أمّا قبلُ: فور إعلان فوز العُمانية بدرية البدري بـ(جائزة شاعرة الرسول)، ومن ورائهم جاء الذين كانوا لهم تبعًا فامْتَخَطوا أمشاطا من ألسنة حداد سلقوا بها القصيدة وجرّدوها من كل فضيلة. وغيرهم اقتفى أثر ابن الخيّاط في صوره ومعانيه شكلا ورسما، والبعض الآخر ارتقى سُلَّم حسان ابن ثابت وتقلّد سيفه واستعار بيانه وامتطى أفكاره. أمّا بعدُ: ففي هذه الدورة الخامسة جاءت بدرية البدري إلى «كتارا» بقصيدة حداثوية مفتوحة على تأويلات لا متناهية، وثريات منيرة في سماء المديح النبويّ، وكبوة «الإقواء»، وكل ما يصيب القوافي من ابتلاءات لا يُرجى شفاؤها. ولأنّ البدريّة امتلكت ناصية السرد الروائي عبر روايتين واقعيتين هما: «ما وراء الفقد» و«العبور الأخير»، فقد نجحت في حمل هذه الخبرة الأسلوبية إلى قصيدتها «قنديل من الغار»، ودخلت إلى بِنية النص مباشرة متنصلةً من عبءِ «التصاريع» و«الافتتاحيات المطوّلة» التي تستهلك الطاقة الشعريّة المختزنة. وهذا ردّنا على من تحامل على الشاعرة منتقدا قائلا: «لا يوجد مطلع نبوي قديمًا وحديثًا لم يصرع فغياب التصريع لا يليق بنص مديح نبويّ طويل» ولا أدري من أين أتى بهذا الحكم الجائر قولًا وفكرًا. ولتحقيق هذه الغاية العظمى اعتمدت الشاعرة على آليات عديدة في تركيب فسيفساء النصّ فاستعانت بتقنية «المونتاج السينمائي» في تركيب مشاهد السيرة النبوية، ولجأت إلى فن «الكولاج» في تركيب أبنية الصور المتجاورة أفقيًا، والمتوالية رأسيًا من المطلع إلى القفل، من خلال اللقطات المقربة دامجة بين الزمان والمكان متكئة على «التناص غير المباشر» أو ما يُعرف بـ«تناص الخفاء»، ومن أهم «آليات التناص» التي لجأت إليها الشاعرة، متعللة بتقديمها خبر [إنّ] (نصفان) على «إنّ الناسخة واسمها» محتجّة بـ«إن وأخواتها»، والناقدة هنا عرفت شيئًا وغابت عنها ما أورده ابن السّراج في كتابيه «الأصول في النحو» و«شرح كتاب سيبويه» بجواز «الابتداء بالنكرة» «فمتى حصلت الفائدة في الكلام، جازَ الابتداء بالنكرة»؛ أمّا القول إن البدريةَ نافست الرسول صلى الله عليه وسلم على بعض خصائصه، بنسبتها للذات الشاعرة بعض هذه الخصائص في سياق متوالٍ عبر اختيارها ألفاظ مثل: «الوحي، وقولها: «واصعد إلى السدرةِ العُليا بلا حَذَرٍ/ من دافِقِ العشقِ، فنرد بأنه يمكننا القول إن «قنديل من الغار»، نصٌّ حداثوي جاء متدثرًا بخبرة السرد الروائي التي امتلكت ناصيتها الشاعرة وتتداخل فيه الشخصيات ويتمتع بمرجعية تحيل القاريء إلى عالم جديد خارج خيمة اللغة، لقد تجردت البدرية من العوالق الملتبسة والمبهمة والمترسخة في ذاتها التي راكمتها المناهج الدراسية والحكايات الشعبية، وتداخلت كيميائيًا وذابت كليًا في الحقبة التاريخية للسيرة النبوية أثناء كتابة النص والذي نعتقد أنه تمّ إنتاجه على مراحل متعددة وفترات زمنية متباعدة.