مظاهر ضعف الخلافة العباسية: ١ - نفوذ الاتراك وضعف هيبة الخلافة: أكثر الخليفة المعتصم (٢٢٧ - ٢١٨ ) من شراء الاتراك قبل تولية الخلافة، وعندما أصبح خليفة زاد من عملية الشراء حتى أصبح هؤلاء القوة الرئيسية في جيشه، وساندوا الخلافة وشدواً من أزرها ووقفوا ألى جائبها في كثير من المواقف الصعبة التي مرت بها(ا)، فكانوا عصب الجيش الذي توجه إلى عمورية وحققوا انتصاراً رائعاً على الدولة البيزنطية ولعبوا دوراً هاماً في ضرب حركة بابك الخرمي وأضعافها. وبمرور الوقت قويت شوكة هؤلاء واشتد بأسهم وزاد نفوذهم وسلطانهم(٢) حتي أن البعض منهم كان يتطلع الى تكوين دولة له، وأوضع دليل على ذلك حركة الافشين التي تكشفت ابعادها وحوكم وثبتت ادانته، وخاصة بعد القبض على المازيار الذي كان وإياء على اتصال وتعاون ضد الخلافة، وقد شعر الخليفة المعتصم بخطورة مطامع الاتراك وتطلعاتهم بدليل أنه أفشى بهذه المشاعر الى أحد المقربين له، الا أن هذه المشاعر والاحساسات جات بعد فرات الأوان، فقد أصبح الاتراك قوة لا يستهان بها وليس من السهولة أن يتخلص منها، وفي عهد الخليفة المتوكل بلغت سلطة ايتاخ واشتاس ذروتها وكذلك بعض القادة الاتراك الآخرين. الأمر الذي اغضب الخليفة المتوكل وضاقت به الارض بما رحبت وتأثرت نفسيته وأدرك أنه لا يستطيع الاجتماع وإياهم في مدينة واحدة فقرر الرحيل الى دمشق واتخاذها عاصمة له ونقل الدواوين اليها(٤) علّه يجد هناك من ينصره، هذا بالاضافة الى أن جو دمشق على مايبلو لم يكن ملائماً له، وظل طوال خمسة عشر عاماً يحاول الحفاظ على هيبة الخلافة والحد من نفوذ الاتراك الى أن دفع حياته ثمناً لموقفه. بمقتل الخليفة المتوكل استولى الاتراك كما يقرر صاحب الذخري «على المملكة واستضعفوا الخلفاء فكان الخليفة في يدهم كالأسير إن شاموا ابقوه وإن شاوا خلموه وإن شاءوا قتلوه». وعندما تولى المنتصر الخلافة لمدة ستة أشهر، فهم الذين نصبوه على عرش الخلافة وهم الذين اجبروه على خلع أخويه المستعين والمعتز من ولاية العهد (٨) حتى يتركوا لأنفسهم الحرية في اختيار من يرون أن مصلحتهم في استخلافه، وعندما شعر الاتراك بأن الخليفة أخذ يتغير عليهم (٩) تخلصوا منه قبل أن تمضي ستة أشهر على خلافته فجاء بعده المستعين الذي حاول بدوره أن يحد من نفوذهم لكنه عجز فاضطر الى الهروب الى بغداد، الم ترفعوا اليّ في اولادكم فالحقتهم بكم، حتى سكبت لكم آنية الذهب والفضة ومنعت نفسي لذتها . وبعد مشاورات بين الطرفين رفض الخليفة العودة، وكان يتخذ من دار محمد بن عبدالله بن طاهر مقراً له (١٠). وكثرت المشاكل وعانت البلاد من ذلك الكثير، وقد حسمت هذه الحروب لصالح الاتراك فعزلوا المستعين وعينوا بدله المعتز عام ٢٥٥ه وأم يكن هذا بأحسن حظ من سابقيه لأنه سرعان ما اصطدم بهم نقتلود بعد أن عذبوه (١٢) وعينوا بدله محمد بن الواثق الذي لقب بالمهدي وكان رجلاً تقياً ورعاً لصاحب حزم وعزم، فهو يرى بأم عينيه مصرع الخلفاء الواحد تلو الآخر والفوضى ضاربة أطنابها في كل مكان فاستشرى الفساد وانعدم الأمن. وسط هذه الأجواء بدأ المهدي خلافته، وكانت لديه رغبة في الاصلاح، فأمر بالمعروف ونهى عن المنكر وأظهر العدل وأخذ يدقق في الاشراف على الدواوين حتى أنه عاقب بعض الرفساد الذين أهملوا وظائفهم (١٢)، وكان ينظر في المظالم بنفسه، ويذكر الطبري أن الخليفة المهدي لما علم بتآمرهم «خرج الى مجلسه متقلداً سيفاً، وقد أوصيت الى أخي بولدي وهذا سيفي، والله لأضرين به ما استمسك قائمه بيدي، والله لئن سقطت مني شعرة ليهلكن وليذهبن أكثركم، أما دين ؟ أما حياء؟ كم يكون هذا الخلاف على الخلفاء والاقدام والجرأة على الله . سوأة لكم» (١٤) ورغم هذا الموقف الجريء إلا أن مصيره كان القتل وعينوا مكانه احمد بن المتوكل الذي لقب بالمعتمد (٢٧٠ - ٢٥٦ (١٥ه وقد حاول الخليفة الجديد أن يوقف الانهيار الذي تسرب الى قلب الخلافة وأن يحاصر المشاكل التي غرقت في بحرها، فانجرفت البلاد نحو اللامركزية حيث تمكن بعض الامراء من ولاة الاقاليم من أعلان أنفصالهم عن الدونة العباسية أنفصالاً كفياً وظل ألبعض مرتبطاً بها ارتباطاً اسمياً كما سيتضح فيما بعد.