمجاز قال الشيخ في الصفحة الثانية من فاتحة الكتاب « ومن البين الجلى أن التباين في هذه الفضيلة والتباعد عما ينافيها من الرذيلة ليس بمجرد اللفظ ، هذا واضح في أن الشيخ جعل إخراج اللفظ من قضية التباين في البيان رأس كلامه ، وأتبع ذلك بمثاله الذي كرره في الدلائل ، وهو أنك لو عمدت إلى بيت شعر أو فصل نثر وفككت روابط كلماته ، لصار هذا الشعر أو النثر قدرا مهلا من الكلمات لا دلالة له ، ولذهب كونه شعرا ، وذكية لأنها تعنى نقض البناء اللغوى المدروس ، ويرجع إلى حالته قبل أن تدخله صنعة الأديب ، أو الشاعر ، ثم يعاد البناء كلمة كلمة لنتعرف على صنعة صاحب البيان خطوة خطوة ، وربما كمن فيه الشعر ، لأنه هو الشجي وهما الخلى وإنما يبكى الشجي الخلى إذا كان نوحه ، نوحا ينفذ إلى كل قلب فينوح معه ، والصاحبان لم يبكيا ليعيناه على البكاء لأنه يكون بكاء تمثيل فارغ ، والحقيقة أن الشاعر إذا وقف واستوقف وبكي واستبكى إنما يكون الأمر أجل وأعم ، وكل حب ، وكل شمل ، كل ذلك ينتهى إلى أن يكون ذكرى ، ولا يملك الإنسان في مواجهة هذه الحقيقة الغالبة : إلا الحنين وإلا أن يقف يبكى من ذكرى حبيب ومنزل » وهى يقظة الذهن ، وقدح العقل ، والتغلغل ، والنفوذ إلى المكمن ، وربما كانت الصور الحية البهجة والمفعمة بالحب والصبوة والفتوة التي تعطيها لك هذه القصيدة هي شيء مما آل إلى ذكرى وظلل لم يأخذ حقه من النظر والمراجعة ، ولست أعرف في دراسة العلم سبيلا يفضى إلى شرفه ونوره وجلاله ، وإعطائها حقها من النظر ، والتفكير والمراجعة ، اللغة وهذا معناه أن اللغة ليست وسيلة التعبير عن المعاني والخواطر فحسب ، وهي التي تُشعل شرارتها ، وعزلت عنها تيار الحركة ، وهو أن يصير الإنسان الحي الحساس الشاعر المبدع والكاتب الذى يفرى بخواطره وقلمه عن وجوه الحقائق فريا ، فاللغة هنا روحه ، يعنى انتزاع الروح والحس والحركة والإبداع وهواجس النفس ومنابع القلب ، راجع إلى مجرد اللفظ ، وقاده الحديث إلى السجع ، ثم التطبيق ، نقض والاستعارة ، وكان هذا هو خط سير الكتاب ، لأن الاستعارة فتحت الباب للتشبيه والتمثيل والفرق بينهما إلى أخره ، والذي أريده هنا أن كل ذلك لتحقيق حقيقة واحدة ، وهو القول بأن فضيلة الكلام راجعة إلى مجرد اللفظ وإن كان هنا لم يغمس قلمه في محاورة المعتزلة، ولما استحكم هذا عنده وانتقل إلى الإعجاز حاور شيوخ المعتزلة ثم إن الشيخ لما ذكر الجناس اجتهد في أن يستخرج له سريرة معنوية يرجع إليها حسنه ، ولم أعرف أحدا قبل اللفظ عبد القاهر حاول أن يجد تفسيرا معنويا لهذا الفن الذي هو صوت وجرس ولكن عبد القاهر بتغلغله وإيغاله حاول أن يلتقط أطياف معاني هذا الرنين ، ما قبل وموضوع الجناس هذا محتاج إلى وقفة لأن البلاغيين لما حددوه بالاتفاق في أنواع الحروف ، واعدادها ، وهيأتها ، وكأن هذا الحد الذي وصفوه هو حد الرشد الذي يكون به التشابه جناسا ، وما قبله من صور تراها في الكلام كأنها طفولة تجانس ، تُلْغَى ولا تُعد مع أن منه ما هو أمتع من الجناس الاصطلاحي ولم يذكر ذلك أحد بعده إلا من شاموا كلامه ، وراموا رومه مع أنها ليست جناسا لأنها لم تبلغ حد تأمل قول أبي حيان يذكر خلفاء بني