وفي هذا الحديثِ يَرْوي التَّابعيُّ يَزيدُ بنُ شَريكٍ أنَّهم كانوا عندَ الصَّحابيِّ حُذَيْفةَ بنِ اليَمانِ رَضيَ اللهُ عنهما، كأنَّه أرادَ الزِّيادةَ على نُصرةِ الصِّحابةِ للنَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، فأَخْبَره حذيفة رَضيَ اللهُ عنه بخَبرِه ليلةِ الأحزابِ، فأخبَرَه أنَّهم كانوا مع رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ وقدْ أصابَتْهم رِيحٌ شديدةٌ، وهو البرد القارس الَّذي يجعل الإنسان يقرقر بأسنانه، جَعَل النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ الجزاءَ على ذلك أنَّ هذا الصَّحابيَّ يُحشَرُ مع النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ يومَ القيامةِ، فكَرَّر النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ عليهم طَلَبَه والجزاءَ عليه، وإنْ قُتِل قُتِل شَهيدًا، وفي كلِّ مرَّةٍ يَدْعوهم فيها النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ لم يُجِبْه أحدٌ حينَ دَعاهم، وإلَّا فإنَّهم كانوا أسرَعَ النَّاسِ إجابةً لرَسول اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، وأكثَرَهم شَوقًا إلى الاستشهادِ في سَبيلِ اللهِ، ولم يَكُونوا لِيَتخلَّفوا عمَّا يَدْعوهم إليه صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ بهذه البِشارةِ العظيمةِ ثَلاثَ مرَّاتٍ، بما أدَّاهم إلى حالِ الاضطرارِ الشَّديدِ. فقال صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ: «قُم يا حُذيفةُ، فَأْتِنا بِخبرِ القومِ» فوَقعَ اختيارُ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ على حُذَيْفَةَ رَضيَ اللهُ عنه، ولذلك قال حُذَيفةُ رَضيَ اللهُ عنه: «فلم أَجِد بُدًّا -إذ دَعاني باسْمي- أنْ أقومَ» إلى المهمَّةَ الَّتي ذَكَرها النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، ثُمَّ قال النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ: «اذهبْ فَأْتِني بِخبرِ القومِ، يُريدُ النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ أنْ يَذهَبَ إليهم ويَدخُلَ فيهم دونَ أنْ يَشعُروا به، فيَرتَدَّ الضَّررُ على النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ وأصحابِه، فلمَّا ولَّى حُذَيْفةُ رَضيَ اللهُ عنه، وذَهبَ مِن عندِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ كأنَّه يَمْشي في «حمَّامٍ» الحمَّامُ مِن الحميمِ، بل عَافاهُ اللهُ منه بِبركةِ إِجابتِه لِلنَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ وذَهابِه فيما وجَّهَه له، ودُعائِه صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ له حتَّى أَتاهُم حُذَيْفَةُ رَضيَ اللهُ عنه، فَرأى أبا سفيانَ بنَ حَربٍ قائدَ المشركينَ حِينئذٍ «يَصْلِي» بفتْحِ الياءِ وتَخفيفِ اللَّامِ، أي: يُدْفِئُ ظَهْرَه بِالنَّارِ ويُقرِّبُه منه، فأرادَ أنْ يَرْمِيَه على أبي سفيانَ؛ ورجَعَ إلى النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ وأَخبَرَه بِخبرِ القومِ، ولمَّا أنْ فَرَغ ممَّا أمَرَه به النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، فَغطَّاه صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ بما بَقِيَ مِن «عَباءَةٍ» كان يَلبَسُها، وفي الحديثِ: فضْلُ حُذَيْفَةَ بنِ اليمانِ رَضيَ اللهُ عنه، وتَشريفُه بلُبسِ عَباءةِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ. وفيه: تَواضُعُ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ وحُسْنُ نَظرِه وفِراسَتِه. حيثُ لم يُصِبْ حُذيفةَ مِن القرِّ وبَرْدِ تلك الرِّيح شَيءٌ ببركةِ إجابةِ حُذيفةَ للنبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ أو دُعاءِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ له،