سبق أن أوضحنا أهمية الأخلاق في الإسلام وعظيم أجرها، وأثرها على حياة المرء سعادة في الدنيا ورضا في الآخرة، ومدى ارتباطها بكل جوانب الإسلام وأنظمته، ومكانة الأخلاق المهنية ومنزلتها في تعزيز العمل، وأثرها على الجودة والإتقان. فإذا كانت أخلاقيات المهنة بهذه الأهمية فيجب علينا أن نذكِّر بالمخالفات الشرعية في المهنة؛ تحذيرا من الوقوع فيها، ثم نضع لها العلاجات التي تساهم في محاربتها، فهي كالداء العضال في الحياة الوظيفية والمهنية.فالفساد الإداري بشموله لكل النواحي الوظيفية والمهنية وتشعبه لجوانبها يقف حجر عثرة في طريق التنمية والتطور، ويؤدي إلى إهدار المال العام، والسرقة والرشوة أمراض تفشت لدى ضعيفي الإيمان من الموظفين على كافة المستويات، والغش في أداء الوظيفة على المستوى التنفيذي والإشرافي غير خاف على أكثرنا، والوساطات المذمومة تعطي الحق لمن ليس له بأهل، وتنزع الحقوق من أصحابها، وإفشاء الأسرار المهنية من المخالفات الخطيرة إذ يترتب عليها آثار تضر بمصلحة العمل، وسخط الآخرة؛عَرَفْتُ الشَّرَّ لا للشَّرِّ ولكنْ لِتَوَقِّيهِ ومَنْ لمْ يَعْرِفْ الخيرَ من الشَّرِّ يَقَعْ فِيهِ.أولًا: الفساد الإداريتعريف الفساد الإداري: ((المتاجرة بالوظيفة وامتيازاتها واستغلال النفوذ لغير الأغراض القانونية الموجود من أجلها))( ).يعد الفساد الإداري من أشد ما يصيب المؤسسات في أي دولة، فنجاح المؤسسة أو فشلها مرهون بالسياسة الإدارية لها، وإذا ما استشرى الفساد الإداري في أي منشأة، فإن ذلك نذير لسقوطها وانهيارها.ولاشك أن ظاهرة الفساد الإداري وثيقة الصلة بالخلل الأخلاقي والتربوي، وهي دلالة على هبوط القيم الروحية وزيادة القيم المادية بطريقة غير عقلانية( ).ويتعلق بمظاهر الفساد الإداري تلك الانحرافات الإدارية والوظيفية والتنظيمية، والمخالفات التي تصدر عن الموظف العام أثناء تأديته لمهام وظيفته، في منظومة القوانين والنظم التي تغتنم الفرصة للاستفادة من الثغرات بدلا من الضغط على صناع القرار لمراجعتها وتحديثها باستمرار( ). وهي: ومن أهمها:4ـ عدم الالتزام بأوامر وتعليمات الرؤساء.5ـ السلبية.6ـ عدم تحمل المسؤولية.7ـ إفشاء أسرار العمل.ثانيا: الانحرافات السلوكية: ويقصد بها تلك المخالفات الإدارية التي يرتكبها الموظف وتتعلق بمسلكه الشخصي وتصرفه, ومن أهمها: 1ـ عدم المحافظة على كرامة الوظيفة: ومن صور ذلك: ارتكاب الموظف لفعل مخلٍّ بالحياء في العمل كاستعمال المخدرات أو التورط في جرائم أخلاقية.2ـ سوء استعمال السلطة: ومن صور ذلك: تقديم الخدمات الشخصية، وتسهيل الأمور وتجاوز اعتبارات العدالة الموضوعية في منح أقارب أو معارف المسئولين ما يطلب منهم.3ـ المحسوبية: ويترتب على شيوع ظاهرة المحسوبية شغل الوظائف العامة بأشخاص غير مؤهلين مما يؤثر على انخفاض كفاءة الإدارة في تقديم الخدمات وزيادة الإنتاج.4ـ الوساطة: فيستعمل بعض الموظفين الوساطة شكلا من أشكال تبادل المصالح.