العباس « كان المنصور أنقذهم والمأمون أمجدهم والمعتصم . أنجدهم والمعتضد أقصدهم » الجناس الاصطلاحي الفواصل الأربع في الوزن وتكرار حرف الدال مع تكرر الضمير . الوحوش حشرت » . ( العشار عطلت قدر النغم . فيما قبل فهدى . أخرج المرعى » . ثم تأمل قوله تعالى في سورة هود عليه السلام بعد ما كان من هود في الجناس أُمَمٌ سَنَمَتِعَهُم ثم يمسهم منا عَذَابٌ أَلِيمٌ ﴾ (1) تأمل الآية الأخيرة أهبط بسلام منا وبركات عليك وعلى أهم ممن معك وأمم سنمتعهم ثم يمسهم منا عذاب أليم . * وتأمل الميمات سلام منا أمم ممن معك منا عذاب أليم ، ومع هذه الميمات المدغمات ، غزارة النغم في شعر أبي تمام كشفتُ قناع الشعر عَنْ حُرِّ وَ وَجْهِهِ وَطَيِّرْتُهُ عَنْ وَكْرِهِ وَهُوَ وَاقِعُ بُغرِّ يَرَاهَا مَنْ بَرَاهَا بِسَمْعِـــــــه ويدنو إِلَيْهَا ذُو الحِجَى وَهُوَ شَاسِعُ يود ودادًا لو أن أعضاء جسمه إذا أُنْشِدَتْ شَوْقًا لَهُنَّ مسامع ولا شك ان وحدات النغم التي تتوافر في الكلام فيما قبل الجناس الاصطلاحى ذات أثر كبير في هذا الذي قصد اليه أبو تمام وتأمل من شعره هذه وكان أبو تمام شديد الحفاوة بما تسمعه الأذن ، ويذكر أن وأن الأذن تصير عينا ، وبدلا من أن تسمع نغما ترى في هذا النغم مشاهد وصورا ، إلى شعره تأخذه أخذة النغم ، وأريحييته ، سأجهَد حَتَّى يَبْلُغَ الشَّعرُ شَاوَهُ وَإِنْ كَانَ لِي طَوْعًا ولست بِجَاهِدِ راجع الشين في الشعر وشأوه ، والعين والهمز وهما اختان والجيم مع الشين أعنى إما أن ترى حروفا متكررة ، أو حروفا متقاربة ، تأمل الحاء والهمزة وتكرار العين والنون وقوله فإن أنا : بسياحة تنساق مِنْ غَيْرِ سائق وتنقاد في الآفَاقِ مِنْ غَيْرِ قائد تأمل السين والقاف وكيف كانت الحروف تتنادى فجاءت كلمة ننساق لما ذكرت سياحة واشتق منها السائق وتتابعت القاف فتداعت تنقاد بعد تنساق واشتق منها قائد على حذو الأولى ثم جاءت الآفاق لمكان هذه القافات ، وراجع علو النغم في هذا البيت وصلته بمعناه وأنه شعر مسموع ، وأن رنينه سياح ، ينساق من غير سائق، جَلامِدُ تَخْطُوهَا اللَّيَالِي وَإِنْ بَدَات لَهَا مُوضِحَاتٌ فِي رُؤوسِ الْجَلَامِدِ وليس لهذا البيت رنين كالبيت الأول وكأن رنينه حبس في صم الصلاد الجلامد ، ثم كيف دعت الشين في شردت كلمة شانيء ولم تأت حاقد ثم ترى قافا واحدة في هذا البيت تدعو في البيت الذي يليه جملة هذه القافات : أفادت صديقا من عَدُوٌّ وغادرت أقارب دُنْيا مِن رجال أبا عد قال صديقا لما قال أقادت ولم تصلح مكانها صاحبا وقال في غيرها : أتاني مع الركبان ظَنَّ طَنَتُه لَفَفْتُ لَهُ رَأي حَيَاء مِن الْمَجْدِ راجع تكرار النونات في الشطر الأول ويدور حول الظن وكيف ساعدت هذه النونات على تأكيد الظن ، ثم غابت النونات فى الشطر الثاني لأن الظن غاب فيه ، ونذالة وخساسة » انظر إلى قوله الجيد : وكان الشكر للكرماء خصلاً وَمَيْدَانًا كَمَيْدَانِ الجِهَادِ عليه عُقْدَتْ عُوذِى وَلَاحَتْ مَوَاسِمُه على شيمى وعادى تأمل الكاف في البيت الأول وكيف ارتفع بها رنين كلمة الشكر والكرماء ثم تأمل العين في البيت الثانى عليه . عقدت . عادى ، وهذا الضرب فى شعر