وهنا تكمن المهمة الصعبة الملقاة على عاتق الجمهور. ثم يأتي بعد ذلك المخرج الذي يعد مسرحة هذا النص, وبما أن العرض المسرحي " ساحة تباينات لا بيانات, فإن المتفرج يحاول في زمن قياسي التركيب بين مختلف هذه العناصر التعبيرية ومطاردة المعاني. ومن الصعب جدا على المتفرج العادي أن يرى ويسمع وينظر إلى الشخوص ويتذكر جميع العلامات وكل الحركات في مرة واحدة. وهذا يعني أن " إعادة سميأة العرض تتطلب من المتفرج بناء معنى لكل علامة يتلقاها. كما انه يعود إلى المعنى المتضمن داخل الفكرة بعد العمل التحليلي للفرجة. ما دام كل تحليل يتطلب إعادة تجميع العلامات وبناء المجموعات. كما أن هناك علاقة جدلية ومرجعية بين العالم الخارجي –عالم التجربة والثقافة- والعالم المفترض المحدود داخل الفضاء المسرحي. فإن أوبر سفيلد تؤكد على شتى أنواع المتع التي يجنيها المتفرج من خلال متابعته للعروض المسرحية. فإنه بالنظر إلى كون العرض المسرحي تكثيفا لمختلف أنواع العلامات و بناء على كون العلامة المسرحية ذات طبيعة معقدة, وتتراوح بين الرمز و الكلمة و الأيقونة، و صار المسرح بالنسبة إليه فنا يوميا و مألوفا و ليس فنا طارئا و دخيلا على تربته الثقافية. ذلك أن رواد المسارح التجريبية والطليعية أحدثوا ثورة فنية زعزعت كل المفاهيم المسرحية التقليدية وأسسوا مسارح متمردة على الشعرية المسرحية الأرسطية. وتوزعت تصوراتهم بين الاندماج الكلي أو الجزئي للمتفرج, وبين عدم اندماجه أو احتفاظه بالمسافة اللازمة عن مجريات العرض ليتمكن من غربلة ونقد ما يقدم إليه. هو أن هذه المسارح اهتمت بشكل كبير بالجمهور باعتباره أحد الأطراف الأساسية المكونة لعملية التمسرح, وأولته مكانة مرموقة ان على مستوى التنظير أو على مستوى الممارسة. حيث انصب الاهتمام بشكل كبير على العين والصورة والجسد, ولم تعد للغة الحوارية الكلامية نفس الأهمية التي كانت تكتسيها مع المسارح الكلاسيكية. لهذا صار لزاما على المتفرج أن يطور إمكانياته وثقافته حتى تساير التطور النوعي الذي تعرفه المسارح التجريبية. وإلا فإن التواصل سيكون صعبا بين المرسلين والمتلقين. كما أنه حدد حتى الآثار النفسية والعقلية والجسدية التي تزامن أو تعقب عملية تلقي الفرجة. Jarry أعلن أرطو أن " المتفرج يذهب إلى المسرح من الآن فصاعدا وكأنه يقصد جراحا أو طبيب أسنان في نفس الحالة الفكرية. كونه يركز على أن المسرح ليس مكانا للتسلية وتمضية الوقت, بل هو قاعة كبرى للعمليات الجراحية التي تتم على مستويات متباينة ومختلفة, فالمتفرج إن لم يهتز ويتزعزع ويغلف بالحدث الدرامي نفسه, والدخول في المناطق السديمية لأنه يقترح عليه مسرحا مخالفا للمسارح السيكولوجية المبنية على الحوار الفارغ والكلام المجاني. ويقترح التعامل مع المتفرج مثل الثعابين التي تتأثر بالموسيقى وتنفعل وتتجاوب معها, لهذا فان المتفرج في مسرح القسوة يكون في الوسط في حين أن العرض يحيط به ". إن الترتيب الجديد للفضاء الذي يقترحه أرطو يخلق نوعا من الاتحاد و الالتحام بين الممثل والمتفرج حيث يتم هدم كل الحدود. وبهذا