قبل الحديث عن الثقافة المادية ودورها في التنمية الاقتصادية والاجتماعية، أرى أولاً ضرورة تأسيس مفهوم يقوم على أن أي مشاريع للتنمية الاقتصادية والاجتماعية يجب أن تقوم على فهم الواقع الثقافي للشعوب. فالمقصود بالتنمية في المجالين الاقتصادي والاجتماعي هو الإنسان فإذا لم تفهم النتاج الثقافي لهذا الإنسان في أي مكان كان لايستطيع التأسيس لتنمية مستدامة، كما أن جهل أو تجاهل القيم العقلية والأخلاقية والروحية الخاصة بكل ثقافة لن يفسد المرامي التنموية فقط بل يعرّض أنبل المشروعات للفشل وكوارث لا يمكن تجنبها". من ناحية أخرى فإن ميادين الثقافة الشعبية الأخرى ترتبط ارتباطاً وثيقاً بالإنتاج اليدوي والعادات والممارسات وفنون الأداء والمعارف الشعبية كلها لها جوانبها المادية، فمثلاً إذا أردنا دراسة بعض الحرف اليدوية فالتركيز لا يكون على شكل المنتوج وهذا بالطبع مهم ولكن بالإضافة إلى ذلك تهمنا معرفة تقنية الصناعة أو الحرفة واستخدامها ووظيفتها في الحياة اليومية بالإضافة إلى معرفة العادات والمعتقدات والروايات الشفاهية التي تتعلق بها". في جامعة الخرطوم عقدت ندوة بعنوان: الفولكلور والتنمية في السودان (1981م) تناولت الأوراق قضايا التنمية مع إثبات دور الفولكلور في تأمين مسار التنمية من مداخل متعددة لضمان فرص النجاح للتنمية الاقتصادية والاجتماعية. همنا وشغلنا وشاغلنا من كل هذا هو الفهم الموضوعي والدراسة التي تقودنا لاستيعاب مخزون عقلية المجموعات البشرية واستنطاقها توطئة لتنميتها فأنت لا تستطيع أن تحدث التأثير المستدام ما لم تعرف هذه الثقافة مخزون ذاكرة وحاضرة . عليه يتوجب علينا توخي الحذر في التعامل مع عمليات التنمية في المجالين الاقتصادي والاجتماعي، والاستبصار بما تريده المجموعات البشرية من تنميتها والابتعاد عن القرارات الفوقية دون وعي بحقيقة أن تحقيق التنمية لا يتأتى دون فهم ثقافات الشعوب. هذا الفهم هو الذي يؤسس لتنمية اجتماعية واقتصادية مستدامة. أسأل هنا ما قيمة التوثيق والجمع الميداني إذا لم يقدنا إلى هذا الفهم. الجمع الميداني وتحليل مادته المجموعة من أفواه الرواة تعود كما كتبت في خمس مقالات متسلسلة نشرت بصحيفة الأيام في العام 2001م: كتبت "علينا فهم الواقع الثقافي المستند على الجمع والتوثيق الميداني المباشر ثم من بعد ذلك تحليلها التحليل الذي يقودنا إلى الفهم، يتماشى مع توسع دوائر التغيير(4). أولاً جميعنا يعي حقيقة أن الحياة الحديثة والمعاصرة أثرت وتؤثر يوماً بعد يوم على إرث الشعوب فماذا نحن فاعلون تجاه ذلك. الخ. كيف؟ بدأت في الإجابة على هذا والسؤال سابقاً في هذا البحث وهو: تأسيس أقسام لدراسة الموروث الثقافي على مستوى التعليم العام والجامعي وفوق الجامعي وهذا بالطبع يحدث الآن في كثير من جامعاتنا ومراكزنا وهذا فعل محمود وهم مشترك لكل المختصين في هذا المجال. هذا إلى جانب تأسيس مجلة مختصة محكمة في مجال المـــوروث الـثـقـافـي المعاصر، بلاد بعينها قامت بتأسيس أقسام في جامعاتها - أقسام للفولكلور أو الموروث الثقافي أو الثقافة الشعبية أو المأثورات الشعبية، حتى في أوروبا منذ أن صك وليام تومز مصطلح فولكلور في العام 1846م قبله البعض ورفضه البعض الآخر مثل سيقرد إريكسون في السويد عام 1937م حين اقترح استخدام مصطلح الحياة الشعبية وأسس مجلة بهذا الاسم. على كل هذه إشارة لنقاش قد يطول الحديث حوله اختلافاً واتفاقاً ومن المهم الإشارة إليه ولكنه يتعدى حدود بحثنا الحالي. يضاف إلى ذلك الوحدات الإنتاجية التي يوظف فيها حرفيون مختصون كل في مجال حرفته مثل خراطة الخشب، صناعة الفخار، منتجات الألبان، إلى آخره من النشاط البشري في تلك المقاطعة في عرض حي مهيب مدهش وجاذب عامل الجذب السياحي في متحف الموروث الثقافي أو متحف الفولكلور يختلف في صورته المثلى عن