البحترى أغزر وأعرب تأمل قوله في قومه طي : منْزِلُ قارعُوا عَلَيْهِ العماليق وعادًا فِي عِزّها وثــــــــودا راجع العين وكيف دعتها العماليق وعاد فقال قارعوا العماليق ولم يقل حاربوا ، ثم قال عزها ولم يقل مجدها عبادة وليس قبل عاد إلا نغم ما قبل الجناس في شعر العرب أصل الناس عبد شمس شمْسُ العَرِيبِ أَبُونَا مَلك الناس واصطفاهم عبيدا والعريب هم العرب ، نوح عليه السلام بدليل قول هود صلوات الله وسلامه عليه لقومه عاد واذكروا إذ جعلكم خلفاء من بعد قوم نوح » . وقد ذكر البحتري جدين من آبائه عبد شمس ويعرب ووصف عبد بأنه تأمل يعرب أعرب وقال بعده : سائل الدَّهْرِ مَنْ عَرَفْنَاهُ هَل تعرف منا إلا الفعال الحميدا قد لعَمْرِي سُدْناه كَهْلاً وشيخا وَشَبِيبًا ناشتا ووليدا وَطَوِينَا أَيَّامَهُ وَلَيَالِه عَلَى الْمكرمات بيضا وسودا لم نزل قط من ترعرع نكسوه ندى لينا وبَأْسًا شَدِيدا راجع العين في الأول عرفناه يعرف . وقد حكموا يوما كل الناس وقد كنت أقرأ على الطلاب شواهد اسم الإشارة وسألت عن الكلمة الأم في هذا البيت فأجابني طالب ذكي وقال هي كلمة فجئنى لأنها هي التحدى الذي قصد إليه الفرزدق فقلت له ألا ترى شيئًا في البيت يتصل بهذه الكلمة ؟ فقال لقد تكرر حرفها الأول الذي هو الجيم في قوله إذا جمعتنا يا جرير المجامع ، وهذا يعنى حرص الشاعر على إشاعة رنين هذه الكلمة الأم واتصاله بآخر البيت ، والذي ذكره عبد القاهر في وجه حسن الجناس وإن كان منصبا على المستوفى منه والناقص ويجرى على بقية الجناس على وجه من المقاربة لا يشمل هذا الصنف الذي ذكرته وهو التجانس الذى قبل ذلك مما تراه مشاركة في حرف القيمة أو مقارية في مخرج ، وهذا الذي ذكرته هو من الجناس الاصطلاحي بمثابة البلاغية العلقة أو المضغة المخلقة ، أو غير المخلقة أو قل هو الجناس قبل أن يشعر من للجناس و قولهم ثغر الطفل إذا نبتت أسنانه وبابه كتب وفتح ، فجناسنا هذا لم يثغر بعد وله لا شك حظ من الطفولة والحسن 7 يفيد والجناس المستوفى في مثل ( ناظراه فيما جنى ناظراه » إنما استحسن لأن الكلمة الثانية لما كانت في صورة الكلمة الأولى توهم المخاطب أن القائل لم يزده بها فائدة ، فإذا ما راجع وأدرك معناها المغاير ، كان يكون قد حصل على الفائدة من غير أن يتوقعها ، وكانت كالنعمة المفاجئة ، وكان المتكلم الذي يُظن أنه لا قد صار يعطى ويوفى ويزيد ، وهذه الحالة النفسية التي يُحدثها الجناس عند من يخاطبه هي فائدته وهي وجه حسنه ، لما كشفت له عن وجهها فجأته ، وأدهشته، وأثارت نشوته وطربه، وسروره، هكذا يقول الشيخ وكأن العقل يفرح بالفكرة الجديدة التي تحملها إليه كلمة جديدة وأن الكلمات تعلم هذا من شأن العقل فتعابثه وتخاتله وتتنكر له ويلبس بعضهن ثياب بعض، فإذا حَسَر لثامها ورأى منها حسنها ودَلَّها ، رأى حورية جديدة تعابث وتخاتل ، هذا هو ما فعلته كلمة ناظراه الثانية التي حسبها قارئها وسامعها هي ناظراه الأولى ، وكأنه تحقيق إلى نظر فى الناظرين الذين أحدثا بدلهما وحسنهما وسحرهما هذه الجناية ، وهذا نوع من الجريمة حلو لطيف . حتى تصل إلى نهاية الكلمة ، وعند هذه النهاية يكشف الغطاء ، وتفاجأ بالجديد