ثالثا: الانحرافات المالية: ويقصد بها المخالفات المالية والإدارية التي تتصل بسير العمل المنوط بالموظف,1ـ مخالفة القواعد والأحكام المالية المنصوص عليها داخل المنظمة.3ـ الإسراف في استخدام المال العام: ومن صوره: تبديد الأموال العامة في الإنفاق على الأبنية والأثاث، واختلاس المال العام، والتزوير( ).لاحظنا فيما مضى مدى تغلغل الفساد الإداري في كثير من النواحي والاختصاصات الوظيفية والمهنية، والقضاء عليه، ينبغي:1ـ ترسيخ أخلاقيات المهنة التي سبقت معنا في هذا المقرر فهو أول وأعظم علاج لهذه الظاهرة، فيولى القوي الأمين الإدارة، وَلَا تَخُنْ مَنْ خَانَكَ))( ).2ـ التأكيد على قيمة تعظيم الله تعالى، واستحضار مراقبته في التزامنا بهذه الأخلاق، والتذكير بفضل هذه الأخلاق وعظيم ثوابها، وكونها سعادة للمرء في الدنيا والآخرة. ونشر الشفافية والنزاهة،4ـ ومن أهم وسائل علاج الفساد الإداري ما قامت به المملكة العربية السعودية من إنشاء الهيئة الوطنية لمكافحة الفساد، والتي من أهدافها التحري عن أوجه الفساد المالي والإداري، وكذلك إحالة المخالفات والتجاوزات المتعلقة بالفساد المالي والإداري للجهات الرقابية أو جهات التحقيق إلى غير ذلك من أهداف في هذا الشأن.ثانيًا: السرقة والرِّشوةتعريف السرقة والرشوة:السرقة حرام بالاتفاق؛ لأنها اعتداء على ملك الغير، ولا أدل على ذلك من العقوبة المقررة على السارق في القرآن، وهي القطع: قال تعالى: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا} [المائدة:38]. (ب) الرشوة: ((ما يعطى لإبطال حق، أو إحقاق باطل))( ).والرشوة أم الفساد الإداري، وتزداد خطورتها كلما احتل المرتشي منصبا قياديا كبيرا، لأنه بفساده يفسد من تحته من المرؤوسين.حكمها: ومن صفات اليهود، قال تعال: {سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ} [المائدة:42]، ومن تشبه بهم لحقته اللعنة كاليهود،o وهي أكلٌ لأموال الناس بالباطل، قال تعالى:{وَلاَ تَأْكُلُواْ أَمْوَالَكُم بَيْنَكُم بِالْبَاطِلِ} [البقرة:188].علاج السرقة والرشوة في الإسلام:اعتمدت الشريعة الإسلامية في معالجتها لجريمتي السرقة والرشوة وغيرهما من الجرائم على التدابير الوقائية وسد الذرائع التي تؤدي إلى الوقوع في هذه الجرائم الأخلاقية المنكرة،1ـ الكسب المشروع: والزهد عما فيما أيدي الناس، قال سبحانه: {وَلَا تَتَمَنَّوْا مَا فَضَّلَ اللَّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ} [النساء:23]. وغيرها( ).3- الحرز وصيانة المال ضد السرقة: والاستعانة على ذلك بوسائل المراقبة الحديثة كالكاميرات ونحوها. سواء كان هذا المأخوذ مالا أو عرضا أو أي عين مادية، وأن العامل لا يملكها إلا إن طلبها له الإمام))( ).ب-إعفاؤهم من وظائفهم، وتجريدهم من كل حقوقهم الوظيفية.ج-تنفيذ القوانين عليهم في حالة ثبوت السرقة عليهم أو الرشوة، على الشركاء جميعا من الراشي، والمرتشي، والوسيط بينهما، وعدم تغليب جانب الشفقة والرحمة،تعريف الغش: لتحقيق منفعة شخصية))( ).الغش محرم بكل صوره، فقد قال  فيما رواه أبو هريرة: ((مَنْ غَشَّ فَلَيْسَ مِنِّى))( ).