يصبح الجسد محور صنع الفرجة وتلقيها في نفس الآن. ذلك أن الشكل الدائري للفضاء الذي تعرض فيه الفرجة يجعل الممثلين يحيطون بالمتفرجين من زوايا مختلفة من القاعة. وهذا ما سيسهل عملية الاتصال والاندماج بين المرسلين والمتلقين " ويصبح المسرح إذن احتفالا جماعيا يشترك فيه الممثل والمتفرج بالتساوي ". يسعى مسرح القسوة إلى فرض نفسه كحدث وحيد عبر قوته ". فإن هناك من شبه الأثر الذي تخلفه فرجات مسرح القسوة بالتطهير الأرسطي, غير أن هناك اختلافا كبيرا بين هذا التطهير والتطهير الآرطي, لكن التطهير يعني ببساطة بالنسبة إليه الوعي بالقوى التي نحس بها جزئيا, بحيث لا تترتب عنها لا لذة ولا متعة, وهذا يعني أن مسرح القسوة يدعو إلى إعادة تشكيل الآفاق الإتتظارية للجمهور الذي تعود على استهلاك ما تقذف به المسارح الكلاسيكية المبتذلة. المسرح الفقير : المتفرج أساس التمسرح. Grotowsky أحد عمالقة التجريب المسرحي الذين عملوا على خلخلة الثوابت المسرحية الموروثة. وقد فطن بفضل ثقافته الواسعة والمتنوعة إلى إعادة النظر في مفهوم المسرح ومكانته ووظيفته. وكانت النتيجة التي تمخضت عنها أبحاثه هي ولادة ما سماه بالمسرح الفقير Théâtre Pauvre الذي يرتكز بشكل أساسي على الممثل دون أن يغفل الجمهور كذلك. أما باقي المكونات المسرحية الأخرى فيمكن الاستغناء عنها بما في ذلك النص المسرحي و الأدوات السينوغرافية. ذلك أن " قبول فقر المسرح و تعريته من كل شيء يعيده إلى أصوله و منابعه الأولى ". فإن السبيل إلى بلوغ هذا المرمى في نظر غروتوفسكي هو إفقار المسرح من كل المؤثثات و الديكورات والمكملات التي أعطته وجها غير وجهه الحقيقي. و التركيز فقط على العلاقة الجدلية بين الممثل والمتفرج في تحقيق التمسرح. كما يتمتع المتفرج من ناحية أخرى بهذا الألم الذي يتلقاه لأنه يعني بالنسبة إليه اكتشاف القوى العميقة و تحررا من كل ما يمكن أن يخنقه". و قد فرضت جمالية المسرح الفقير فضاءا مسرحيا مغايرا للعلبة الإيطالية. و من أجل الدفع بالمتفرج إلى الاندماج التام في الأحداث ومشاركته الوجدانية للمثلين, يقول غروتوفسكي : " لهذا يجب القضاء على البعد بين الممثلين والجمهور بحذف المنصة وإزالة كل الحدود . دع أعنف منظر يحدث وجها لوجه المشاهد على بعد ذراع من الممثل, ولعل وجود الممثلين إلى جانب المتفرجين هو ما سيخلق ذلك الانصهار والالتحام الذي سيساهم بالضرورة في طقوسية العرض وإكسابه طابع الافتتان و السحر. ويذهب بيتر بروك Peter Broock إلى أن تقديم غروتوفسكي لعروضه أمام ثلاثين مشاهدا فقط هو اختيار مقصود " فهو مقتنع أن المشاكل التي يواجهها الممثل أصعب من أن تسمح بالتفكير في جمهور أكثر عددا ". و عندما يتحول المتفرج من عنصر منفعل إلى عنصر فاعل، يهمنا المشاهد الذي لديه احتياجات روحية أصيلة و الذي يريد تحليل نفسه عن طريق المجابهة مع عرض مسرحي". ووعيه بأهمية المسرح في تطهير الروح وإكسابها طاقة حيوية جديدة. لأن من شأن ذلك أيضا إثارة الانتباه إلى العلاقة الجدلية بينه و بين الروح لخلق توازن و تكافؤ على كافة المستويات.