بعد اليأس منه ، فإذا كان الجناس مما وقع الاختلاف في أوله ، وَهَلَّ وحَلَّ وسمع وجمع ونهر وبهر وعبث وكتب وقعد ورعد فإن الجرس الإيهام فيه والمخاتلة ، كأنك ترى أن اللفظة أعيدت عليك مبدلا من بعض حروفها غيره ، وإن كان لم يرجع اليها بعد ذلك ، وفي كتابات عبد القاهر إشارات إلى موضوعات كثيرة نبه إليها ولم يمهله الأجل لإتمامها ، وقد عاد الشيخ. رحمه الله إلى مسألة اختلاف درجات المشابهة في الجناس فقال ( اعلم أن التوهم على ضربين ، ضرب يستحكم حتى يكون اعتقادا . وضرب يجرى في الخاطر » وأحسب أنه يدخل في الثاني الذي يجري في - و الخاظر هذا التجانس الذى لم يثْغُر بعد كما في قوله تعالى ﴿ - إِذَا الوحوش حشرت ) وسبح اسم ربك إلى آخر ما قدمناه ، إذا نظرت إلى الفرق بين الشيئين يشتبهان الشبه التام والشيئين يشبه أحدهما الآخر على ضرب من المقاربة فاعرفه » الشبه التام مثل سميته يحيى ليحيا ، وإذا كنت تتردد في ذلك فراجع أصول هذه الكلمات وهى على وعقد وعاذ ، وعذوبته ورنينه ونغمته ؟ وقد قلت إنه إذا لم يكن جناسا قد بلغ رشده فلنعتبره جناسا لَمْ يَثْغَر بعد أو تعتبره مضغة مُخَلَّقة أو غير مخلقة وان لم يمكن فلنعتبره علقة وهكذا ولنا فيما قبل الميلاد فسحة ، المهم الاتهدر هذا الحفيف اللغوى لأن له حظا مما قاله الشيخ ، وأنه لا محالة مما يقع من المرء في فؤاده، ثم إن تفسير رنين الجناس بالذي قاله الشيخ هو مع جودته وإصابته تفسير لأن المخادعة التي هي محور هذا التفسير إنما هي بيان الزاوية واحدة من صور الجناس ، وينفث في عقدها ما ينفث من حيث هو جرس وإذا كنا نتكلم عن غموض مسائل البلاغة في التأليف والنظم ، وما لهى أشد غموضا ، لأنها ليست من العناصر ذات الدلالات في العقلية ، مثل رجل وفرس ، وإنما هي أصوات منتزعة من الكلمات ، وصارت الجناس شيء جرسا فحسب ، يعنى هى لحن وتطريب لا يخضع للدلالة العقلية ، وقديما حكى أبو إسحاق الموصلي : قال لي المعتصم أخبرني عن معرفة النغم ، وبينه لى ، ولا تؤديها الصفة » بعد تفسير الشيخ مما بَلْتَبس به من العناصر الدالة ، فعولن مفاعيلن ، وكل هذه أصوات لا غير ، ولم السجع جرس صرف وقد رأيت عبد القاهر في باب السجع لا يذكر شيئا كالذي ذكره في الجناس، وليس لعبك باللغة ، ونغم بحت ، وموسيقى خالصة ، حتى خدعت وختلت بحت يحاول أحد أن يفسر تنوع البحور ، كالقول بأن بحر الطويل أقرب إلى المديح ، وأن الكامل أقرب إلى النسيب إلى آخره . ففتحت للشيخ باب الاجتهاد . قلت الذي في السجع حفيف اللغة لا غير ، تأمل قول كاتب يذكر الرجل الأديب الأريب ولا يرسله في غير فحقيق على الأديب أن يخزن لسانه عن نطقه حقه ، وأن ينطق بعلم ، ولا يعجل في الجواب ، ولا يهجم على الخطاب » . والمنار أو قول الجاحظ يذكر السلف الطيبين والجلة من التابعين الذين كانوا مصابيح الظلام ، وقادة هذا الأنام ، الذي يرجع إليه الباغي ، والحزب الذي كثر الله به القليل ، وأعزبه الذليل ، وزاد الكثير في عدده ، وهم الذين جلوا بكلامهم الأبصار العليلة ، وشحذُوا بمنطقهم الأذهان الكليلة » واقرأ كلام عبد القاهر ، وهو يعالج هذه القضية وقد فتحها بقوله : ( وههنا أقسام قد يتوهم يتوهم في