نقدم في هذا البحث وجـهـة نـظـر مـفـادهـا أنالرحلة قد ساعدت على اكتشاف موطن الإنسـان، كما أدت بهذا الإنسان أن يدرك وأن الـبـشـر قـد سـلـكـوا مناحي مختلفة، وتعددت ألسنتهم إلى جانب تـنـوع طرائق حياتهم.لقد كان بـين الـرحـالـة رجـال عـلـم وديـن،بينهم أيضا طوافـون مـن هـواة الـسـفـر والـتـرحـال،كشف النقاب عن المجهول من الأرض والناس.رأينا أن يتضمن الفصل الأول إشارة لبعض الرحالةوذلك على سبيل المثال لا الحصر.وقد يرى البعض أن من بين من ذكرت أسماؤهم من الرحالة الأوروبيين مالا تستحق رحلاتهم الذكر،بل يجب أن تطمس أعمالهم و يبطل التنويه بها فيالأدبيات العربية الإسلامية «لأن كشوفهم الجغرافيةلم تكن سوى فتوح استعمارية، وأن أعمالهم كـانـت بعيدة كل البعد عن روح الكشف والعلـم ،بـل كـانـت نـــواة الاســـتـــعـــمـــار الاقـــتـــصـــادي والـــســـيــــاســــينحن نسعى في ذكر هذه الأسماء إلى إبراز صلة بغض النظر عن الدوافع والنتائج،لأن اهتمامنا هنا ليس تقييم الرحلات قدر التأريخولعلنا نخطئ كثيرا إذا اقتصرنـا فـي الأدبـيـات العربية،والمناهج التدريسية على ما يراه البعض صـالحـا مـن الأعـمـال،وربما تجدر الإشارة هنا إلى أن عددا كبيرا من الرحالة الأوروبيين قد أسهموا إسهاما إيجابيا بتقديم معلومات مفـيـدة ومـعـرفـة بـالـشـعـوب غـيـر الأوروبية لم تكن متوفرة من قبل. وقد قرأنا في تقديم الشيخ حمد الجاسر لترجمة كتاب «اكتشاف جزيرة العرب»، للكاتبة الفرنسية جـاكـلـين بـيـريـن، برازه للنتائج الإيجابية لعدد من الرحلات الأوروبية في الجزيرة العـربـيـة.يقول في هذا الصدد: «وقد لا يحتاج القـارىءإلـى الـسـيـر مـعـهـا-فـي ثـنـايـا والـوصـول إلـى حـل رمـوزالأبجدية الحميرية (خط المسند) حلا أضاف معلومات جديدة عـن حـلـقـة كانت مجهولة لدى العرب أنفسهم، من تاريخ ذلك الجزء من بلادهم، فبرزت بفضل معرفة قراءة «المسند» في آثاره، من محافذ وسدود و دول تعـاقـبـت الحكم فيه، كالدولة «المعنية» و«السبئية» و «القتبانية»،وأيا كانت دوافع الرحالة المعلنة منهـا والخـفـيـة،الرحالة-ولو بدرجات متفاوتة-بدقة الملاحظة والوصف والتقصي في تسجيل مشاهداتهم بأمانة وصدق، كما حرص معظمهم على التفرقة بين المشاهدةوالرواية عند تسجيل معلوماتهم.قواعد أساسية من منهجية البحث الحقلـي فـي الـدراسـات الإثـنـوجـرافـيـة الأمر الذي يجعلنا نعالج هذا الموضوع في الفصل الثانـي بالنظر في أعمال بعض الـرحـالـة-الـقـدامـى مـنـهـم والمحـدثـين-بـاعـتـبـارهـمإثنوجرافيين وإن كانوا غير متخصصين أو مدربين أساسـا هـذا الـنـوع مـن إن بعض الرحالة الذين نتناول أعمالـهـم فـيهذا الكتاب مثل المقدسي والبيروني لم يكن هدفهم الرئيس الرحلة في حدذاتها قدر اهتمامهم بوضع مؤلف في تقويم الـبـلـدان، أو وصف حضارة غير إسلامية كما جاء في دراسة البيروني للثقافة الهندية. دليـلا بـارزا على قيمة رحلاتهم في تزويدهم مباشرة بالمعلومات المستمدة من الملاحظةالمباشرة والمعاينة الشخصية عن الأحوال السياسة والاجتماعية والثقافيةللبلدان التي زاروها أو أقاموا فيها، وهذا يشكل جوهر العمل الإثنوجرافي.