والغش من كبائر الذنوب( )؛ ذلك أن الغاش يرتكب عدة جرائم أخلاقية يتعدى ضررها؛ فيضيع الأمانة، ويفقد الثقة بين الناس، ويأكل الخبيث من الكسب، ولأن الغش ينافي النصيحة للمسلمين، فإن المسلم الحق يحب لأخيه ما يحب لنفسه، ويرجو له الخير، والغش فيه إضرار بالآخرين،مظاهر الغش في أداء الوظيفة: 1ـ كتابة التقارير الطبية: حين يكتب الطبيب تقريرا طبيا غير متفق مع الواقع.2ـ المخططات الإنشائية أو الصناعية:حين يصدق المهندس على مخطط غير مستوف للشروط.3ـ الإجازات العادية أو المرضية: حين يقدم الموظف شهادة طبية مزورة تثبت أنه مريض، وهو ليس كذلك. أو تزوير أوراق أو مستندات أو وثائق رسمية،حذر النبي  من الغش في البيع والشراء، والأعمال، فعن أبي هريرة  أن رسول الله  قال: ((مَنْ غَشَّ فَلَيْسَ مِنِّي))( ). قال الخطابي: ((معناه ليس على سيرتنا ومذهبنا يريد أن من غش أخاه وترك مناصحته فإنه قد ترك اتباعي والتمسك بسنتي))( ).وعن معقل بن يسار  قال: قال النبي : ((مَا مِنْ عَبْدٍ يَسْتَرْعِيهِ اللَّهُ رَعِيَّةً يَمُوتُ يَوْمَ يَمُوتُ وَهُوَ غَاشٌّ لِرَعِيَّتِهِ إِلاَّ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ))( ). وأخذهم به، أو تضييع حقوقهم، أو ترك حماية حوزتهم، ومجاهدة عدوهم ، أو ترك سيرة العدل فيهم، فقد غشهم قال القاضي: وقد نبه  على أن ذلك من الكبائر الموبقة المبعدة عن الجنة))( ).تعريف الوساطة المذمومة: ((المساعدة للحصول على حق غير مستحق، أو إعفاء من حق يجب عليه الوفاء به، وتحقيق مآربهم، وقد تكون هذه الوساطة أو الشفاعة حسنة للوصول إلى أغراض مشروعة أو ضرورية، وقد تكون سيئة أو ضارة؛ لإلحاقها أذى أو ضررا بمصالح آخرين، ولمساسها بقوانين العدل والإنصاف والمساواة التي ينبغي أن يتعامل الناس بها، سواء في نيل الوظائف أو في تحقيق الخدمات والظفر بها))( ).وفي وضع حد فاصل بين الشفاعة الحسنة والشفاعة السيئة يقول ابن حجر: ((الشفاعة الحسنة وضابطها: ما أذن فيه الشرع دون ما لم يأذن فيه))( ). ونحن هنا إنما نتناول الجانب السلبي المذموم من الوساطة.حكم الوساطة المذمومة:o أشار القرآن الكريم إلى هذه الظاهرة، بقوله تعالى: {وَمَنْ يَشْفَعْ شَفَاعَةً سَيِّئَةً يَكُنْ لَهُ كِفْلٌ مِنْهَا وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُقِيتًا} [النساء:85]. وكذا الشفاعة في تتميم باطل، ونحو ذلك، فهي حرام)) ( ).o وحذر النبي  في أحاديثَ من الشفاعة السيئة كما في حديث المرأة المخزومية( ).o وقد جاء في فتاوى اللجنة الدائمة( ): ما حكم الواسطة، وهل هي حرام؟ والقدرة على تحمل أعبائها والنهوض بأعمالها مع الدقة في ذلك- فالشفاعة محرمة؛ لأنها ظلم لمن هو أحق بها، وظلم لأولي الأمر بسبب حرمانهم من عمل الأكفاء وخدمتهم لهم، ومعونتهم إياهم على النهوض بمرفق من مرافق الحياة، واعتداء على الأمة بحرمانها ممن ينجز أعمالها، ويقوم بشئونها في هذا الجانب على خير حال، ومفسدة للمجتمع.