بدء الفكرة ، أن الحسن والقبح فيها لا يتعدى اللفظ والجرس ، ومنصرف إلى هنا لك » . إلى آخر ما لا يُحصر وهو من طبع اللسان وطبع الناس وجزء من ماهية البيان ، ولا تستطيع أن تحدد له معنى إلا على حد ما قال أبو إسحاق للمعتصم . والذي قاله فيه الشيخ عبد القاهر هو ضرورة أن يكون المعنى هو الذي طلبه ، ولا تجد عنه حولا ) وهذا الكلام ليس بيانا لمزية السجع وليس فيه أي إشارة إلى مناجاة العقل النفس ، وأنا حريص على هذه الجملة المعطوفة لأن الفرق كبير بين اللعبين لعب اللغة بالعقل لعب مشروع ، رفيع ، ورائع ، أما لعب العقل باللغة فربما كان فيه عبث ، ولا تحسبن أن كل لعب عبث لأن هناك من يلعب بالنار وهناك من يلعب بمصاير الشعوب ، والحياة الدنيا لعب ولهو يعنى هى مسرح لهذا والمهم أن كلام الشيخ هنا كلام آخر وقصاراه أنه يدلك على الطريق الذي يكون فيه السجع حسنا مقبولا ، وإنها لتثقل القيمة و تفسد ، وكل فنون البلاغة حُسنُها مشروط بأن تكون البلاغية معنى المطابقة التي هي أصل العلم ، وجذره ، هذا واعلم أن السجع لم يكثر في كلام المحدثين فحسب ، وإنما كثر في كلام القدماء، بل إن عبد القاهر ذكر أنه لم يكثر فى كلام أحدكما كثر في كلام القدماء قال : ولست تجد هذا الضرب يكثر في شيء ويستمر كثرته واستمراره في كلام القدماء وهذا غير الشائع فى كثير من الكتب ، وأنا أريد أن أتأمل قوله « لا تبغى به بدلا ولا تجد عنه حولا » لأنه قاطع في أن توافق الأصوات في الفقر ، هذا التوقيع الصوتي البحت ، جزء جوهري في الدلالة ، وأنك لو حاولت أن « تملص » منه - من باب طرب، وهي عربية فصيحة - لأدخلت على كلامك من الثقل والتكدير والتنغيص مثل ما تدخله عليه لو تكلفته ، وأقحمته على معناك ، وهذا معناه أن هناك معانى لا يُعبّر عنها إلا بهذه المقطوعات اللغوية المنغومة وليس باللغة اللفظ الحفيف جزء لا محيد لك عنه ولا يجوز أن تبغى به بدلا . وحين تراجع شأنك وأنت تكتب بعناية وتركيز تجد المعاني تنبعث في نفسك ولها في بعض أحوالها رنين ، وكما توجد الألفاظ مرتبة في اللفظ على وفق معانيها في النفس ، الدال وحدها عارية صرفا من هذا النغم ، المقام يفرض عليك لغة ذات حفيف ، وقد حرر عبد القاهر مسألة طلب المعنى للسجع واستدعائه إياه بتحليل كلمة للجاحظ في مقدمة كتاب الحيوان . أو كان يمكن الاستغناء عن حرف الجر فتنصب الكلمة فتتوافق مع القرينة السابقة ، وهكذا يذكر تحويرات خفيفة في النظم فيتولد منها السجع ، وليس تشاكل الألفاظ ، وإنما يكون ذلك حين تدخلها في باب التحليل ، يعنى تفككه أولا ثم تبنيه على وجه آخر ، وهذا هو الفهم الصحيح للبلاغة ، ولا يجوز للدارس الجاد أن يستروح إلى الأمثلة المصنوعة ، ونسد بهذه البدائل حاجة الدرس البلاغي ، ولكن يجب تجاورها بسرعة ، وفي كلام رسوله علم عن الصور والشواهد والبدائل أيضا وقد ساق الشيخ سياقه إلى ذكر المقدمات الطللية ، وقال في ذلك كلمة الله شريفة قال رحمه الله : والخطب - أراد مقدمات الكتب من شأنها أن يعتمد فيها الأوزان مقدمات والأسجاع ، فإنها تُروى ، وتتناقل تناقل الأشعار ، والإخبار عن فضل القوة ، وقد وضع الأستاذ محمود محمد شاكر خطوطا تحت هذا النص وليس