هذا ولا يقتصر الأمر على كون هؤلاء الرحالة إثنوجرافيين،أو نجد بعضهم على الأقل-قد برزوا أيضا كأدباء، وأن مـادة رحـلاتـهـم قـد هذا وقد درج الكتاب العرب على استخدام عبارة «أدب الرحلات» للإشارة إلى كتابات الرحالة المسلمين وغيرهم التي يصفون والتي يذكرون فيها أيضا أحداث تجوالهم،وما قد يصاحب ذلك من بلورة لانطباعات شخصية، ونظرا لارتقاء الوصف في كثير منأعمال الرحالة وبلوغه حدا كبيرا من الدقة، علاوة على عـمـلـيـة الأسـلـوبأدخلت أدبيات الرحلات ضمـن فـنـون الأدب العربي، وأصبحت قراءة أدب الرحلات متـعـة ذهـنـيـة كـبـرى. ومـع أن مـادة الرحلات-كما يرى الكاتب حسني حسين-قد لا تـرتـقـي إلـى مـسـتـوى الـفـن القائم بذاته كفن القصة،أو المقالة الأدبية مثلا، إلا أنه في أدب الرحلات تجتمع أساليب هذه الفنون وموضوعاتها كلها دون أن تضبطه معاييرها،ومع أننا نركز في هذا الكتاب على التحليل الإثنوجرافي لكتابات الرحالة، فإننا نرى أن نشير في هذا التمهيد إلى أن مادة الرحلة كثـيـرا مـا تحـتـوي على العناصر الأدبية جنبا إلى جنب مع المعلومات الإثنوجرافية. ولنكتف هنا بالإشارة إلى دراسة عثمان موافي الـذي تـنـاول فـيـهـا ورأى أن هذا الرحالة قد نقل لنا صورا حية وصادقة عنالمدن والمجتمعات الإسلامـيـة فـي المـشـرق الـعـربـي، وفي فترة من أدق وأحرج الفترات، التي مر بهـا المـشـرق الـعـربـي وهي فترة الجهاد المقدس ضد الصليبيين بقيادة القائد صلاح كان وصف ابن جبير وتـصـويـره الاجـتـمـاعـي يـصـدران عـن عاطفة قوية جياشة نحو ما يصف، وما يصور سواء أكانت هـذه الـعـاطـفـة في وصفه لبعض المدن التي استردها المسلمون من الصليبيين . ولا شك أن عاطفته نحـو المـدن، الـتـي كـانـت بأيدي المسلمين، تخـتـلـف عـن عـاطـفـتـه نـحـو المدن الـتـي بـقـيـت فـي حـوزة الأولـى عـاطـفـة حـب وإعـجـاب، أمـا الـثـانـيـة فـعـاطـفـة بـغـض وكراهية تبرز القيمة المنهجية ،فنجد-كما يشير بذلك حسيننصار في دراسته للرحلة نفسها-أن ابن جبير كـان يـعـنـى فـي وصـف المـدن وتضم المرافق في خلدة: الأسوار، والمـواقـع الإسـلامـيـة، والمـعـابـد والـكـنـائـس والآثـار غـيـر وتضم الأرياض الأحياء والضـواحـي.جبير كل مدينة وفق هذه العناصر إلا أنه تعرض لبعضها تارة وأهمل البعض ومن وجهة النظر الإثنوجرافية فإنها في مجملها تشكل إطـارا دقيقا لوصف المدن والبلدان هذا،والمنهج، وإنما برز أيضا العنصر الأدبي متمثلا فـي جـمـال الـلـفـظ وحـسـن«جنة المشرق، ومطلع حسنه المؤنق المشرق،التي استقريناها، وعروس المدن التي اجتليناها،وتجلت في حلل سندسية من البساتين ،المكين ،وتزينت في منصتها أجـمـل تـزيـين ،وماء سلسبيل،النفوس نسيمها العليل،معرس للحسن ومقيل، حـتـى اشـتـاقـت إلـىوشراب ;الكمامة للزهر، فـكـلموضع لحظته بجهاتها الأربع نضرته اليانعة قيد النظر، ولله صدق القائلين عنها: إن كانت الجنة في الأرض فدمشق لا شك فيها، وإن كانت في السماء فهي بحيث أسامتها و تحاذيها» وهـي أيـضـا مـخـالـطـة لـلـنـاسوالأقوام،ولرصد بعض جوانب حياة الناس اليوميـة فـي مـجـتـمـع مـعـين خـلال فـتـرة لذا كان للرحلات قيمة تعليمية من حيث إنها أكثر المدارسو إثراء لفكره وتأملاته عن نفسه وعن الآخرين.قديمة قدم الإنسان ذاته إذ عرفها منذ العصور الغابرة حتى وقتنا هذا ، ومـعذلك فإن كتابات الرحالة،تصور إلى حد كبير بعض ملامح حضارة العـصـر الـذي عـاشـوا فـيـه ،وأحوال الشعوبالتي اختلطوا بها ، سواء كانت الرحلة فعليه أو من نسج قصص الخيال مثللقد قرأنا عبارة للفيلسوف الإنجليزي فرانسيس بيكون كان قد ذكرها وفيها يقول: «إن السفر تعليم للصغير، وخبرة» أن السفر مرآة الأعاجيب،ونجده يستطرد القول في تعليقـه عـلـى كـتـاب رفـاعـة رافـع التجـارب» والفاضل الذكي اللبيب ما شاهده من عجائب ما يحرص العاقل على الأسفار ،والنـقـل