أي متحف آخر. من ناحية أخرى يعتبر المطعم الملحق بالمتحف مهماً جداً إذ أنه يمكن أن يقدم للزائر وجبات من الوصفات المحلية للطعام بجانب الوصفات الحديثة الأخرى وهنا نكون قد نشرنا ووثقنا لثقافة الطعام التقليدية كل ما ذكرناه سابقاً يباع ويشترى في حركة عادية مثل سوق وتقدم المعلومة للزائر منسابة سلسة وممتعة وراسخة. كل ذلك يمكن أن يسهم في الدخل القومي وكذلك استيعاب الفاقد التربوي في معاهد التدريب الحرفي ، 1. الموروث الثقافي والسياحة قدم الدكتور شرف الدين الأمين (رحمه الله) في ورقته التي أشرت إليها آنفاً في هذا البحث قدم رؤية مستقبلية للتراث والسياحة وأبان أن السودان يزخر بالكثير من التراث الغني الذي يمكن أن يستغل سياحياً مثل الحرف والصناعات اليدوية في مجال الثقافة المادية ويذهب للقول إلى أن المشغلين في مجال السياحة لم يولوها الاهتمام الكافي ولم يفكروا في طريقة عرضها لتصبح في متناول السائح وليكون التعامل فيها مباشرة بين السائح والمنتج. تخصيص جناح للتراث الشعبي في معرض الخرطوم الدولي: يحتوي على مصنوعات يدوية وعروض فيديو بدلاً عن عرض نماذج لعينات فولكلورية من صور ومصنوعات في أجنحة الأقاليم على أن يشرف على هذا الجناح متخصصون في مجال الفولكلور كمرشدين وضباط سياحة يتولون الشرح الكافي. وفي هذا الإطار أيضاً يمكن تخصيص جناح للفولكلور في المعارض التي يشترك بها السودان خارج البلاد. ويمكن الاستفادة من التجارب الأخرى في هذا المجال بإيفاد مبعوثين لأماكن من الأقطار الاسكندنافية التي عرفت بعنايتها الفائقة في مجال متاحف الفولكلور المفتوحة. وسائل الدعاية السمعية والبصرية: وهي يمكن استعمالها في إطار إبراز دور الفولكلور كعامل جذب سياحي ومن ذلك إصدار الكتيبات ونشرات تعريفية بمختلف جوانب الفلولكلور السوداني يقوم عليها متخصصون في علم الفولكلور ودراسته. كما أنها أقل تكلفة من الناحية المالية. وهي عادة تكون فنادق يؤمها عامة الناس، ليس على غرار الفنادق ذات الخمس نجوم. ثم أن كل الذي جاء في مقترحات د. شرف الدين (رحمه الله) وهو اجتهاد مقدر ومقبول - كل الذي جاء في مقترحاته يمكن أن يضمه تأسيس متحف تراثي قومي أو متاحف تراثية في المناطق المختلفة تقوم على غرار المتحف الذي استشهدت به وهو متحف الفولكلور في ويلز في معرض حديثي عن متحف التراث. ورقة أخرى مهمة قدمها الأستاذ فرح عيسى الباحث في التراث السوداني وأمين أرشيف قسم الفولكلور بمعهد الدراسات الأفريقية والآسيوية - جامعة الخرطوم وهي بعنوان الفولكلور وتنمية السياحة في السودان. واقتبس عن أحد الكتاب قوله: ولكنها عبارة عن صالات لعرض الفولكلور التايلاندي حيث يعرض الفنون والرقصات الشعبية من داخل مسرح أنيق". ويذكر فرح أنه رغم الفترة الطويلة التي مرت بها تأسيس السياحة في السودان - وهي فترة كافية لتأسيس صناعة سياحية تقوم على أسس علمية ودراسات تصل بالعمل السياحي إلى ذروة عطائه الاقتصادي والثقافي ولكن هذا لم يحدث. ويصف فرح قائلاً أننا لا نجد مبرراً واحداً يقنع بهذا التباطؤ في تنشيط قطاع السياحة. قدم بعد ذلك الاستاذ فرح في ورقته مداخل الفولكلور لتنمية السياحة في السودان. نختصرها في الآتي: العادات والتقاليد والمعتقدات فنون الأداء الشعبي الثقافة المادية. والورقة منشورة في كتاب دور الفوكلور في السلام والتنمية والذي قام بتحريره وقمت بنفسي بكتابة المقدمة له وكانت الأوراق ثمرة تعاون بين قسم الفولكلور - معهد الدراسات الأفريقية والآسيوية وشركة سودانيز ساوند صدر الكتاب في 2004م وتقع ورقة الأستاذ فرح بين صفحتي 98 - 110. هذا بالإضافة إلى أنها مراكز لتوثيق التراث بميادينه الأربعة وهي التراث الشفاهي - الثقافة المادية - فنون الأداء - والعادات والتقاليد والممارسات. وهي كذلك مزارات يؤمها السائحون إذا ما أسسناها التأسيس الذي اقترحنا في هذه الورقة وتدر على البلاد خيراً من العملات الأجنبية كذلك أركز على فكرة انشاء فنادق تقوم على استخدام المواد المحلية واستلهام نمط العمارة المحلية. هذا بالإضافة إلى أنها تكون مراكز لدفع حركة البحث العلمي في مجالات التراث المتعددة. الدور الاجتماعي للموروث الثقافي يتأتى عبر تأسيس متاحفه ومراكزه ومعاهده الحرفية. أفرد هنا كلمة عن متاحف الموروث وأهدافها. 