من عادته ذلك في الكتاب إلا حين يريد أن يدل على معنى جيد يجب على القارئ أن يراجعه وأن يحرص عليه، وهذا النص واضح الدلالة على أن المقدمات الطللية وهى فواتح القصائد يروم منها، واللغة، وتتألق وتأخذ حظها من التجلى والتألق ، وعن التثقيف ، والصقل وغير ذلك مما هو وهذا أصح تفسير لهذه المقدمات التي كثر الكلام فيها ، واستوقف ، ومنزل ، من جهاته الأربع ، لأن هذا ليس إلا بناء شعر لا غير ، ووقائع ، وأحداث عشق ، كما أنها ليست تجريبا لغويا ، وعن صفو هذه الشاعرية ، ونوعها ، وحسبها أنها جعلت من خرائب الديار فنا زاخرا بالشعر ومفعما بالحياة والحنين وكان الرواة يعرفون ذلك ، ومعه علقمة الفحل ، وكانا في خيمة امرئ القيس وأم جندب جُنْدَب في خدرها من وراء الشاعرين ، وكانا قد تذاكر الشعر ، فقال امرؤ القيس قل وأقول ، خفيف العجزة ، سريع إلا راقة بطيء الإفاقة ، قال الراوى فعرف من نفسه صدق كلامها ، وجلس في خيمته فجاءه علقمة ، المكتب ، ولم تكن أم جندب من أزواج امرئ القيس اللائي تزوجهن ، فتزوج هذه العقيلة ، وذكرت ذلك لأنها معلومات ضرورية تقف خلف ما أريد، وهو أن امرأ القيس ذكر أطلال أم جندب ، ليقضى لبانات الفؤاد المعذب ، وتشوق ، « ألا ليت شعرى كيف حادث وصلها وذكر دَلَّها عليه ، سوالك نَقْبًا بَيْنَ حَرْمَى شَعَبعَب » والحزم ما غلظ من الأرض والنقب الطريق بين جبلين، أحداث وشعبعب اسم ماء ، كل هذا وأم جندب من ورائه ، وحكايات فعَيْناكَ غَرْبَا جَدُولٍ فِي مُفَاضَةٍ الأرض الواسعة ، والجدول النهر الصغير ، ولا أعرف أنه وصف غزارة دمعه كما وصفه في هذا البيت ، ثم ختم الحديث عن أم جندب بكلمة ذات إيحاء غريب هي قوله : وإِنَّكَ لَمْ يَفْخَرْ عَلَيْكَ كَفَاخِرِ ضَعِيف ولم يَغْلِبُكَ مثل مُغلب وأن أم جندب ستحكم حكما باطلا ، ولما حكمت المرأة لعلقمة أدرك شيخ شعراء هذا اللسان أبو القروح أن هذه الحكومة ليست من الشعر في شيء ، والبيت الذي غلبت عليه علقمة به من أنفس شعر أمرئ القيس ، والإيحاءات ، قصائده من حكايات وأحاديث ليست هذه الحكايات والأحاديث إلا حكايات والاقتدار على التفنن في الصنعة » كما قال الشيخ الإمام رحمه الله ، وهذا هو تفسيره للمقدمات الطللية وهو كما أرى أعدل ما قيل في هذا . ومقدمة دلائل الإعجاز مقطوعة من النثر البليغ ، وأنه حين يقول لك ارجع إلى نفسك ، وحين يحدثك عن ترتيب الألفاظ في النطق على وفق ترتيب المعاني في النفس ، ومن عيوبنا أننا نغمض العين عن هذا الجانب في دراستنا ، وجرب نَفْسَكَ ، وَرُضُها على التعبير عن العلم، لأن القدرة على العبارة عن العلم هي وتدقيقه ، وأحسن أولا وآخرا ، وتدعها تطلب لأنفسها ، الألفاظ ، لم تكتس إلا ما يليق بها ، ولم تلبس من المعارض إلا ما يزينها وأرسلها حنت ومالت بأعناقها وبغمت فتوافي عليها ما هو أشبه بها من الألفاظ ارسالا ، وبقوله ، الذي استخرجها ، وجزءا من جوهرها ، ويرعاها حق رعايتها سواء كان الذي يصدر عنه أدبا ، وتراه بغضارة الفطرة ، كما تراه في كتابة الكاتب الذى له طبع وسجيه ، حتى الاكتشافات العلمية المتقدمة يمكنك أن تقول إنها في حقيقتها كشف عن فطرة الأشياء ، موفور الحقوق ، ولا مغبون ،