أما إذا لم يترتب على الواسطة ضياع حق لأحد أو نقصانه فهي جائزة، بل مرغب فيها شرعا، ويؤجر عليها الشفيع إن شاء الله،علاج مشكلة الواسطة المذمومة:o واجه الإسلام هذه الظاهرة بعدد من الأخلاق التي من شأنها أن تضع الأمور في نصابها، والأمانة.o أناط الإسلام بالمسئولين أيا كان موقعهم تحري الدقة في اختيار من تحتهم بعيدا عن المجاملات، قال سبحانه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ} [النساء:135]. وعن ابن عمر رضي الله عنهما أن النبي  قال: ((مَنْ حَالَتْ شَفَاعَتُهُ دُونَ حَدٍّ مِنْ حُدُودِ اللَّهِ فَقَدْ ضَادَّ اللَّهَ))( ).خامسًا: إفشاء أسرار العمل وما يتعلق بهتعريف السرِّ: ((هو ما يفضي به الإنسان إلى آخر،فضل حفظ السر وأهميته: سواء ما يتعلق منها بالأفراد على المستوى الأسري، أو ما يتعلق بالمجتمع والدولة، ولا شك أن أخطر ما يهدد الدول أن تفشى أسرارها لا سيما الإدارية منها والحربية. فقد رتب الله عليه أجرا عظيما، من ذلك ستر الله لصاحبه في الدنيا والآخرة، وستر عيوبه وعوراته، كما روى ابن عمر رضي الله عنهما عن النبي : ((وَمَنْ سَتَرَ مُسْلِمًا سَتَرَهُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ))( ).ويشمل ما حفَّتْ به قرائن دالة على طلب الكتمان، إذا كان العرف يقضي بكتمانه، كما يشمل خصوصيات الإنسان وعيوبه التي يكره أن يطلع عليها الناس( ).معايير تمييز الأسرار( ):يمكن معرفة (أمر ما) أنه من قبيل الأسرار أو لا بمعيارين:1ـ المعيار الشكلي: يتضح من الاصطلاح الذي يتقدم ديباجته، كأن يرد اصطلاح (سري) أو (سري جدا) أو (داخلي).2ـ المعيار الموضوعي: بأن يتناول شأنا من الشئون السياسية أو الاقتصادية أو العسكرية ذات الصفة المهمة جدا بحيث يخشى من إفشائها استفادة الأعداء منها.علاج مشكلة إفشاء الأسرار:o دعت الشريعة الإسلامية إلى حفظ الأسرار وكتمانها، وحظرت إفشاءها، فإن ذلك أدوم للألفة، من ذلك ما رواه أبو سعيد الخدري  عن النبي  أنه قال: ((إِنَّ مِنْ أَعْظَمِ الأَمَانَةِ عِنْدَ اللَّهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ: الرَّجُلَ يُفْضِى إِلَى امْرَأَتِهِ وَتُفْضِى إِلَيْهِ ثُمَّ يَنْشُرُ سِرَّهَا))( ).o وعن جابر بن عبد الله ، أي: التفت يمينا وشمالا؛o يقول الإمام الماوردي مبينا أهمية العناية بحفظ السر، وبيان خطورة أمره وصعوبته: ((والعفة عن الأموال أيسر من العفة عن إذاعة الأسرار؛ لأن الإنسان قد يذيع سر نفسه ببادرة لسانه، وسقط كلامه، ويشح باليسير من ماله، حفظا له وضنا به، ولا يرى ما أذاع من سره كبيرا في جنب ما حفظه من يسير ماله، مع عظم الضرر الداخل عليه))( ).o وعن ابن عباس رضي الله عنهما، قال قال لي العباس: ((أي بني: إن أمير المؤمنين يدعوك ويقربك ويستشيرك مع أصحاب رسول الله ، فاحفظ عني ثلاث خصال: اتقِ لا يجربن عليك كذبة، ولا تفشين له سرا، ولا تغتابن عنده أحدا)) ( ).فينبغي على المرء أن يكون حافظا للأسرار التي اؤتمن عليها من قِبل من أسرَّها إليه، أو تلك التي يعرفها بحكم وظيفته،