تحليل قصيدة ( كلمات " سبارتاكوس" الأخيرة ) للشاعر أمل دنقل المقدمة : وفيها نتناول ملابسات ظهور الخطاب الشعري العربي المعاصر تاريخيا واجتماعيا وسياسيا وثقافيا ، والتي أنتجت خطاب تكسير البنية . إنه الشاعر أمل دنقل ؛ ولد في 23 يونيو 1940 بصعيد مصر ، انتقل الى القاهرة بعد إتمامه الطور الثانوي من تعليمه ؛ ليلتحق بقسم اللغة العربية بكلية الآداب. كانت الكلمة الشعرية سلاحه الأدبي في مواجهته رداءة الظرف التاريخي الذي عرف نكبة 1948 وهزيمة حزيران 1967 . الى أن داهمه عدو لا تنفع معه الكلمات / داء السرطان الفتاك، فلم يمهله لتجاوز سن 43 من العمر ، فكان موته فقدان صوت يتميز بشهادته على عهد التردي والإحباط . من أبرز ما خلف للقراء ديوان " البكاء بين يدي زرقاء اليمامة " ومنه أخذت القصيدة التي بين أيدينا. العرض : وخلاله نلاحظ على بنية القصيدة أنها خرقت النظام الشعري التقليدي ( العمودي ) بخروجها وتكسيرها للبنية النظمية النمطية . حيث لا تقيد بنظام الشطرين المتناظرين ولا بروي موحد أو قافية كذلك . أما العنوان / عتبة النص فنجده يتكون ـ تركيبيا ـ من المبتدأ وهو عبارة عن مضاف ومضاف إليه ( كلمات سبارتاكوس ) والخبر جاء صفة ( الأخيرة ) ، ـ أما دلاليا ـ فإن لفظة ( كلمات ) أتت لتدل على معنى مجازي يتجاوز دلالة المفردات المتناثرة بشكل غير ذي سياق ؛ بل لها دلالة أعمق وأدق لما يتعلق السياق بصفة الإخبار ( الأخيرة ) وخصوصا إذا ارتبط الموقف بكلمات أخيرة لإنسان / شخص سبارتاكوس . وهي الدلالة التي تضعنا أمام شبه ( وصية ) يتركها هذا الإنسان الذي أشرف على النهاية / الموت ، ويتأكد لنا مدلول الوصية من خلال صلب القصيدة وتحديدا في السطرين الشعريين ( 8 و 9) عندما يقول الشاعر : " لكنني أوصيك . إن تشأ شنق الجميع / أن ترحم الشجر " . أما من حيث مضمون النص ومعجمه فهناك مؤشرات لفظية تمكننا من تقسيم القصيدة إلى ثلاثة مقاطع ؛ قد تسهل علينا فهم الخطاب العام للقصيدة وذلك كالآتي : أ - ففي المقطع الأول ما بين السطرين ( 1 و 6 ) يعكس الشاعر حالة مناداة صادرة عن صاحب الوصية ، وهو نداء موجه إلى أناس يعتبرهم إخوة له بحكم انتمائهم إلى صفه / صف منحني الرؤوس ( العبيد ) . وذلك وسط ميدان / ساحة من يتحكم في مصيرهم جميعا ، يناديهم ليوجه إليهم دعوته الأخيرة كي يرفعوا هاماتهم ويفخروا بكونهم يمثلون فريقهم / صف الراغبين في التحرر؛ حتى يواجهوا المصير بشجاعة وكرامة . ويستشهد بتجربة ( سيزيف ) الذي كان شخصا صلبا عنيدا في مواجهة القدر/ قدر العذابات التي كانت مقترنة بحمل الصخرة إلى قمة الجبل كما تخبر الأسطورة بذلك . ب ـ ثم نجد الشاعر في المقطع الثاني ما بين السطرين ( 7 و 18 ) يكرر النداء لكنه ـ هذه المرة ـ موجه للمعتدي وليس للمعتدى عليه / للجلاد لا للضحية ، وذلك بتوجيهه خطابا إنسانيا يكشف تسلط الطاغية وعدوانيته . ويدعوه لاحترام تلك الوصية الواردة بين السطرين ( 8 و 9 ) . فالشاعر على لسان سبارتاكوس يدعو جلاده إلى الاستجابة لمطلبه الإنساني المتحضر ؛ لعله يثنيه عن إعدام عناصر الحياة المتمثلة في ( الشجر والجذوع والظلال ) ، ويحذر القاتل الجاني بأنه سوف يحتاج يوما ما إلى كل تلك العناصر عندما تنقلب الأحوال فيصبح من الباحثين عن حماية أو مأوى فلا يجدهما في قفار البيد ، ما دامت الأشجار والظلال قد أعدمت بأمر منه لتنصب مشانقا. وهكذا يضع الشاعر أمام هذا الطاغية صورة لردعه عساه يتراجع عن بطشه بالأبرياء . يقوم الشاعر بكل ذلك وهو يحاصر هذا المعتدي / القاتل بصفته السلطوية ؛ تلك الصفة المناقضة لكل ما هو إنساني متميز بالدفء العاطفي عندما يناديه " يا قيصر الصقيع " لفقدانه المشاعر النبيلة اتجاه أخيه الإنسان ، وتنجلي هذه الميزة السلطوية في النص من خلال الإصرار على تكرارها ( ثلاث مرات ) . ت ـ وفي المقطع الثالث والأخير ( ما بين السطرين 19 و 22 ) نجد شخص الضحية / سبارتاكوس يعود لمناداة رفاق الصف / إخوته في المعاناة والقهر ؛ ليكشف