بعد أن تفقدت رعيتي الصغيرة كعادتي كل يوم، وبينما كنت مُنكبا على الكتابة، كانت زوجي في الوقت نفسه جالسة في مكتبها تُحضر، دروس أولى محاضراتها للموسم الجامعي الجديد. رمقتُها واقفة على مقربة مني وهي ترتجف، وأهُم بالإجابة وصل إلى مسامعنا صوت ابننا ذي الثالثة عشر ربيعا يُنادي مفزوعا: ماما، رفعنا أعيننا إلى السقف. كانت الساعة تُشير إلى الحادية عشر وإحدى عشر دقيقة ليلا. فوجئنا بساكنة الحي التي سبقتنا في الخروج إلى الشارع في منظر غير مسبوق، الكثيرون استقلوا سياراتهم في اتجاه أماكن معلومة أو غير معلومة هربا من الزلزال. تعالت الأصوات بالحمد والثناء على سلامة الجميع، كنا نتوقع أن نراها في كل لحظة تتهاوى أمام أعيننا ونحن عاجزين عن فعل أي شيء. والتي فحواها أن الهزات الارتدادية تكون أخف من الهزة الأولى لم تستطع أن تُقاوم الخوف الذي كان يسكننا، الكل يُحاول الاطمئنان على أهله وأحبابه وذويه. بعد مرور ثلاث أو أربع ساعات بدأ هاجس الخوف يتراجع قليلا، وبدأت أعيننا المتعبة تُغلق تلقائيا من كثرة السهر الممزوج بالخوف والتوجس والترقب. فقفلنا عائدين إلى بيوتنا. في الصالون وكأن لساننا حالنا يقول المُوت مع جـماعة نزاهة. كانت قد وصلتنا في حينه أخبار أولية عن الزلزال، مع ظهور أشعة الشمس الأولى استيقظنا على هول الفاجعة التي حلت ببلدنا العزيز المغرب. وفي الوقت الذي كنا نفترش فيه الأرض مُترقبين هزات ارتدادية. مع العلم أن الهزة لم تحدث أي شيء ذي بال في المدن البعيدة عن بؤرة الزلزال، ظلام دامس يُخيم على المكان، ما حدث في الساعات الأولى التي أعقبت الزلزال كان أشبه بصور “القيامة الآن” في أفلام الرعب. في هذه الأوقات الحرجة كانت القوات المسلحة الملكية، والوقاية المدنية وغيرها من أجهزة الدولة تُسارع الزمان من أجل الوصول إلى موقع الزلزال. وإنما منطقة جبلية وعرة يستحيل على المرء أن يجد لها وصفا مناسبا. تسمرنا كلنا أمام شاشات التلفاز، الصور المأساوية تتهاطل علينا سواء من القنوات الفضائية الوطنية والدولية أو من مختلف وسائل التواصل الاجتماعي. أصبح زلزال “الحوز” الحدث الأبرز في العالم أجمع. زلزال بسبع درجات على سلم ريختر. زلزال كان من القوة بحيث شعر به أغلب سكان المغرب، بل إن أصداءه بلغت الدول المجاورة. وجعل الخبراء جميعهم في حيرة من أمرهم، المتدخلون في عملية الإنقاذ يمتلكون كفاءات عالية، لا أحد يختلف في أن ما يقومون به هو جزء من العمل الموكول إليهم، وباكتسابهم لخبرات كبرى على المستوى الدولي، وبإصرارهم الكبير على الوصول إلى ناجين. كنا نتابع دقيقة بدقيقة ما يحدُث هناك، إلى قصص تُدمي القلب. الملك محمد السادس نصره الله أعطى أوامره لإنجاح عملية الإنقاذ، وصلاة الغائب على ضحايا الزلزال، ووضع خطة للإعمار. وموازاة مع عملية الإنقاذ المستمرة، وغيرها من الأمور الأخرى التي لا يدرك مخاطرها وصعوباتها سوى الموجودين في عين المكان، صفوف طويلة لا حد لها أمام مراكز تحاقن الدم في كل المدن المغربية صغيرها وكبيرها، من المدنيين ورجال السلطة ممن جعلوا التبرع بدمهم أبسط ما يُمكن تقديمه لإخوانهم المغاربة ضحايا هذا الزلزال العنيف، إنه الدم المغربي الذي طالما كان جسرا يربط شمال المغرب بجنوبه و شرقه بغربه في كل الكوارث السابقة، و بعثها على الفور إلى الأماكن المنكوبة. وإيثار الآخر على النفس كنا نعتقد خطأ أن هذه القيم ضاعت في غمرة التشبث بالماديات ومظاهر التحضر الغربية. إنها “تامغربيت” الأصيلة التي رضعوها من حلمة هذه الأرض الطيبة المعطاء، وتتطلع إلى مستقبل أفضل. لا أقول هذا الكلام من منطلق انتمائي إلى هذا البلد العظيم، هذه الرسالة السامية إلى العالم أجمع، هذه صور ستظل خالدة أبد الآبدين في الأذهان. تكررت مثل هذه الصور أو قريب منها في جائحة كوفيد 19 حينما عرف المغرب كيف يُدبر الأزمة، صانعا الأقنعة في وقت قياسي، لم يبالغ الصحفي التونسي سمير الوافي حينما قال في إحدى تدويناته: للمغرب مكانة كبيرة في قلب العالم…يضحك المغرب فيضحك العالم معه…ويبكي المغرب فيبكي العالم معه…تأكد ذلك في كأس العالم حيث كل العالم شجع المغرب. والآن خلال الزلزال يتعاطف كل العالم مع المغرب. غير أن المفاجأة هي التي خلقها المغاربة قاطبة في توادهم، بل تزاحمهم في مد يد العون،