2. أهداف وأغراض المتاحف عليه يجب أن يكون العاملون في مجال المتاحف دارسون متخصصون قادرون على تقييم مقتنياتهم وفهمها بمعانيها ومدلولاتها التاريخية والاجتماعية والاقتصادية والسياحية والطبيعية. كذلك يجب على أمناء المتاحف أن تكون لهم قدرات عالية على توصيل المعلومة وفهمها وتفسيرها حسب حاجات الجمهور الذي يخدمه في هذا إشارة إلى الاهتمام بعلم المتاحف Museology وتدريسه كمادة منفصلة مساعدة الموروث الثقافي بالتالي أي محاولة لتخطيط برنامج تدريسي أو تدريبي يجب أن يحتوي على مجموعة من التوازنات بين عنصرين، وبالتالي على العاملين في مجال المتاحف أن يتلقوا تدريباً عالياً في العلوم التي تتبع لها متاحفهم، والعاملون في مجال متاحف الموروث الثقافي التقليدي والآثار عليهم الالمام التام بعلوم الآآثار والتراث . وكذلك قدرات الفني الملم بتقنيات العرض والتوثيق وكذلك بعض قدرات الفيلسوف الذي يعرف لماذا وما هي الفلسفة التي تسند العرض الجمع والمحافظة على مقتنيات المتحف، 3. المتحف ودوره التعليمي والتربوي الوطني تقول نائبة وزير التربية والثقافة الهندي في عام 1994م: "في بيئة متفاعلة في المتحف حيث يجد الزائر المواطن هويته ويتآلف مع معروضات المتحف، كذلك تقول رشيدا أياري دي سوزا مديرة الثقافة في بنين في غرب أفريقيا في مقال لها بعنوان: المتاحف والتربية: مجلة أيكوم 2004م. وقد ظهر في هذه الأماكن بنفس شكله في أزمان مختلفة، أو هو إعادة تعريف للمؤسسة التعليمية الرسمية وطالما هو ليس امتداداً للنظام التعليمي الهرمي الرأسي بل هو نظام أفقي يغطي كل الأعمار والفئات والطبقات من الذكور والإناث في آن واحد. عرفت المتاحف كواحدة من المؤسسات القديمة التي تقدم وتساهم مساهمة فعالة في تعليم الكبار وذلك من خلال المحاضرات العامة والقراءات وتقديم المعلومة عن طريق المقتنيات نفسها وعن طريق الوسائل السمعية والبصرية. وفي كل المتاحف البريطانية التي أعرفها توجد وظيفة لضابط التعليم، إلخ هذه المواءمة مهمة ولكن إذا تعجلنا تحويل التقنيات الحديثة دون تروٍ وإمعان نظر في مستودعاتنا الثقافية المحلية لاستعجال طفرة التنمية وقعنا في هوة جهلنا. وقد عدد المشاركون في الندوة مجموعة أمثلة للاخفاقات التي صاحبت بعض ما سميت مشاريع تنموية. من أهم الأوراق التي تحدثت عن مشاريع الزراعة والنقلة الفجائية من القطاع التقليدي إلى القطاع الحديث مقال لسيد حامد حريز بعنوان وكانت الأوراق كلها مقدمة باللغة الانجليزية عنوانها: كانت السواقي القديمة تؤمّن عيش الناس إذ أن كل ما تحتاجه من أخشاب وروافع فخارية والبقر الذي يديرها والإنسان الذي يقوم على تشغيلها واصلاح إعطابها. تكتب إيمان مهران(9) عن هذه المسألة في مقال لها منشور بمجلة الثقافة الشعبية تنبه الدكتورة إيمان مهران إلى تحرك مهم على المستوى الإقليمي إذ تكتب: بل لأنه مجال ذو بٌعد اقتصادي واجتماعي وثقافي هام لأي أمة تحاول الحفاظ على ملامح هويتها وخصوصيتها الثقافية". الحفاظ على ملامح هويتنا وخصوصيتها الثقافية كما قالت في الاقتباس أعلاه. هذه الثوابت قد تنعكس على منتوجنا الثقافي في أي شكل من الأشكال. الإجابة بالطبع لا. الإجابة طبعاً لا: بل هي ثابتة في مكانها. وهنا أدعو إلى التنمية كنمو مدروس على أسس علمية من أجل تنمية شاملة ومتكاملة ومستدامة على كل الأصعدة - التخطيط - الاقتصاد - الاجتماع.