أحوالهم المأساوية من خلال مشهد مأساوي يرصد وضعهم المهين . ثم في الختام يعلن رفضه تلك النزعة الانتظارية الواهمة التي يتبناها البعض وهو ينشد تغيير وضعية الاستبداد . فنسمع سبارتاكوس ينذر أتباعه باستمرارية العبودية ما دامت الأحلام لا تجدي نفعا ؛ وما دام زوال المعتدي أو موته لن يأتي إلا بمعتد جديد . وهكذا يتضح الطابع التحريضي لوصية سبارتاكوس / للخطاب الشعري لأمل دنقل ، النار ، الرحمة ، الجوع ، الظمأ ، الحلم ، الإنحناء وهناك حقل دال على الزمان ( المساء ، الصيف ، الربيع ) . غير أن الملاحظ على المعجم الدال على الذات / ذات الضحية نجده مهيمنا على النص بكامله ( على لسان صاحب الوصية ) وخلاله نجد الشاعر يتوارى خلف قناع ذلك الزعيم التاريخي (سبارتاكوس ) ، وهكذا جاء الخطاب الشعري للنص متأرجحا ما بين الرغبة في التأثير بقصد إشراك المتلقي في غمرة الشعور الإنساني بذلك الوضع المأساوي ؛ وبين السعي لإقناع نفس المتلقي بفداحة الموقف العدواني من طرف المستبد / القاتل . وقد كان الشاعر يسلك ـ إلى جانب التأثير والإقناع ـ مسلك الترغيب والترهيب كما في الوحدة النظمية الدلالية التالية ( الأسطر 12 ، 13 ، 14 ، 15 ، 16 ، 17 ) . ومما يضفي لمسة تراثية على النص توظيف الشاعر بعض المحسنات اللفظية مثل ( الربيع ـ الصيف / النار ـ الصقيع / الظلال ـ الهجير ) ولكن ذلك التوظيف جاء في سياق منظومة شعرية وليس بصيغة البديع التقليدي . فمن خلال ما يعرف بأسلوب المقابلة نجد الربيع يقابله الشجر والجذوع والظلال ، ونجد الصيف في مقابل الصحراء والرمال والهجير والظمأ ( لتتجلى ثنائية النعيم والشقاء ) فهو يضع الجاني بين خيارين. وكأن القارئ (ة) أمام أحد مشاهد أفلام التاريخ القديم والتي تسجل فشل حركة تمرد ما أو ثورة لم تلبث أن انتهت بهزيمة المتمردين الساخطين . لقد أبدع الشاعر في هذا التصوير دونما حاجة إلى بعض التقنيات البلاغية التقليدية ( كالتشبيه مثلا ) . ولنقرأ معا قول أمل دنقل في المقطع الأول وهو يصور مشهد زعيم الثوار spartacus مصلوبا / بؤرة اللحظات المؤثرة في النص الى جانب نصب الجذوع مشانق ، حيث لم يستطع أتباعه من العبيد رفع رؤوسهم ليروه مصلوبا بعدما تجرأ على حمل السلاح في وجه سادات المجتمع الروماني وعلى رأسهم القيصر . وهناك مشهد آخر في الأسطر ( 14 ، 15 ، 16 ، 17 ) ؛ والذي يصور فيه دنقل حالة الطاغية وهو يتيه في البيداء بدون مأوى أو ملجأ يحتمي به من قساوة القيظ ، فمثلا نجد في السطر الأول التقطيع الآتي " يا إخوتل / لذين يع / برون فل / ميدان مط / رقين من / " . وإلى جانب الإيقاع الخارجي نجد تنوعا آخر في الإيقاع الداخلي ؛ ونلاحظ ذلك بخصوص الروي ( ما بين النون والياء والهاء والكاف والعين والراء واللام والدال ) ، وهو ما يضعنا أمام تنوع آخر يتعلق باختلاف القوافي ، فهناك القافية المركبة كما هو الحال بين الأسطر ( 8 ، 11 ، 14 / 13 ، 12 ، 13 / 19 ، 20 / 21 ، 2 ، 3 / 7 ، 8 ، 9 ) . ومن مظاهر الإيقاع الداخلي كذلك ؛ تكرار بعض الحروف التي تشكل الأرواء ، وكذا تكرار بعض الألفاظ ذات الميزان الصرفي المتماثل مثل ( مطرقين ، الضلوع / الربيع ، الصقيع / الظلال ، الرمال / سعيد ، جديد ) وهو ما يعرف في البلاغة التقليدية بالسجع . العام ، أما الموقف الفكري من خلال التيمات المهيمنة في النص ؛ فيتجلى في التعبير عن إرادة التحرر باعتماد خطاب التحدي ، رغم أن التيمتين الملحوظتين في النص هما الانكسار / الخضوع ( مطرقين ، منحدرين ، في انحناء ) و القهر / الاستبداد ( الموت ، الفناء ، القتل ) . لكن موقف التمرد والتحدي والكبرياء يبدو من خلال ( لاتخجلوا / ولترفعوا عيونكم / رفعتم رؤوسكم مرة / لاتحلموا ) . وهكذا يمكن إدراك الرؤية الشعرية التي يمكن رصدها من خلال مواقف الشاعر ؛ وذلك عبر فهم الرسالة الإبداعية التي تعكس النظرة الواقعية للصراع بين العبيد والأسياد والتي لم يعد صاحبها يقتنع بالأماني الحالمة لحسم ذلك الصراع. · الخاتمة :